باب الصلح.
ثم قال المؤلف -رحمه الله- : " باب الصلح " :
الصلح: هو : " قطع الخصومة والنزاع بين المتخاصمين والمتنازعين " ، ويكون في مواضع كثيرة، منها: الإصلاح بين الزوجين، كما قال الله تعالى: (( وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً فلا جُناح عليهما أن يُصلحا بينهما صلحاً )) .
ولقوله تعالى: (( وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها أن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما )) .
ويكون كذلك بين الطوائف التي بينها عداوة، كما يحصل من العداوة بين القبائل، فيصلح بينهما، ومن ذلك قوله تعالى: (( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما)) .
ويكون أيضاً بين المسلمين والكفار في الحال التي لا يستطيع المسلمين أن يقاتلوا الكفار، فإنه يُجرى الصلح بينهم، كما جرى ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم مع قريش في صلح ؟
الطالب : الحديبية .
الشيخ : الحديبية، ولكن هل يصح الصلح إلى الأبد يعني: غير مؤجل، أو لا يصح إلا مؤجلاً لاحتمال قوة المسلمين؟
الذي يظهر أنه لا يجوز الصلح إلا مؤجلاً، لأن المسلمين قد تتغير حالهم ويكون عندهم قدرة على قتال الكفار، ولأن الصلح غير المؤجل يستلزم سقوط جهاد الكفار، لأنه لا يمكن إذا صالح المسلمون أحداً من الكفار أن ينقضوا العهد، إلا إذا نقض الكفار العهد، ولهذا قال الله عز وجل : (( إلا الذين عاهدتهم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً ولم يظاهروا عليكم أحدًا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين )) .
وقال فيما إذا خفنا منهم خيانة: (( وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء )) : يعني لا تغدرهم إذا خفت الخيانة لا تغدرهم وتنقض الصلح من جانب واحد ، بل انبذ إليهم على سواء ، وقل : لا عهد بيننا وبينكم، أما إذا نقضوا العهد فإنهم يقاتلون كما قال الله تعالى: (( ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدؤوكم أول مرة )) : فالصلح بين الكفار وبين المسلمين جائز عند الحاجة إليه .
ثم مقام المسلمين مع هذا العدو المصالح على ثلاث درجات:
الأولى: إذا لم يكن من هؤلاء نقض للعهد، فالواجب إيش؟
الطالب : إتمام العهد.
الشيخ : إتمام العهد.
الثاني: إذا خيف نقض العهد ولم ينقضوا العهد، فالواجب نبذ العهد، يعني: أن نخبرهم بأنه لا عهد بيننا وبينكم، لا نباغتهم وننقض العهد، بل نخبرهم.
الثالثة: إذا نقضوا العهد، فإنه لا عهد لهم، يسقط عهدهم وحينئذ نقاتلهم، وكل هذا موجود في كتاب الله عز وجل.
يكون الصلح أيضاً بين المتخاصمين في المال، وهذا كثير يقع في المعاملات كالبيع والإجارة والرهن وغير ذلك، وكل هذه الأمور الأصل فيها الجواز، هذا هو الأصل، لكن قد تكون واجبة، وقد تكون مستحبة، وإلا فلا أحد يمنع من الصلح بين المتخاصمين والمتنازعين أبداً، فالأصل الجواز.
عن عمرو بن عوف المزني رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً حرم حلالاً ، أو أحل حراماً ، والمسلمون على شروطهم إذا شرطاً حرم حلالاً أو أحل حراماً ) .
قوله: جائز يعني بذلك: الجواز التكليفي والجواز الوضعي ، كيف هذا ؟
في جواز تكليفي وجواز وضعي :
الجواز التكليفي: ضد المحرم، فمعنى جائز أي ليس بحرام .
الجواز الوضعي: بمعنى النافذ، جائز يعني نافذ ليس بفاسد، فضد الجائز من هذا الوجه ضده الفاسد الذي لا ينفذ.
إذن الصلح جائز من حيث التكليف الشرعي، وجائز من حيث الوضع، يعني أنه نافذ، ولا يجوز إبطاله، بل يجب إتمامه.
وقوله: ( بين المسلمين ) : هذا لا مفهوم له، لأنه قيد أغلبي، فإن الصلح بين المسلمين والكافرين جائز بالسنة الفعلية كما صالح النبي صلى الله عليه وسلم قريشاً في الحديبية.
قال: ( إلا صلحاً حرم حلالًا، أو أحل حراماً ) : فالصلح الذي يحرم الحلال ويحلل الحرام هذا ليس بجائز، وذلك لأنه مضاد لله عز وجل في حكمه، تصالح شخصاً على شيء محرم هذا لا يجوز، تصالحه على شيء تحرمه عليه وهو حلال له بالشرع هذا لا يجوز .
