تعليق الشيخ على قول شيخ الإسلام ابن تيمية : " والمقصود هنا : أن من صفات الله تعالى ما قد يعلم بالعقل كما يعلم أنه عالم وأنه قادر وأنه حي ; كما أرشد إلى ذلك قوله : (( ألا يعلم من خلق )) وقد اتفق النظار من مثبتة الصفات : على أنه يعلم بالعقل عند المحققين أنه حي ; عليم ; قدير ; مريد ; وكذلك السمع ; والبصر والكلام . يثبت بالعقل عند المحققين بل وكذلك الحب والرضا والغضب . يمكن إثباته بالعقل وكذلك علوه على المخلوقات ومباينته لها مما يعلم بالعقل كما أثبتته بذلك الأئمة : مثل أحمد بن حنبل وغيره . ومثل : عبد العالي المكي وعبد الله بن سعيد بن كلاب ; بل وكذلك إمكان الرؤية : يثبت بالعقل , لكن منهم من أثبتها بأن كل موجود تصح رؤيته ومنهم من أثبتها بأن كل قائم بنفسه يمكن رؤيته . وهذه الطريق أصح من تلك وقد يمكن إثبات الرؤية بغير هذين الطريقين بتقسيم دائر بين النفي والإثبات كما يقال : إن الرؤية لا تتوقف إلا على أمور وجودية فإن ما لا يتوقف إلا على أمور وجودية يكون الموجود الواجب القديم : أحق به من الممكن المحدث والكلام على هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع والمقصود هنا : أن من الطرق التي يسلكها الأئمة ومن اتبعهم من نظار السنة في هذا الباب أنه لو لم يكن موصوفا بإحدى الصفتين المتقابلتين للزم اتصافه بالأخرى ; فلو لم يوصف بالحياة لوصف بالموت ; ولو لم يوصف بالقدرة لوصف بالعجز ; ولو لم يوصف بالسمع والبصر والكلام لوصف بالصمم والخرس والبكم وطرد ذلك أنه لو لم يوصف بأنه مباين للعالم لكان داخلا فيه . فسلب إحدى الصفتين المتقابلتين عنه يستلزم ثبوت الأخرى وتلك صفة نقص ينزه عنها الكامل من المخلوقات فتنزيه الخالق عنها أولى . وهذه الطريق غير قولنا إن هذه صفات كمال يتصف بها المخلوق ; فالخالق أولى فإن طريق إثبات صفات الكمال بأنفسها مغاير لطريق إثباتها بنفي ما يناقضها . ". حفظ
الشيخ : قال : " وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى مَا قَدْ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ كَمَا يُعْلَمُ أَنَّهُ عَالِمٌ وَأَنَّهُ قَادِرٌ وَأَنَّهُ حَيٌّ ، كَمَا أَرْشَدَ إلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تعالى : (( أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ )) " .
هنا : (( أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ )) فيها إثبات الحكم والدليل ، فالحكم إثبات العلم لله . والدليل الخلق . فإنه لا يمكن أن يكون الخالق غير عالم بما خلق .
طيب : (( مَنْ خَلَقَ )) فيه فاعل أو مفعول .؟ لا ، فاعل أحسن ، هي يصلح أن تكون مفعولا ، يعني : ألا يعلم الذي خلقه ، ولكنها فاعل أولى ، يعني : ألا يعلم الخالق مخلوقه ؟! الجواب : بلى ، فالاستفهام هنا للتقرير .
إذا ففي الآية جملة واحدة في الحقيقة ، هي ثلاث كلمات، ذكرت الحكم والدليل ، والآن لو تذهب للطرق العقلية في إثبات العلم لله ، لأتيت بعدة جمل ولكنها لا تفيد ما تفيده هذه الجملة .
الشيخ : " وَقَدْ اتَّفَقَ النُّظَّارُ مِنْ مُثْبِتَةِ الصِّفَاتِ عَلَى أَنَّهُ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّهُ حَيٌّ ، عَلِيمٌ ، قَدِيرٌ ، مُرِيدٌ ، وَكَذَلِكَ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْكَلَامُ يَثْبُتُ بِالْعَقْلِ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ منهم ، بَلْ وَكَذَلِكَ الْحُبُّ وَالرِّضَا وَالْغَضَبُ يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِالْعَقْلِ ، وَكَذَلِكَ عُلُوُّهُ عَلَى الْمَخْلُوقَاتِ وَمُبَايَنَتُهُ لَهَا مِمَّا يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ . كَمَا أَثْبَتَتْهُ بِذَلِكَ الْأَئِمَّةُ : مِثْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ . وَمِثْلُ : عَبْدِ الْعَالِي الْمَكِّيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كِلَابٍ ، بَلْ وَكَذَلِكَ إمْكَانُ الرُّؤْيَةِ يَثْبُتُ بِالْعَقْلِ ، لَكِنْ مِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَهَا بِأَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ تَصِحُّ رُؤْيَتُهُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَهَا بِأَنَّ كُلَّ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ يُمْكِنُ رُؤْيَتُهُ . وَهَذِهِ الطَّرِيقُ أَصَحُّ مِنْ تِلْكَ " .
