الرد على من قال أن المرجع في إثبات الصفات ونفيها هو العقل من خمسة أوجه: حفظ
الشيخ : فالحاصل أن قول المؤلف " لا نرد ذاك بالعقول " يشير به إلى رد قول من يقول: إن المرجع في صفات الله إلى العقل. نقول لهم: إن هذه القاعدة باطلة من أساسها، وإن هذه القاعدة تبطل الاعتماد على العقل، لأن العقل يقتضي أن ما طريقه الخبر المجرّد يعتمد فيه على أيش؟
الطالب : على النقل.
الشيخ : على النقل، وعلى الخبر، ما دامت العقول لا تدرك هذا فالواجب عليها أن تعتمد على النقل وما أخبر الله به عن نفسه أو أخبرت عنه رسله.
ثالثا: أن نقول تحكيم العقل في هذا الباب تحكيم من لا يحيط بالحكم علما، وذلك لأن ما يصف الله به نفسه، لا يمكن للعقل أن يدركه، إذا كان الله يقول: (( لا تدركه الأبصار )) والإدراك بالبصر إدراك بالمحسوس، فكيف تدركه العقول؟! العقول لا تدرك كنه حقيقة صفات الله عزّ وجلّ أبدا (( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير )).
ثم نقول لهم رابعا: أن هذه العقول التي زعمتم أنها مرجع ومحكّم في صفات الله عقول متناقضة، كيف؟ لأن هؤلاء العقلاء كما يدّعون يتناقضون، فتجد بعضهم يقرّر وجوب ذلك عقلا، والآخر يقرّر إمتناع ذلك عقلا، إمتناع ذلك، وفرق واسع شاسع بين الواجب والممتنع، وكلّ منهم يدّعي أنه من ذوي العقول، هذا يقول هذا ممتنع على الله ولا يجوز وصفه به، وهذا يقول واجب لله فيجب وصفه به! وين العقل؟! بأي شيء يوزن ما يجب لله تعالى وما يمتنع؟ بأي عقل يوزن؟ إن قلنا بعقل زيد قال عمرو: وراكم تتركون عقلي، إن قلنا عقل عمرو قال زيد: وراكم تتركون عقلي، فبأي عقل يوزن؟ فأنتم متناقضون، بل إنهم كما قال شيخ الإسلام وغيره من أهل العلم: " إن الواحد من هؤلاء -الذين يحكّمون العقل - يكون متناقضا، فيكتب في بعض مصنّفاته أن هذا واجب لله، ويكتب في المصنّفات الأخرى أنه ممتنع على الله! ".
إذن الرجوع إلى العقل باطل من هذه الوجوه الأربعة، والواجب أن نرجع إلى أي شيء؟ إلى النقل، فإذا وجب الرجوع إلى النقل، فهناك مرحلة أخرى واجبة، وهي أن نأخذ بظاهر هذا النقل، ولا نحرّفه لا نقول المراد به كذا وكذا مما يخالف الظاهر، بل الواجب أن نأخذ بظاهره.
فإذا قال قائل: إذا أخذت بظاهره فقد مثّلت الله بخلقه، ولنفرض أنّك أخذت بظاهر اليد أن لله يدين، يقول: إذا قلت إن المراد باليدين هما ما يؤخذ بهما ويقبض فقد مثّلت الله بخلقه، وحينئذ وقعت فيما هو كفر، فما جوابنا على ذلك؟
جوابنا على ذلك أن نقول: من يقول إن ظاهر اليدين الحقيقة يقتضي المماثلة، من يقول هذا؟ بل لنا أن نقول: إن ظاهر اليدين المضافتين إلى الله حقيقة يقتضي امتناع المماثلة، كيف ذلك؟ لأنها يد أضيفت إلى موصوف، إلى متّصف بها، ومن المعلوم أن ما أضيف إلى الشيء فإنه يكون لائقا به، فاليدان اللتان أضافهما الله إلى نفسه يدان لائقتان بالله عزّ وجلّ لا يمكن أن تماثل أيدي المخلوقين، ألم تكن تقول يد زيد، أو تقول يد إنسان، وتقول يد حمار، وتقول يد جمل، وتقول يد هرّ، وتقول يد أسد، وتقول يد ذرّة، هل أحد من الناس يعتقد التماثل في هذه الأيدي؟
الطالب : مستحيل.
الشيخ : أو لا؟
الطالب : ...
الشيخ : أبدا، لأنها أيدٍ مضافة إلى متّصف بها، فتكون هذه الأيدي لائقة بالموصوف بها، لكن إذا قلت يد أسد، ويد أسد آخر صارت مماثلة ولا لا؟ صارت مماثلة، فإذا علم التباين بين المخلوقات بعضها مع بعض، فالتباين بين الخالق والمخلوق من باب أولى.
ومن اعتقد أن ظاهر نصوص الكتاب والسنة التمثيل من اعتقد ذلك فقد كفر، لأن تمثيل الله بخلقه كفر، ومن زعم أن ظاهر الكتاب والسنة ما يقتضي الكفر فهو كافر، لأن الكتاب والسنة يقرّران الإيمان، وينكران الكفر، ولهذا قال نعيم بن حمّاد الخزاعي رحمه الله شيخ البخاري: " من شبّه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيها ".