مثال الأول: رجل حصل بينه وبين زوجته نزاع، فاصطلحا على أن يطلق زوجته الأخرى، هذا الصلح لا يجوز، لماذا؟
لأنه أحل حراماً، ما هو الحرام؟
الاعتداء على حق الزوجة الأخرى، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام : ( لا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في صحفتها ) فهذا صلح محرم غير نافذ.
طيب صار بين شخص وآخر خصومة ونزاع ، فصالحه على أن يبيحه فرجَ أمته لمدة أسبوع الحكم؟
الطالب : حرام .
الشيخ : حرام ؟
الطالب : نعم .
الشيخ : لماذا ؟
الطالب : لأنه حرام .
الشيخ : لأنه أحل حرامًا إذ لا تجوز استباحة الفرج إلا بنكاح أو ملك، وهذا ليس نكاحاً ولا ملكاً.
طيب تحريم الحلال: صالحه على ألا يأكل الخبز لمدة ثلاثة أيام يجوز هذا ولا لا ؟
الطالب : يجوز .
الشيخ : طيب الخبز ما هو حلال ؟ طيب يقول : ويش عليك مني أنا باكل الي أبيه ، فهل يصح أو نقول هذا من باب تحريم الحلال ؟
نعم هذا ينظر إذا كان فيه مصلحة فإن جميع المصالحات لا بد فيها أن يحرم الإنسان من الحلال الذي أحله الله له ، لأن الصلح لا بد فيه من أن يتنازل الإنسان عن شيء من حقه، وهذا التنازل يقتضي إيش؟
تحريم الحلال باعتبار الصلح، ما هو تحريم شرعي .
طيب شخص آخر قال لشخص بينه وبينه معاملة ، قال: أنا لا أُقر لك إلا إذا أسقطت عني نصف الدين ، ما تقولون ؟
الطالب : حرام .
الشيخ : هذا حرام، ليش ؟
لأنه يحرم الحلال، الحلال : هو أن صاحب الدين له المطالبة بجميع حقه، فإذا صالحته على أن يسقط عنك نصف الدين فقد حرمت عليه الحلال، ولا لا؟
الطالب : بلى .
الشيخ : ما هو الحلال الذي حرمت عليه؟ بقية دينه، وهذا لا يجوز .
طيب فإن أقر له، وتوسط أُناس بينهما على أن يُسقط عنه بعض الدين بعد الإقرار يجوز، لأن هذا ليس بصلح، إذ إن الحق قد ثبت الآن، لكن هذا من باب الشفاعة على إسقاط بعض الحق ، وهذا جائز : ( اشفعوا تؤجروا ).
فهناك فرق بين من يقول: لا أصالحك إلا بكذا، فيمنع حقه ، وبين شخص تم الإقرار وثبت له الحق ثم شفع إليه شخص آخر على أن يسقط منه، فهذا لا بأس به وهو جائز، ولا يعد هذا من باب الصلح الذي أحلَّ حراماً أو حرم حلالاً بل هو من باب الشفاعة التي أسقط بها الإنسان بعض حقه.
طيب رجل عنده دين لشخص يحل بعد سنة، فاصطلحا على أن يُعجل الدين، ويُسقط بعضه،اصطلحا على ذلك، وأقر له، قال: نعم، عندي لك ألف ريال لكن أنا إذا تُحب أعطيك ثمان مئة الآن نقداً وتسمح عن المئتين، قال: ما عندي مانع، هذا جائز على القول الراجح، على القول الراجح جائز ، لأنه ليس فيه ربا، هذا فيه مصلحة للطرفين ، ما فيه ربا لأن صاحب الحق لم يأخذ أكثر من حقه بل أخذ أنقص من حقه ، واستفاد المطلوب بماذا؟
بسقوط بعض ما عليه واستفاد الطالب بالتعجيل ففيه مصلحة ، والربا على العكس من ذلك، الربا فيه ظلم لأحد الطرفين .
وذهب بعض العلماء إلى أن هذا لا يجوز، قال: لأن هذا شراء مؤجل بمعجل وأنت لو اشتريت ألف ريال بثمان مئة نقداً لكان هذا ربا لا يجوز، قال: فهذا مثله، لأنك أخذت الآن ثمان مئة عن ألف، ولكن هذا القول قول ضعيف ، لأن هذا ليس من باب المعاوضة، هذا من باب الإسقاط، صحيح لو أنني جئت واحد ثالث، وقلت تعال أنا طلب من فلان ألف ريال اشتر الألف ريال التي في ذمته مني بثمان مئة ، أعطني ثمان مئة وأنا أحيلك عليه يجوز هذا ولا ؟
الطالب : لا .
