1 - تتمة التعليق على قوله في شرح الطحاوية : " ... قوله: " والحوض - الذي أكرمه الله تعالى به غياثا لأمته - حق " . الأحاديث الواردة في ذكر الحوض تبلغ حد التواتر، رواها من الصحابة بضع وثلاثون صحابيا، ولقد استقصى طرقها شيخنا الشيخ عماد الدين ابن كثير، تغمده الله برحمته، في آخر تاريخه الكبير، المسمى ب" البداية والنهاية ". فمنها: ما رواه البخاري رحمه الله تعالى، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن قدر حوضي كما بين أيلة إلى صنعاء من اليمن، وإن فيه من الأباريق كعدد نجوم السماء ). وعنه أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ليردن علي ناس من أصحابي، حتى إذا عرفتهم اختلجوا دوني، فأقول: أصيحابي، فيقول: لا تدري ما أحدثوا بعدك ) . رواه مسلم. وروى الإمام أحمد عن أنس بن مالك، قال: ( أغفى رسول الله صلى الله عليه وسلم إغفاة، فرفع رأسه مبتسما، إما قال لهم، وإما قالوا له: لم ضحكت ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه أنزلت علي آنفا سورة، فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم (( إنا أعطيناك الكوثر}(1)، حتى ختمها، ثم قال لهم: هل تدرون ما الكوثر ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هو نهر أعطانيه ربي عز وجل في الجنة، عليه خير كثير، ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد الكواكب، يختلج العبد منهم، فأقول: يا رب إنه من أمتي، فيقال لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ) . ورواه مسلم، ولفظه: ( هو نهر وعدنيه ربي، عليه خير كثير، هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة ) ، والباقي مثله. ومعنى ذلك أنه يشخب فيه ميزابان من ذلك الكوثر إلى الحوض، والحوض في العرصات قبل الصراط، لأنه يختلج عنه، ويمنع منه أقوام قد ارتدوا على أعقابهم، ومثل هؤلاء لا يجاوزون الصراط. وروى البخاري ومسلم عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( أنا فرطكم على الحوض ) . والفرط: الذي يسبق إلى الماء. وروى البخاري عن سهل بن سعد الأنصاري رضي الله عنه، قال: ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني فرطكم على الحوض، من مر علي شرب، ومن شرب لم يظمأ أبدا، ليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفونني، ثم يحال بيني وبينهم. قال أبو حازم: فسمعني النعمان بن أبي عياش وأنا أحدثهم هذا فقال: هكذا سمعت من سهل ؟ فقلت: نعم. فقال: أشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته وهو يزيد: فأقول: إنهم من أمتي فقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فقال: سحقا سحقا لمن غير بعدي». سحقا: أي بعدا. والذي يتلخص من الأحاديث الواردة في صفة الحوض: أنه حوض عظيم، ومورد كريم، يمد من شراب الجنة، من نهر الكوثر، الذي هو أشد بياضا من اللبن، وأبرد من الثلج، وأحلى من العسل، وأطيب ريحا من المسك، وهو في غاية الاتساع، عرضه وطوله سواء، كل زاوية من زواياه مسيرة شهر. وفي بعض الأحاديث: أنه كلما شرب منه وهو في زيادة واتساع، وأنه ينبت في حال من المسك والرضراض من اللؤلؤ قضبان الذهب، ويثمر ألوان الجواهر، فسبحان الخالق الذي لا يعجزه شيء. وقد ورد في أحاديث: «إن لكل نبي حوضا، وإن حوض نبينا صلى الله عليه وسلم أعظمها وأحلاها وأكثرها واردا». جعلنا الله منهم بفضله وكرمه. قال العلامة أبو عبد الله القرطبي رحمه الله تعالى في " التذكرة " : واختلف في الميزان والحوض: أيهما يكون قبل الآخر ؟ فقيل: الميزان، وقيل: الحوض. قال أبو الحسن القابسي: والصحيح أن الحوض قبل. قال القرطبي: والمعنى يقتضيه، فإن الناس يخرجون عطاشا من قبورهم، كما تقدم فيقدم قبل الميزان والصراط. قال أبو حامد الغزالي رحمه الله، في كتاب ((كشف علم الآخرة)): حكى بعض السلف من أهل التصنيف، أن الحوض يورد بعد الصراط، وهو غلط من قائله. قال القرطبي: هو كما قال، ثم قال القرطبي: ولا يخطر ببالك أنه في هذه الأرض، بل في الأرض المبدلة، أرض بيضاء كالفضة، لم يسفك فيها دم، ولم يظلم على ظهرها أحد قط، تظهر لنزول الجبار جل جلاله لفصل القضاء. انتهى. فقاتل الله المنكرين لوجود الحوض، وأخلق بهم أن يحال بينهم وبين وروده يوم العطش الأكبر... " . أستمع حفظ