الآن عندنا الرؤية . إثبات إمكان رؤية الله هل هو ثابت بالشرع أو العقل ؟!
الطالب : بالشرع .
الشيخ : بالشرع وبالعقل ، لا ، إمكانه ثابت بالعقل . ووجوبه ثابت بالشرع ، لأنه لولا أن الله أخبرنا بأنه يرى ما علمنا بذلك . لكن إمكان رؤية الله ثابتة بالعقل ، والإمكان غير الوجود ، كيف يمكن .؟ على أحد طريقتين :
1- إما أن نقول : كل قائم بنفسه يمكن رؤيته .
2- أو نقول : كل موجود تصح رؤيته .
أيهما أصح .؟ لا ، كل قائم بنفسه تصح رؤيته ، لا كل موجود ، لأنه مثلا أنا فيّ قوة وفيّ علم وفيّ قدرة ، القدرة والعلم والقوة موجودة عندي ، هل ترونها .؟ لا ، لكن كل قائم بنفسه يمكن رؤيته ، صحيح أو غير صحيح.؟
الطالب : صحيح .
الشيخ : أي نعم ، لأنك إذا قلت كل موجود دخل في ذلك الأعيان والصفات ، والصفات منها ما يرى ومنها ما لا يرى ، فاحمرار الوجه مثلا صفة ، ترى أو ما ترى .؟
الطالب : ترى .
الشيخ : طيب ، والعقل والعلم والإدراك صفة لا يرى ، لكن كل قائم بنفسه يرى ، فهو أصح مثل ما قال المؤلف.
قال : " وَقَدْ يُمْكِنُ إثْبَاتُ الرُّؤْيَةِ بِغَيْرِ هَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ بِتَقْسِيمِ دَائِرٍ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ كَمَا يُقَالُ : إنَّ الرُّؤْيَةَ لَا تَتَوَقَّفُ إلَّا عَلَى أُمُورٍ وُجُودِيَّةٍ ، فَإِنَّ مَا لَا يَتَوَقَّفُ إلَّا عَلَى أُمُورٍ وُجُودِيَّةٍ يَكُونُ الْمَوْجُودُ الْوَاجِبُ الْقَدِيمُ أَحَقَّ بِهِ مِنْ الْمُمْكِنِ الْمُحْدَثِ ". كذا عندكم في النسخة الثانية .؟ طيب.
" الرُّؤْيَةَ لَا تَتَوَقَّفُ إلَّا عَلَى أُمُورٍ وُجُودِيَّةٍ ، فَإِنَّ مَا لَا يَتَوَقَّفُ " أو ما يتوقف ، وش عندكم .؟
الطالب : وما لا يتوقف .
الشيخ : طيب : " وما لا يتوقف إلَّا عَلَى أُمُورٍ وُجُودِيَّةٍ يَكُونُ الْمَوْجُودُ الْوَاجِبُ الْقَدِيمُ أَحَقَّ بِهِ مِنْ الْمُمْكِنِ الْمُحْدَثِ ".
أنا عندي أن هذه الطريقة الثانية هي شبيهة بالطريقة الأولى ، وهي إمكان الوجود . وهي الوجود وغير الوجود . إمكان الرؤية مقيد بالوجود .
يقول مثلاً : الرؤية لابد أن تكون فيها أمور وجودية ، محل موصل ومحل قائم ، عندما يكون الإنسان أعمى فإن الرؤية لا تثبت . لأنه ليس له الآلة التي يتوصل بها إلى البصر ، وعندما يكون الشيء غير قائم بنفسه لا تمكن رؤيته وإن كان الإنسان عنده بصر ، لأن هذا لا يمكن أن يرى مثل الصفات المعنوية .
فيقال مثلا : إذا كانت الرؤية متوقفة على أمور وجودية فالموجود الواجب الوجود أحق بها من الممكن المحدث .
" وَالْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ " مسألة الرؤية الآن تبيّن لنا أنها تثبت بالعقل إمكانا، وتثبت بالشرع وجوباً ، يعني فإن كان وجودها ثابت بالعقل لكن وجوب وجودها ثابت في الشرع .
" وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ مِنْ الطُّرُقِ الَّتِي يَسْلُكُهَا الْأَئِمَّةُ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ نُظَّارِ السُّنَّةِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَوْصُوفًا بِإِحْدَى الصِّفَتَيْنِ الْمُتَقَابِلَتَيْن لَلَزِمَ اتِّصَافُهُ بِالْأُخْرَى ، فَلَوْ لَمْ يُوصَفْ بِالْحَيَاةِ لَوُصِفَ بِالْمَوْتِ ، وَلَوْ لَمْ يُوصَفْ بِالْقُدْرَةِ لَوُصِفَ بِالْعَجْزِ ، وَلَوْ لَمْ يُوصَفْ بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ لَوُصِفَ بِالصَّمَمِ وَالْخَرَسِ وَالْبُكْمِ، وَطَرْدُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُوصَفْ بِأَنَّهُ مُبَايِنٌ لِلْعَالَمِ لَكَانَ دَاخِلًا فِيهِ . فَسَلْبُ إحْدَى الصِّفَتَيْنِ الْمُتَقَابِلَتَيْن عَنْهُ يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ الْأُخْرَى ، وَتِلْكَ صِفَةُ نَقْصٍ يُنَزَّهُ عَنْهَا الْكَامِلُ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ فَتَنْزِيهُ الْخَالِقِ عَنْهَا أَوْلَى . وَهَذِهِ الطَّرِيقُ غَيْرُ قَوْلِنَا إنَّ هَذِهِ صِفَاتُ كَمَالٍ يَتَّصِفُ بِهَا الْمَخْلُوقُ ، فَالْخَالِقُ أَوْلَى ، فَإِنَّ طَرِيقَ إثْبَاتِ صِفَاتِ الْكَمَالِ بِأَنْفُسِهَا مُغَايِرٌ لِطَرِيقِ إثْبَاتِهَا بِنَفْيِ مَا يُنَاقِضُهَا ".
واضح هذا أو لا .؟ هو واضح في الحقيقة ، إثبات صفات الكمال الآن له طريقتان ـ المؤلف بين ـ :
طريقا نقول هذه صفة كمال فيجب إثباتها لله . السمع صفة كمال يجب إثباتها لله .
طريق آخر أن نقول : يقابل السمع الصمم . والصمم صفة نقص ينزه الله عنها ، إذا كان ينزه عن الصمم لأنها صفة نقص فيجب إثبات السمع ، فصار إثبات السمع له طريقان مثل ما قال المؤلف ، كل طريق غير الثاني :
أولا : أن نقول السمع صفة كمال فيجب إثباتها لله ، وهذه طريقة منفصلة عن صفة النقص .
ثانيا أن نقول : السمع يقابله الصمم ، والصمم صفة نقص ينزه الله عنه ، فإذا نزه عن الصمم الذي هو النقص يجب ثبوت السمع لله عز وجل .
وقد علمتم فيما سبق ، وهذا الكتاب مثل ما قلت لكم مكرر ، علمتم فيما سبق أنه قد يعارض هذا فيقال : إن نفي أحد النقيضين يستلزم إثبات الآخر فيما يكون قابلا لهما ، أليس كذلك مر عليكم .؟
وقلنا : أن هذا مسلم لكن هذا أولا : أنه اصطلاح ، والاصطلاح لا يغير الحقائق .
وثانيا أن نقول : أيهما أكمل ما لا يقبل الاتصاف بهذه الصفات أو ما يقبلها .؟ ما يقبلها أولى مما لا يقبلها ، لأنك إذا قلت أن الله لا يقبل أن يكون سميعا ولا أصم ، شبهته الآن بأي شيء .؟ بالجمادات ، بالجدار والحصى وبالخشب وما أشبه ذلك ، لكن إذا قلت مثلا : إنه أعمى وحاشاه من ذلك ، وصفته بعين تقبل أن تكون بصيرة ، وما يقبل أن يكون بصيرا أولى مما لا يقبل أن يكون بصيرا .
وقد سبق الكلام على هذا يا جماعة ، وهذا في الحقيقة إذا عرفتم ما سبق في أول الكتاب سهل عليكم تصور هذه العبارات ، لأنه الحقيقة مثل ما قلت أنها مكررة ، والشيخ يحب أن يكرر الأشياء بأساليب مختلفة لأجل تثبيتها .