شرح الفتوى الحموية الكبرى-04
الشيخ صالح آل الشيخ
الفتوى الحموية الكبرى
الحجم ( 5.78 ميغابايت )
التنزيل ( 1518 )
الإستماع ( 275 )


2 - و روى الأثرم في " السنة " و أبو عبد الله بن بطة في " الإبانة " و أبو عمرو الطلمنكي ، و غيرهم بإسناد صحيح ، عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي الماجشون ـ و هو أحد أئمة المدينة الثلاثة الذين هم : مالك بن أنس ، و ابن الماجشون ، و ابن أبي ذئب ـ و قد سئل عما جحدت به الجهمية : " أما بعد : فقد فهمت ما سألت فيما تتابعت الجهمية و من خلفها في صفة الرب العظيم ، الذي فاقت عظمته الوصف و التدبر ، و كلت الألسن عن تفسير صفته ، و انحصرت العقول دون معرفة قدرته ، و ردت عظمته العقول فلم تجد مساغا ، فرجعت خاسئة و هي حسيرة ، و إنما أمروا بالنظر و التفكر فيما خلق بالتقدير ، و إنما يقال " كيف " لمن لم يكن مرة ثم كان ، فأما الذي لا يحول ، و لا يزول ، و لم يزل ، و ليس له مثل ، فإنه لا يعلم كيف هو إلا هو ، و كيف يعرف قدر من لم يبدأ ، و من لا يموت و لا يبلى ؟‍! و كيف يكون لصفة شيء منه حد أو منتهى يعرفه عارف أو يحد قدره واصف ؟‍! على أنه الحق المبين ، لا حق أحق منه ، و لا شيء أبين منه ، الدليل على عجز العقول عن تحقيق صفته عجزها عن تحقيق صفة أصغر خلقه ، لا تكاد تراه صغرا يجول و يزول ، و لا يرى له سمع و لا بصر ؛ لما يتقلب به و يحتال من عقله أعضل بك ، و أخفى عليك مما ظهر من سمعه و بصره ، فتبارك الله أحسن الخالقين ، و خالقهم ، و سيد السادة ، و ربهم (ليس كمثله شيء و هو السميع البصير) [الشورى : 11] . اعرف ـ رحمك الله ـ غناك عن تكلف صفة ما لم يصف الرب من نفسه بعجزك عن معرفة قدر ما وصف منها ؛ إذا لم تعرف قدر ما وصف فما تكلفك علم ما لم يصف ؟ هل تستدل بذلك على شيء من طاعته أو تزدجر به عن شيء من معصيته ؟. فأما الذي جحد ما وصف الرب من نفسه تعمقا و تكلفا فقد (استهوته الشياطين في الأرض حيران) [الأنعام : 71] ، فصا ر يستدل ـ بزعمه ـ على جحد ما وصف الرب و سمى من نفسه بأن قال : لا بد إن كان له كذا من أن يكون له كذا من أن يكون له كذا ، فعمي عن البين بالخفي فجحد ما سمى الرب من نفسه لصمت الرب عما لم يسم منها ، فلم يزل يملي له الشيطان حتى جحد قول الله عز وجل : (وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة) [القيامة : 22-23] ، فقال : لا يراه أحد يوم القيامة ، فجحد و الله أفضل كرامة الله التي أكرم بها أولياءه يوم القيامة من النظر إلى وجهه و نضرته إياهم (في مقعد صدق عند مليك مقتدر) [القمر : 55] ، قد قضى أنهم لا يموتون ، فهم بالنظر إليه ينضرون . إلى أن قال : و إنما جحد رؤية الله يوم القيامة إقامة للحجة الضالة المضلة ؛ لأنه قد عرف أنه إذا تجلى لهم يوم القيامة رأوا منه ما كانوا به قبل ذلك مؤمنين ، و كان له جاحدا . و قال المسلمون : يا رسول الله ! هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم " هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب ؟ " . قالوا : لا ، قال : " فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب ؟ " ، قالوا : لا . قال : " فإنكم ترون ربكم يومئذ كذلك " . و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " لا تمتلئ النار حتى يضع الجبار فيها قدمه ، فتقول قط قط ، و ينزوي بعضها إلى بعض " . وقال لثابت بن قيس : " لقد ضحك الله مما فعلت بضيفك البارحة " . و قال فيما بلغنا : " إن الله تعالى ليضحك من أزلكم و قنوطكم و سرعة إجابتكم " فقال له رجل من العرب : إن ربنا ليضحك ؟ قال : " نعم " ، قال : لا نعدم من رب يضحك خيرا . إلى أشباه لهذا مما لا نحصيه . و قال تعالى : (و هو السميع البصير) [الشورى : 11] (واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا) [الطور : 48] ، و قال تعالى (و لتصنع على عيني) [طه : 39] ، و قال تعالى (ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي) [ص : 75] ، و قال تعالى : (و الأرض جميعا قبضته يوم القيامة و السموات مطويات بيمينه سبحانه و تعالى عما يشركون) [الزمر : 67] . فوالله ما دلهم على عظم ما وصفه من نفسه ، و ما تحيط به قبضته إلا صغر نظيرها منهم عندهم ، إن ذلك الذي ألقي في روعهم ، و خلق على معرفة قلوبهم ، فما وصف الله من نفسه و سماه على لسان رسوله صلى الله عليه و سلم سميناه كما سماه ، و لم نتكلف منه صفة ما سواه ـ لا هذا و لا هذا ـ لا نجحد ما وصف و لا نتكلف معرفة ما لم يصف . أستمع حفظ

3 - اعلم ـ رحمك الله ـ أن العصمة في الدين أن تنتهي في الدين حيث انتهى بك و لا تجاوز ما قد حد لك ، فإن من قوام الدين معرفة المعروف و إنكار المنكر ، فما بسطت عليه المعرفة ، وسكنت إليه الأفئدة ، وذكر أصله في الكتاب والسنة ، وتوارثت علمه الأمة ، فلا تخافن في ذكره و صفته من ربك ما وصف من نفسه عيبا ، و لا تتكلفن بما وصف لك من ذلك قدرا . و ما أنكرته نفسك و لم تجد ذكره في كتاب ربك ، و لافي حديث عن نبيك ـ من ذكر صفة ربك ـ فلا تكلفن علمه بعقلك ، و لا تصفه بلسانك ، و اصمت عنه كما صمت الرب عنه من نفسه ، فإن تكلفك معرفة ما لم يصف من نفسه مثل إنكار ما وصف منها ، فكما أعظمت ما جحده الجاحدون مما وصف من نفسه ، فكذلك أعظم تكلف ما وصف الواصفون مما لم يصف منها . أستمع حفظ

4 - فقد ـ و الله ـ عز المسلمون ، الذين يعرفون المعروف و بهم يعرف ، و ينكرون المنكر و بإنكارهم ينكر ، يسمعون ما وصف الله به نفسه من هذا في كتابه ، و ما بلغهم مثله عن نبيه ، فما مرض من ذكر هذا و تسميته قلب مسلم ، و لا تكلف صفة قدره و لا تسمية غيره من الرب مؤمن . و ما ذكر عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه سماه من صفة ربه فهو بمنزلة ما سمى و ما وصف الرب تعالى من نفسه . و الراسخون في العلم ـ الواقفون حيث انتهى علمهم ، الواصفون لربهم بما وصف من نفسه ، التاركون لما ترك من ذكرها ـ لا ينكرون صفة ما سمى منها جحدا ، و لا يتكلفون وصفه بما لم يسم تعمقا ؛ لأن الحق ترك ما ترك ، و تسمية ما سمى (و يتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى و نصله جهنم و سات مصيرا) [النساء : 115] . وهب الله لنا و لكم حكما ، و ألحقنا بالصالحين . و هذا كله كلام ابن الماجشون الإمام ، فتدبره ، و انظر كيف أثبت الصفات و نفى علم الكيفية ـ موافقا لغيره من الأئمة ـ و كيف أنكر على من نفى الصفات بأنه يلزمهم من إثباتها كذا و كذا ـ كما تقوله الجهمية ـ إنه يلزم أن يكون جسما أو عرضا ، فيكون محدثا . أستمع حفظ