2 - تتمة التعليق على ما تقدم قراءته من الشرح : " ... قوله: " والشفاعة التي ادخرها لهم حق، كما روي في الأخبار ". الشفاعة أنواع: منها ما هو متفق عليه بين الأمة، ومنها ما خالف فيه المعتزلة ونحوهم من أهل البدع. النوع الأول: الشفاعة الأولى، وهي العظمى، الخاصة بنبينا صلى الله عليه وسلم من بين سائر إخوانه من الأنبياء والمرسلين، صلوات الله عليهم أجمعين. في " الصحيحين " وغيرهما عن جماعة من الصحابة، رضي الله عنهم أجمعين، أحاديث الشفاعة. منها: عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: ( أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بلحم، فدفع إليه منها الذراع، وكانت تعجبه، فنهس منها نهسة، ثم قال: أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون لم ذلك ؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون ، فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون ما أنتم فيه ؟ ألا ترون ما قد بلغكم ؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم ؟ فيقول بعض الناس لبعض: أبوكم آدم، فيأتون آدم، فيقولون: يا آدم، أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول آدم: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيت، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحا، فيقولون: يا نوح، أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وسماك الله عبدا شكورا، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول نوح: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه كانت لي دعوة دعوت بها على قومي، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتون إبراهيم، فيقولون: يا إبراهيم، أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض، ألا ترى إلى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وذكر كذباته، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى موسى، فيأتون موسى: فيقولون: يا موسى، أنت رسول الله، اصطفاك الله برسالاته وبتكليمه على الناس، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول لهم موسى: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قتلت نفسا لم أومر بقتلها، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى، فيأتون عيسى، فيقولون: يا عيسى أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، قال: هكذا هو، وكلمت الناس في المهد، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول لهم عيسى: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، ولم يذكر له ذنبا، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فيأتوني، فيقولون: يا محمد، أنت رسول الله، وخاتم الأنبياء، غفر الله لك ذنبك، ما تقدم منه وما تأخر، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فأقوم، فآتي تحت العرش، فأقع ساجدا لربي عز وجل، ثم يفتح الله علي ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه على أحد قبلي، فيقال: يا محمد، ارفع رأسك، سل تعطه، اشفع تشفع، فأقول: يا رب أمتي أمتي، يا رب أمتي أمتي، يا رب أمتي أمتي، فيقول: أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سواه من الأبواب، ثم قال: والذي نفسي بيده، لما بين مصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر، أو كما بين مكة وبصرى». أخرجاه في " الصحيحين " بمعناه، واللفظ للإمام أحمد ... " . أستمع حفظ