الشيخ : هذا لا يجوز، لأن هذا هو الشراء الصحيح هذا هو البيع ، أما رجل أبرأته من بعض دينه على أن يعجله لي فليس في هذا ربا ولا بيع وشراء أيضا، هذا يسمى إسقاطا وإبراءً.
والحاصل: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطانا قاعدة أصَّلها لنا: ( الصلح جائز إلا صلحاً أحل حراماً ، أو حرم حلالاً ) وهذا يشمل كل شيء .
طيب هل يشمل المصالحة على الدية فيمن ثبت عليه القصاص؟
يعني: رجلٌ قتل رجلا عمداً عدوانا محضاً، فطالب أولياء المقتول بالقصاص، فثبت القصاص: فصالح المحكوم عليه أولياء المقتول على أن يسقطوا عنه القصاص بمال ، يجوز ولا لا ؟
الطالب : يجوز .
الشيخ : جائز .
الطالب : ما يجوز .
الشيخ : ليش؟ ما هو يحرم حلالاً؟
الطالب : جائز .
الشيخ : نعم هذا جائز ، ولكن هل يجوز المصالحة بأكثر من الدية، يعني الدية مثلاً عندنا الآن مئة ألف، قال أولياء المقتول: لا نسقط القصاص عنك إلا إذا أعطيتنا مليونا ؟
الطالب : لا يجوز .
الشيخ : يجوز؟
الطالب : لا .
الشيخ : هذا فيه خلاف، قولان ابن جني ولا قولان تعرفهم ، طيب ، على كل حال هذا فيه خلاف :
فمن العلماء من يقول: لا يجوز أن يصالح بأكثر من الدية ، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: ( مَن قتل له قتيل فهو بخبر النظرين إما أن يقتل وإما أن يودى ) ولم يذكر شيئاً ثالثاً .
ومن العلماء من قال: إنه يجوز، لأن هذا هو الذي ورد عن الصحابة رضي الله عنهم، ولأن هذا حق لأولياء المقتول فلهم ألا يسقطوه إلا بعوض يريدونه.
على كل حال: إذا قلنا بالمصالحة بمقدار الدية فالأمر فيه ظاهر، وإذا قلنا بالمصالحة بأكثر، فهل يدخل تحت الحديث: ( الصلح جائز بين المسلمين ) أو نقول: يدخل تحت الحديث في قوله: ( إلا صلحاً أحلَّ حراماً ) ، لأن هذا الصلح أحل حراما ًوهو الأخذ من مال القاتل أكثر من الدية؟
الظاهر الأول، أنه داخل في الصلح، لأن أخذنا من مال القاتل هنا باختياره ولا بغيره اختياره ؟
الطالب : باختياره .
الشيخ : باختياره ليس مكروهاً على ذلك ولا مكرهاً عليه، ولأنه هو الذي تسبب لاستباحة دمه، فإذا كان هو الذي تسبب في استباحة دمه فقد اشترى دمه، يعني أنه هو السبب الأول والأخير.
طيب ثم قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( والمسلمون على شروطهم إلا شرطا حرم حلالاً ، أو أحل حراماً ) : المسلمون على شروطهم يعني: أنهم إذا اشترطوا شُروطاً فإن هذه الشروط لازمة، هم على ما هم عليه ، ودليل هذا من القرآن قوله تعالى: (( يا أيها الذين امنوا أوفوا بالعقود )) ، فإن الوفاء بالعقد يتضمن الوفاء بأصله ووصفه، والشروط من أوصاف العقود، ولقوله تعالى: (( وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا )) ، والذي اشترط على نفسه شرطاً قد تعهد به ، فيكون داخلا في ذلك .
إذن المسلمون على شروطهم، متى ثبتت الشروط بين المتعاقدين وجب الوفاء بها ، إلا أن يسقطها من هي له ، فإن أسقطها من هي له فهي حقه، يعني: لو قال الذي شُرط له هذا الشرط: أنا أسقطته فله ذلك ، مثاله : باع شخص على آخر بيتاً واشترط البائع سكنى البيت لمدة سنة فوافق المشتري على هذا، يلزم الوفاء به؟
الطالب : نعم يلزم .
الشيخ : يلزم ، يعني معناه : أنه لا يجوز للمشتري أن يمنع البائع من سكناه هذه المدة .