5 - و في كتاب " الفقه الأكبر " المشهور عند أصحاب أبي حنيفة ، الذي رووه بالإسناد عن أبي مطيع الحكم بن عبد الله البلخي ، قال : سألت أبا حنيفة عن الفقه الأكبر ، فقال : لا تكفرون أحدا بذنب ، و لا تنف أحدا به من الإيمان ، و تأمر بالمعروف و تنهى عن المنكر ، و تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك ، و ما أخطأك لم يكن ليصيبك ، و لا تتبرأ من أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و لا توالي أحدا دون أحد ، و أن ترد أمر عثمان و علي إلى الله عز وجل . قال أبو حنيفة : الفقه الأكبر في الدين خير من الفقه في العلم ؛ و لأن يفقه الرجل كيف يعبد ربه خير له من أن يجمع العلم الكثير ، قال أبو مطيع " الحكم بن عبد الله " قلت : أخبرني عن أفضل الفقه . قال : تعلم الرجل الإيمان ، و الشرائع ، و السنن ، و الحدود ، و اختلاف الأئمة ، و ذكر مسائل " الإيمان " ثم ذكر مسائل " القدر " و الرد على القدرية بكلام حسن ليس هذا موضعه . ثم قال : قلت : فما تقول فيمن يأمر بالمعروف ، و ينهى عن المنكر ، فيتبعه على ذلك أناس فيخرج على الجماعة ، هل ترى ذلك ؟ قال : لا . قلت : و لم ، و قد أمر الله و رسوله بالأمر بالمعروف ، و النهي عن المنكر ، و هو فريضة واجبة ؟ قال : هو كذلك لكن ما يفسدون أكثر مما يصلحون ، من سفك الدماء ، و استحلال الحرام . قال : و ذكر الكلام في قتل الخوارج و البغاة . إلى أن قال : قال أبو حنيفة عمن قال : لا أعرف ربي في السماء ، أم في الأرض ؟ فقد كفر ؛ لأن الله يقول : (الرحمن على العرش استوى) . و عرشه فوق سبع سموات . قلت : فإن قال : إنه على العرش استوى ، و لكنه يقول : لا أدري العرش في السماء أم في الأرض ؟ قال : هو كافر ؛ لأنه أنكر أن يكون في السماء ؛ لأنه تعالى في أعلى عليين ، و إنه يدعى من أعلى لا من أسفل . و في لفظ سألت أبا حنيفة عمن يقول : لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض ؟ قال : قد كفر . قال : لأن الله يقول : (الرحمن على العرش استوى) [طه : 5] . و عرشه فوق سبع سموات ، قال : فإنه يقول : على العرش استوى ، و لكن لا يدري العرش في الأرض أو في السماء ، قال : إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر . ففي هذا الكلام المشهور عن أبي حنيفة عند أصحابه : أنه كفر الواقف الذي يقول : لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض ؟ فكيف يكون الجاحد النافي الذي يقول : ليس في السماء ، أو ليس في السماء و لا في الأرض . و احتج على كفره بقوله : (الرحمن على العرش استوى) [طه : 5] . قال : و عرشه فوق سبع سموات . و بين بهذا أن قوله تعالى : (الرحمن على العرش استوى) [طه : 5] . يبين أن الله فوق السموات فوق العرش ، و أن الاستواء على العرش دل على أن الله بنفسه فوق العرش . ثم إنه أردف ذلك بتكفير من قال : إنه على العرش استوى ، و لكن توقف في كون العرش في السماء أم في الأرض ، قال : لأنه أنكر أنه في السماء ؛ لأن الله في أعلى عليين ، و أنه يدعى من أعلى لا من أسفل . و هذا تصريح من أبي حنيفة بتكفير من أنكر أن يكون الله في السماء و احتج على ذلك بأن الله في أعلى عليين ، و أنه يدعى من أعلى لا من أسفل ، و كل من هاتين الحجتين فطرية عقلية ، فإن القلوب مفطورة على الإقرار بأن الله في العلو ، و على أنه يدعى من أعلى لا من أسفل ، و قد جاء اللفظ الآخر صريحا عنه بذلك ، فقال : إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر . أستمع حفظ