3 - قراءة الطالب لشرح الطحاوية : " ... والعجب كل العجب، من إيراد الأئمة لهذا الحديث من أكثر طرقه، لا يذكرون أمر الشفاعة الأولى، في مأتى الرب سبحانه وتعالى لفصل القضاء، كما ورد هذا في حديث الصور، فإنه المقصود في هذا المقام، ومقتضى سياق أول الحديث، فإن الناس إنما يستشفعون إلى آدم فمن بعده من الأنبياء في أن يفصل بين الناس ويستريحوا من مقامهم، كما دلت عليه سياقاته من سائر طرقه، فإذا وصلوا إلى الجزاء إنما يذكرون الشفاعة في عصاة الأمة وإخراجهم من النار. وكان مقصود السلف - في الاقتصار على هذا المقدار من الحديث - هو الرد على الخوارج ومن تابعهم من المعتزلة، الذين أنكروا خروج أحد من النار بعد دخولها، فيذكرون هذا القدر من الحديث الذي فيه النص الصريح في الرد عليهم، فيما ذهبوا إليه من البدعة المخالفة للأحاديث. وقد جاء التصريح بذلك في حديث الصور، ولولا خوف الإطالة لسقته بطوله، لكن من مضمونه: ( أنهم يأتون آدم ثم نوحا، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، ثم يأتون رسول الله محمدا صلى الله عليه وسلم، فيذهب فيسجد تحت العرش في مكان يقال له: الفحص، فيقول الله: ما شأنك ؟ وهو أعلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقول: يا رب، وعدتني الشفاعة، فشفعني، في خلقك، فاقض بينهم، فيقول سبحانه وتعالى: شفعتك، أنا آتيكم فأقضي بينهم، قال: فأرجع فأقف مع الناس، ثم ذكر انشقاق السماوات، وتنزل الملائكة في الغمام، ثم يجيء الرب سبحانه وتعالى لفصل القضاء، والكروبيون والملائكة المقربون يسبحون بأنواع التسبيح، قال: فيضع الله كرسيه حيث شاء من أرضه، ثم يقول: إني أنصت لكم منذ خلقتكم إلى يومكم هذا أسمع أقوالكم، وأرى أعمالكم، فأنصتوا إلي، فإنما هي أعمالكم وصحفكم تقرأ عليكم، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه، إلى أن قال: فإذا أفضى أهل الجنة إلى الجنة، قالوا: من يشفع لنا إلى ربنا فندخل الجنة ؟ فيقولون: من أحق بذلك من أبيكم، إنه خلقه الله بيده، ونفخ فيه روحه، وكلمه قبلا، فيأتون آدم، فيطلبون ذلك إليه، وذكر نوحا، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، ثم محمدا صلى الله عليه وسلم... إلى أن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فآتي الجنة، فآخذ بحلقة الباب، ثم أستفتح، فيفتح لي، فأحيي ويرحب بي، فإذا دخلت الجنة فنظرت إلى ربي عز وجل خررت له ساجدا، فيأذن لي من حمده وتمجيده بشيء ما أذن به لأحد من خلقه، ثم يقول الله لي: ارفع يا محمد، واشفع تشفع، وسل تعطه، فإذا رفعت رأسي، قال الله - وهو أعلم -: ما شأنك ؟ فأقول: يا رب، وعدتني الشفاعة، فشفعني في أهل الجنة يدخلون الجنة، فيقول الله عز وجل: قد شفعتك، وأذنت لهم في دخول الجنة. ) .. الحديث. رواه الأئمة: ابن جرير في تفسيره، والطبراني، وأبو يعلى الموصلي، والبيهقي وغيرهم.... " مع تعليق الشيخ. أستمع حفظ
4 - تعليق الشيخ على ما تقدم قراءته من الشرح " ... النوع الثاني والثالث من الشفاعة: شفاعته صلى الله عليه وسلم في أقوام قد تساوت حسناتهم وسيئاتهم، فيشفع فيهم ليدخلوا الجنة، وفي أقوام آخرين قد أمر بهم إلى النار أن لا يدخلونها. النوع الرابع: شفاعته صلى الله عليه وسلم في رفع درجات من يدخل الجنة فيها فوق ما كان يقتضيه ثواب أعمالهم. وقد وافقت المعتزلة هذه الشفاعة خاصة، وخالفوا فيما عداها من المقامات، مع تواتر الأحاديث فيها. النوع الخامس: الشفاعة في أقوام أن يدخلوا الجنة بغير حساب، ويحسن أن يستشهد لهذا النوع بحديث عكاشة بن محصن، حين دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعله من السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب، والحديث مخرج في " الصحيحين " . النوع السادس: الشفاعة في تخفيف العذاب عمن يستحقه، كشفاعته في عمه أبي طالب أن يخفف عنه عذابه. ثم قال القرطبي في التذكرة بعد ذكر هذا النوع: فإن قيل: فقد قال تعالى: (( فما تنفعهم شفاعة الشافعين )) . قيل له: لا تنفعه في الخروج من النار، كما تنفع عصاة الموحدين، الذين يخرجون منها ويدخلون الجنة...". أستمع حفظ