طيب فإن قال البائع: أنا أسقطت شرطي ولا أريد السكنى ، لأن الله يسر لي بيتاً ولا أريد هذا البيت له ذلك؟
الطالب : نعم .
الشيخ : له ذلك، لأنه أسقط حق نفسه، ولا مانع من أن يسقط الإنسان حق نفسه لأنه له .
طيب قال: ( إلا شرطاً حرم حلالاً أو أحل حراماً ) ، ( حرم حلالاً ) : حرم حلالاً لأنه إذا حرم حلالاً صار مضاداً لحكم الله عز وجل .
( أو أحل حراماً ) كذلك إذا أحل حراماً فهو مضادة لحكم الله .
طيب مثال الأول : ( أحل حراماً ) : إذا قال: بعتك مئة ريال إلى أجل بمئة ريال إلى أجل ، بعتك مئة ريال بمئة ريال إلى أجل هذا بيع مشترط فيه الأجل هل يصح اشتراط هذا الأجل؟
الطالب : لا .
الشيخ : لا ، لماذا ؟ لأنه ربا أحل حراماً ، إذ إن بيع الفضة بالفضة لا بد فيه من التقابض ببذل العقد .
طيب قال: بعتك مئة درهم بتسعين درهماً نقداً ، يعني: بشرط ألا أعطيك إلا تسعين درهماً .
الطالب : ما يجوز .
الشيخ : ما يجوز؟
الطالب : نعم .
الشيخ : ليش؟
الطالب : لأنه أحل حراماً .
الشيخ : لأنه أحل حراماً .
طيب بعتك هذه الناقة بشرط أن تبعني ما في بطن ناقتك ؟
الطالب : ما يجوز .
الشيخ : ليش؟
الطالب : مجهول .
الشيخ : لأن الشرط مجهول .
طيب بعتك هذا البيت بشرط أن ترهنني ولدك ؟
الطالب : ما يجوز .
الشيخ : ليش؟
الطالب : لأنه حر .
الشيخ : لأن رهن الولد لا يصح حرام.
الثاني: قال: ( أو أحل حراماً ) مثل ؟
الطالب : حرم حلالاً .
الشيخ : ما أخذنا هذه ؟ الأمثلة على تحليل الحرام .
طيب تحريم الحلال يعني: باعه شيئاً وقال له: أبيعك هذا الشيء بشرط أن تمتنع من معاشرة زوجته مثلاً ، أو أن تمتنع من شيء آخر غير هذه المسألة مما أحله الله له، فهذا أيضاً لا يجوز، ولكن كما قلت لكم قبل قليل: إن كل الشروط فلا بد فيها من إسقاط مباح ، حتى المصالحة فلا بد أن يكون هناك شرط يحرم الحلال الذي أحله الله على كل حال ، فيأتي هذا الشيء ويحله هذا لا يجوز.
طيب شرط الولاء للبائع ؟
الطالب : لا يجوز .
الشيخ : لا يجوز ، ليش؟
الطالب : لأنه حرم حلالا .
الشيخ : هل هو أحل حراماً أو حرم حلالاً ؟
الطالب : حرم حلالاً .
طالب آخر : أحل حراما .
الشيخ : طيب ما يخالف ما يخالف !
الطالب : بالنسبة للبائع .
الشيخ : بالنسبة للبائع وبالنسبة للمشتري صحيح ، بالنسبة للبائع أحل له حراماً، ولا لا ؟
الطالب : أي نعم .
الشيخ : ليش؟ لأن الولاء ليس له، فأحل له الحرام، بالنسبة للمشتري ؟
الطالب : حرم حلالا .
الشيخ : حرم عليه الحلال، لأن الولاء من حقوقه، فإذا اشترط عليه للبائع ففيه تحريم الحلال.
طيب يستفاد من هذا الحديث فوائد كثيرة ، أظنه انتهى الوقت .
2 - عن عمرو بن عوف المزني رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً حرم حلالاً ، أو أحل حراماً ، والمسلمون على شروطهم إذا شرطاً حرم حلالاً أو أحل حراماً ) . أستمع حفظ
شرح قول المصنف : " رواه الترمذي وصححه ، وأنكروا عليه لأن راويه كثير بن عبدالله بن عمرو بن عوف ضعيف ، وكأنه اعتبره بكثرة طرقه ، وقد صححه ابن حبان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ".
أن يكون الراوي عدلاً تام الضبط.
ويكون السند متصلاً.
وأن يكون غير معلل ولا شاذ، هذا هو الصحيح .