8 - و روي أيضا عن ابن المديني لما سئل : ما قول أهل الجماعة ؟ قال : يؤمنون بالرؤية و الكلام ، و أن الله فوق السموات على العرش استوى ، فسئل عن قوله : (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم) [المجادلة : 7] . فقال : اقرأ ما قبلها : (ألم تر أن الله يعلم ما في السموات و ما في الأرض) [المجادلة : 7] . و روي أيضا عن أبي عيسى الترمذي قال : هو على العرش كما وصف في كتابه ، و علمه و قدرته و سلطانه في كل مكان . و روي عن أبي زرعة الرازي أنه لما سئل عن تفسير قوله : (الرحمن على العرش استوى) [طه : 5] . فقال : تفسيره كما يقرأ ، هو على العرش ، و علمه في كل مكان و من قال غير هذا فعليه لعنة الله . أستمع حفظ

9 - و روى أبو القاسم اللالكائي الحافظ الطبري ، صاحب أبي حامد الإسفرائيني ، في كتابه المشهور في " أصول السنة " بإسناده عن محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة ، قال : اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن و الأحاديث ، التي جاء بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في صفة الرب عز وجل ، من غير تفسير ، و لا وصف ، و لا تشبيه ، فمن فسر اليوم شيئا منها فقد خرج مما كان عليه النبي صلى الله عليه و سلم ، و فارق الجماعة ، فإنهم لم يصفوا ، و لم يفسروا ، و لكن أفتوا بما في الكتاب و السنة ، ثم سكتوا ، فمن قال بقول " جهم " فقد فارق الجماعة ؛ لأنه قد وصفه بصفة لا شيء . محمد بن الحسن أخذ عن أبي حنيفة و مالك و طبقتهما من العلماء ، و قد حكى هذا الإجماع ، و أخبر أن الجهمية تصفه بالأمور السلبية غالبا ، أو دائما . و قوله : " من غير تفسير " أراد به تفسير الجهمية المعطلة الذين ابتدعوا تفسير الصفات بخلاف ما كان عليه الصحابة و التابعون من الإثبات . و روى البيهقي و غيره بإسناد صحيح عن أبي عبيد القاسم بن سلام قال : هذه الأحاديث التي يقول فيها : " ضحك ربنا من قنوط عباده و قرب غيره " . و " أن جهنم لا تمتلئ حتى يضع ربك فيها قدمه " . و " الكرسي موضع القدمين " . و هذه الأحاديث في " الرؤية " هي عندنا حق ، حملها الثقات بعضهم عن بعض ، غير أنا إذا سئلنا عن تفسيرها لا تفسرها ، و ما أدركنا أحدا يفسرها . " أبو عبيد " أحد الأئمة الأربعة الذين هم الشافعي ، و أحمد ، و إسحاق ، و أبو عبيد : و له من المعرفة بالفقه ، و اللغة ، و التأويل ما هو أشهر من أن يوصف ، و قد كان في الزمان الذي ظهرت فيه الفتن و الأهواء ، و قد أخبر أنه ما أدرك أحدا من العلماء يفسرها " أي تفسير الجهمية " . و روى اللالكائي و البيهقي بإسنادهما عن عبد الله بن المبارك : أن رجلا قال له : يا أبا عبد الرحمن إني أكره الصفة ـ يعني صفة الرب ـ فقال له عبد الله بن المبارك : و أنا أشد الناس كراهية لذلك ، و لكن إذا نطق الكتاب بشيء ، قلنا به ، و إذا جاءت الآثار بشيء جسرنا عليه ، و نحو هذا . أراد ابن المبارك : أنا نكره أن نبتدئ بوصف الله من تلقاء [ في نسخة القارئ : ذات ] أنفسنا حتى يجيء به الكتاب و الآثار . و روى عبد الله بن أحمد و غيره بأسانيد صحاح عن ابن المبارك أنه قيل له : بماذا نعرف ربنا ؟ قال : بأنه فوق سمواته ، على عرشه ، بائن من خلقه ، و لا نقول كما تقول الجهمية : أنه ها هنا في الأرض ـ و هكذا قال الإمام أحمد و غيره . و روى بإسناد صحيح عن سليمان بن حرب الإمام ، سمعت حماد بن زيد ، و ذكر هؤلاء الجهمية ، فقال : إنما يحاولون أن يقولوا ليس في السماء شيء . و روى ابن أبي حاتم في كتاب " الرد على الجهمية " عن سعيد بن عامر الضبعي ـ إمام أهل البصرة علما و دينا ، من شيوخ الإمام أحمد ـ إنه ذكر عنده الجهمية ، فقال : أشر قولا من اليهود و النصارى ، و قد أجمع اليهود و النصارى و أهل الأديان مع المسلمين على أن الله على العرش ، و هم قالوا : ليس على شيء . و قال محمد بن إسحاق بن خزيمة إمام الأئمة ، من لم يقل : إن الله فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه ، وجب أن يستتاب ، فإن تاب و إلا ضربت عنقه ، ثم ألقي على مزبلة لئلا يتأذى [ في نسخة القارئ : زيادة " بنتن " ] بريحه أهل القبلة ، و لا أهل الذمة ، ذكره عنه الحاكم بإسناد صحيح . و روى عبد الله بن الإمام أحمد بإسناده عن عباد بن العوام الواسطي ـ إمام أهل واسط من طبقة شيوخ الشافعي و أحمد ـ قال : كلمت بشرا المريسي ، و أصحاب بشر ، فرأيت آخر كلامهم ينتهي أن يقولوا : ليس في السماء شيء . و عن عبد الرحمن بن مهدي الإمام المشهور أنه قال : ليس في أصحاب الأهواء شر من أصحاب جهم ، يدورون على أن يقولوا : ليس في السماء شيء ، أرى و الله أن لا يناكحوا ، و لا يوارثوا . و روى عبد الرحمن بن أبي حاتم في كتاب " الرد على الجهمية " عن عبد الرحمن ابن مهدي قال : أصحاب جهم يريدون أن يقولوا إن الله لم يكلم موسى ، و يريدون أن يقولوا : ليس في السماء شيء ، و أن الله ليس على العرش ، أرى أن يستتابوا ، فإن تابوا و إلا قتلوا . و عن الأصمعي قال : قدمت امرأة جهم فنزلت بالدباغين ، فقال رجل عندها : الله على عرشه ، فقالت : محدود على محدود ، فقال الأصمعي : كفرت بهذه المقالة . و عن عاصم بن علي بن عاصم ـ شيخ أحمد و البخاري و طبقتهما ـ قال : ناظرت جهميا ، فتبين من كلامه أنه لا يؤمن أن في السماء ربا . و روى الإمام أحمد بن حنبل الشيباني ، قال : أخبرنا سريج بن النعمان قال : سمعت عبد الله بن نافع الصائغ قال : سمعت مالك بن أنس يقول : الله في السماء ، و علمه في كل مكان ، لا يخلو من علمه مكان . و قال الشافعي : خلافة أبي بكر الصديق حق قضاه الله في السماء و جمع عليه قلوب عباده . و في الصحيح عن أنس بن مالك قال : كانت زينب تفتخر على أزواج النبي صلى الله عليه و سلم تقول : زوجكن أهاليكن ، و زوجني الله من فوق سبع سموات . و هذا مثل قول الشافعي . و قصة أبي يوسف ـ صاحب أبي حنيفة ـ مشهورة في استتابة بشر المريسي ، حتى هرب منه لما أنكر أن يكون الله فوق عرشه [ في نسخة القارئ : لما أنكر الصفات ] ، قد ذكرها ابن أبي حاتم و غيره . و قال أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي زمنين الإمام المشهور من أئمة المالكية ، في كتابه الذي صنفه في " أصول السنة " قال فيه : " باب الإيمان بالعرش " . قال : و من قول أهل السنة : إن الله عز وجل خلق العرش و اختصه بالعلو و الارتفاع فوق جميع ما خلق ، ثم استوى عليه كيف شاء ، كما أخبر عن نفسه في قوله : (الرحمن على العرش استوى) [طه : 5] ، و قوله : (ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض) الآية [الحديد : 4] . فسبحان من بعد و قرب بعلمه ، فسمع النجوى . و ذكر حديث أبي رزين العقيلي ، قلت : يا رسول الله ، أين كان ربنا قبل أن يخلق السموات و الأرض ؟ قال : " في عماء ، ما تحته هواء ، و ما فوقه هواء ، ثم خلق عرشه على الماء " . قال محمد : العماء : السحاب الكثيف المطبق ـ فيما ذكره الخليل ـ و ذكر آثارا أخر ثم قال : " باب الإيمان بالكرسي " . أستمع حفظ