فالحاصل أن نقول: إننا إذا أخذنا بظاهر النصوص لم نكن ممثلين، بل نحن أبعد الناس عن التمثيل، والممثل حقيقة هو الذي صرف النصوص عن ظاهرها، هذا هو الذي جعل النصوص دالّة على التمثيل، الذي جعل النصوص دالّة على التمثيل هو الذي صرفها عن ظاهرها، لماذا؟ لأنه لم يصرفها عن ظاهرها إلا حيث اعتقد أن ظاهرها يقتضي التمثيل، فلما اعتقد هذه العقيدة الباطلة ذهب يصرفها عن ظاهرها، ولهذا نقول: كل معطّل فهو ممثل، كل معطّل فهو ممثل، ليش؟ لأنه لم يعطّل إلا حيث اعتقد أن ظاهرها التمثيل، فذهب يصرفها عن ظاهرها، ويعطّل مدلولها عما أراده الله.
طيب. من القائلون بتحكيم العقل؟ القائلون بتحكيم العقل: الجهمية، المعتزلة، الأشاعرة، الماتوريدية، وكل أهل التأويل يقولون بتحكيم العقل في هذا الباب، وسيأتي إن شاء الله في كلام المؤلف أن الأشاعرة لا يثبتون من الصفات إلا سبعا، ادّعوا أن العقل يقتضيها، وأنكروا بقية الصفات، بحجّة أن العقل لا يقتضيها، ولكننا نقول إن شاء الله بأن العقل يؤيّد ما جاءت به النصوص من هذه الصفات الكمالية التي اتّصف الله سبحانه وتعالى بها.
قال: " ولا نرد ذاك بالعقول " طيب. والذين رجعوا إلى العقول هل ردّوها؟
الطالب : نعم.
الشيخ : هاه؟ ردوها، لأنهم أنكروا دلالتها على المراد بها، فقالوا في قوله تعالى مثلا، أضرب مثلا، قالوا في قوله تعالى: (( وجاء ربك )) أي: وجاء أمر ربك، فردوها ... قالوا: نحن لم نردها ولا نكذّب بمجيء الله، لكن المراد بمجيئه مجيء أمره، نقول: وهل هذا إلا ردّ؟! ما معنى الرد إذا لم يكن هذا ردّا؟ ربّنا عزّ وجلّ يقول (( وجاء ربك )) وأنتم تقولون لم يجئ ربك! من الذي جاء؟! أمره! سبحان الله! هل الله يبين لعباده خشية أن يضلوا؟! أو يعمّي على عباده ليضلّوا؟!
الطالب : الأول.
الشيخ : هاه؟ الأول (( يبيّن الله لكم أن تضلوا )) لو كان الله يريد بقوله (( وجاء ربك )) وجاء أمر ربّك لكان هذا أبلغ ما يكون في التعمية، كيف يقول لنا (( وجاء ربك )) وهو يريد وجاء أمره؟! هل هذا من البيان أو من عدم البيان؟ هذا من عدم البيان، بل من التلبيس على العباد، كيف يقول عن نفسه وهو واجب على عباده أن يعرفوه بصفاته، كيف يقول (( وجاء ربك )) وهو يريد وجاء أمر ربّك.
طيب. فإذا قال قائل: إن الله يقول (( أتى أمر الله فلا تستعجلوه )) فيجب أن نحمل (( وجاء ربك )) على هذه الآية؟
نقول: هذه الآية التي استدللتم بها حجّة عليكم، وليست حجّة لكم، لأن اختلاف التعبير في موضعين يدل على أن أحدهما غير الآخر، لو كان الله يريد بقوله (( وجاء ربك )) جاء أمر ربّك لقاله، كما قاله في الآية الثانية (( أتى أمر الله ))، ثم إن الله قال هنا (( وجاء ربك والملك صفّا صفّا )) ومعلوم أن الذي جاء هم الملائكة أنفسهم وليس أمرهم، ففي الآية أيضا قرينة لفظية تدل على امتناع تفسيرها بمجيء أمره، ولا تعجبوا أن يكون كل دليل استدل به المبطل فإنه يكون دليلا عليه، لأن استدلاله به يدل على أن فيه إشارة إلى هذا المعنى، لكنه إشارة على غير ما أراده، وقد التزم شيخ الإسلام في كتابه يا عادل " درء تعارض العقل والنقل " التزم بأنه لا يأتي مبطل بحجّة يحتجّ بها على باطله إلا جعلها دليلا عليه لا له،.
نعم. إذن نحن نقول لهؤلاء الذين يحكّمون العقل: إنكم أنتم الذين خرجتم بآيات الصفات وأحاديثها عن أيش؟ عن ظاهرها، أما نحن فإننا أخذنا بظاهرها، لأن الله تعالى إنما أنزل الكتاب تبيانا لكل شيء، وأراد من عباده أن يهتدوا بهذا القرآن، لا أن يضلوا فيه، وإذا كنتم أنتم تعملون بظاهر النصوص في العبادات والمعاملات وهي أيضا أعني العبادات والمعاملات فيها ما يرجع فيه إلى العقل كالمسائل القياسية، فكيف لا ترجعون فيها إلى مجرد النقل وتمنعون القياس كما منعه أهل الظاهر؟ مع أن هؤلاء الذين يرجعون إلى العقل في بعض الصفات يرجعون إليها أيضا في باب الأحكام، لكنهم يأخذون بظاهر النصوص فيها ولا يأخذون بظاهر النصوص في باب الصفات، وهذا من التناقض في الاستدلال.