10 - قال محمد بن عبد الله : و من قول أهل السنة : إن الكرسي بين يدي العرش ، و أنه موضع القدمين ، ثم ذكر حديث أنس الذي فيه التجلي يوم الجمعة في الآخرة ، و فيه " فإذا كان يوم الجمعة هبط من عليين على كرسيه ، ثم يحف الكرسي على منابر من ذهب مكللة بالجواهر ، ثم يجيء النبيون فيجلسون عليها " . و ذكر ما ذكره يحي بن سالم صاحب التفسير المشهور : حدثني العلاء بن هلال عن عمار الدهني ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : إن الكرسي الذي وسع السموات و الأرض لموضع القدمين ، و لا يعلم قدر العرش إلا الذي خلقه . و ذكر من حديث أسد بن موسى ، حدثنا حماد بن سلمة عن زر عن ابن مسعود قال : ما بين السماء الدنيا و التي تليها مسيرة خمسمائة عام ، و بين كل سماء خمسمائة عام ، و بين السماء السابعة و الكرسي خمسمائة عام ، و بين الكرسي و الماء خمسمائة عام ، و العرش فوق الماء ، و الله فوق العرش ، و هو يعلم ما أنتم عليه . ثم قال في " باب الإيمان بالحجب " قال : " و من قول أهل السنة : إن الله بائن من خلقه يحتجب عنهم بالحجب ، فتعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا (كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا) [الكهف : 5] ، و ذكر آثارا في الحجب " . ثم قال في " باب الإيمان بالنزول " قال : " و من قول أهل السنة : إن الله ينزل إلى السماء الدنيا ، و يؤمنون بذلك من غير أن يحدوا فيه حدا ، و ذكر الحديث من طريق مالك و غيره ، إلى أن قال : و أخبرني وهب ، عن ابن وضاح ، عن الزهري ، عن ابن عباد قال : و من أدركت من المشايخ مالك ، و سفيان ، و فضيل بن عياض و عيسى بن المبارك و وكيع ، كانوا يقولون : إن النزول حق ، قال ابن وضاح : وسألت يوسف بن عدي عن النزول قال : نعم أومن به ، و لا أحد فيه حدا ، و سألت عنه ابن معين فقال : نعم أقر به ، ولا أحد فيه حدا " . قال محمد : و هذا الحديث يبين أن الله عز وجل على العرش في السماء دون الأرض ، و هو أيضا بين في كتاب الله ، و في غير حديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال تعالى : (يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه) [السجدة : 5] ، و قال تعالى : (أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور * أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا) [الملك : 16-17] ، و قال تعالى : (إليه يصعد الكلم الطيب و العمل الصالح يرفعه) [فاطر : 10] ، وقال : (و هو القاهر فوق عباده) [الأنعام : 18] ، و قال تعالى : (يا عيسى إني متوفيك و رافعك إلي) [آل عمران : 55] ، و قال : (بل رفعه الله إليه) [النساء : 158] . و ذكر من طريق مالك قول النبي صلى الله عليه و سلم للجارية : " أين الله ؟ " . قالت : في السماء . قال : " من أنا ؟ " . قالت : أنت رسول الله ، قال : " فأعتقها " . قال : و الأحاديث مثل هذا كثيرة جدا ، فسبحان من علمه بما في السماء كعلمه بما في الأرض ، لا إله إلا هو العلي العظيم . أستمع حفظ

11 - و قال قبل ذلك في " الإيمان بصفات الله تعالى و أسمائه " قال : " و اعلم بأن أهل العلم بالله و بما جاءت به أنبياؤه و رسله ، يرون الجهل بما لم يخبر به عن نفسه علما ، و العجز عما لم يدع إليه إيمانا ، و إنهم إنما ينتهون من وصفه بصفاته و أسمائه إلى حيث انتهى في كتابه على لسان نبيه . و قد قال ـ و هو أصدق القائلين ـ (كل شيء هالك إلا وجهه) [القصص : 88] . و قال : (قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني و بينكم) [الأنعام : 19] . و قال (و يحذركم الله نفسه ) [آل عمران : 28] . و قال : (فإذا سويته و نفخت فيه من روحي) [ص : 72] . و قال : (فإنك بأعيننا) [الطور : 48] . و قال : (و لتصنع على عيني) [طه : 39] . و قال : (و قالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم و لعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان) [المائدة : 64] . و قال : (و الأرض جميعا قبضته يوم القيامة) الآية [الزمر : 67] . و قال : (إنني معكما أسمع و أرى) [طه : 46] . و قال : (و كلم الله موسى تكليما) [النساء : 164] قال تعالى : (الله نور السموات و الأرض) الآية [النور : 35] . و قال : (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) الآية [البقرة : 255] . و قال : ( هو الأول و الآخر و الظاهر و الباطن) [الحديد : 3] و مثل هذا في القرآن كثير . فهو ـ تبارك و تعالى ـ نور السموات و الأرض ، كما أخبر عن نفسه ، و له وجه ، و نفس ، و غير ذلك مما وصف به نفسه ، و يسمع ، و يرى ، ويتكلم ، هو الأول لا شيء قبله ، و الآخر الباقي إلى غير نهاية و لا شيء بعده ، و الظاهر العالي فوق كل شيء ، و الباطن ، بطن علمه بخلقه فقال : (و هو بكل شيء عليم) [الحديد : 3] . قيوم حي لا تأخذه سنة و لا نوم " . أستمع حفظ

12 - و ذكر " أحاديث الصفات " ثم قال : " فهذه صفات ربنا التي وصف بها نفسه في كتابه ، و وصفه بها نبيه ، و ليس في شيء منها تحديد و لا تشبيه ، و لا تقدير (ليس كمثله شيء و هو السميع البصير) [الشورى : 11] . لم تره العيون فتحده كيف هو ؟ و لكن رأته القلوب في حقائق الإيمان " اهـ . و كلام الأئمة في هذا الباب أطول و أكثر من أن تسع هذه الفتيا عشره . و كذلك كلام الناقلين لمذهبهم . مثل ما ذكره أبو سليمان الخطابي في رسالته المشهورة في " الغنية عن الكلام و أهله " قال : " فأما مات سألت عنه من الصفات ، و ما جاء منها في الكتاب و السنة ؛ فإن مذهب السلف إثباتها ، و إجراؤها على ظواهرها ، و نفي الكيفية و التشبيه عنها ، و قد نفاها قوم فأبطلوا ما أثبته الله ، و حققها قوم من المثبتين فخرجوا في ذلك إلى ضرب من التشبيه و التكييف ، و إنما القصد في سلوك الطريقة المستقيمة بين الأمرين ، و دين الله تعالى بين الغالي فيه و الجافي و المقصر عنه . و الأصل في هذا : أن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات ، و يحتذى في ذلك حذوه و مثاله ، فإذا كان معلوما أن إثبات الباري سبحانه إنما هو إثبات وجود لا إثبات كيفية ، فكذلك إثبات صفاته إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد و تكييف . فإذا قلنا : يد و سمع و بصر و ما أشبهها ، فإنما هي صفات أثبتها الله لنفسه ، و لسنا نقول : إن معنى اليد : اقوة و النعمة ، و لا معنى السمع و البصر : العلم ، و لا نقول : إنها جوارح ، و لا نشببها بالأيدي و الأسماع و الأبصار التي هي جوارح و أدوات للفعل و نقول : إن القول إنما وجب بإثبات الصفات ؛ لأن التوقيف ورد بها ، و وجب نفي التشبيه عنها ؛ لأن الله ليس كمثله شيء ، و على هذا جرى قول السلف في أحاديث الصفات " هذا كله كلام الخطابي . أستمع حفظ