فالترمذي -رحمه الله- صحح الحديث، لكن أنكروا عليه، الذي أنكر عليه أئمة المحدثين، وقالوا: كيف يصح ؟ لأن راويه كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف وهو ضعيف، ونحن نقول: مِن شروط الصحيح أن يكون الراوي عدلاً تام الضبط، فإذا كان الراوي ضعيفاً فإننا نحكم بضعفه، ولا نقول صحيحاً، وبناء على ذلك هل لك إذا رأيت الحديث بسند ضعيف تعرف أن أحد رواته ضعيف هل لك أن تقول: إنه ضعيف؟
الطالب : لا .
الشيخ : لا ، لأنه ربما يُروى بسند آخر ما اطَّلعت عليه ، فإذا أردت أن تقول : ضعيف ، فإما أن تتبع الطرق فلا تجد طريقاً آخر لهذا الحديث .
وإما أن تقيد، فتقول: هو ضعيف من هذا الوجه، لأنك إذا قلت: ضعيف من هذا الوجه خرجت من عهدته، لكن إذا قلت: ضعيف وحكمت عليه بالضعف فربما يكون قد أتى مِن طريق آخر صحيح، فتكون حكمت على الحديث بالضعف الموجب لرده وهو من كلام الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذه مسألة ليست هينة.
ولذلك لا ينبغي للإنسان أن يحكم على ضعف الحديث بمجرد أنه يجده بسند ضعيف، إلا إذا تتبع الطرق ولم يجده مروياً إلا من هذا الوجه فحينئذٍ يحكم بضعفه، وإلا فيجب عليه أن يقيد ويقول: هو ضعيف من هذا الوجه حتى يخرج من عهدته.
وكما قرأنا في علم المصطلح أن الرجل قد يكون ضعيفاً باعتبار شيخ من المشايخ، يعني: أن روايته عن هذا الشيخ ضعيفة وروايته عن المشايخ الآخرين صحيحة، عاصم بن أبي النجود أحد القراء الذين تُلقي القرآن منهم ومع ذلك هو في الحديث ضعيف، لأن الرجل جَعل همته كلها في القرآن والبحث عن طرق القرآن فاشتغل بهذا، بتحقيق القرآن عن الأحاديث، فلهذا صار من حيث السند في الأحاديث ضعيف لكن في القرآن حجة تلقته الأمة كلها بالقبول.
على كل حال أنا أقول: حتى لو كان الراوي ضعيفاً فاعلم أنه قد يكون ضعيفاً بالنسبة لشخص، قوياً بالنسبة لشخص آخر، فإذا روى هذا الرجل الحديث عن فلان قلنا: ضعيف، إذا روى عن فلان آخر قلنا: صحيح، ولهذا تجدون في بعض الأحيان في تراجم الرواة: فلان ضعيف في شيخه الفلاني، يعني: إذا روى عن هذا الشيخ صار ضعيفاً، فلان ضعيف في الشاميين، فلان ضعيف في المكيين، ولهذا علم الحديث في الحقيقة من أشد العلوم حاجة إلى المواصلة والتعهد، لأنه دقيق.
علم الفقه وغيره من المعلوم يقدر الإنسان يحيط به بسهولة، لكن هذا لا يقدر، لأنه مشكل، إن اعتمد على تصحيح رواية هذا الرجل من طريق واحد وهو ضعيف في الطرق الأخرى صار الجاهل كلما وجد هذا الرجل قال: إن الحديث صحيح، لأنه ما عهد أنه يكون صحيحاً من وجه، إن روى من هذا الوجه فهو صحيح وإن روى من وجه آخر فهو ضعيف، فعِلم المصطلح علم مهم، علم شريف، يحتاج إلى عناية وتعب .
الترمذي -رحمه الله- صحح الحديث لكنهم أنكروا عليه لهذا السبب، قال: وكأنه اعتبر -هذا اعتذار عن الترمذي من ابن حجر- : " كأنه يعني الترمذي اعتبره أي اعتبر الحديث بكثرة طرقه " ، واستفدنا من هذا فائدة:
أن الضعيف بكثرة الطرق يُصحح، لكن هذا أيضاً فيه نظر، لأن الضعيف بكثرة الطرق يصل إلى درجة قبل الصحة ما هي؟
الحسن، لكن الترمذي أحياناً يريد بالصحيح الحسن، وهذا اصطلاح خاص بالترمذي، أحياناً يريد بالصحيح الحسن، فيكون معنى تصحيحه إياه أنه حجة لا أنه بلغ الرتبة العليا من الحكم ، لكن صحيح أي أنه حجة مقبول ، ومعلوم أن الحديث الحسن عند العلماء حجة مقبول، يعمل به، طيب هذه نكت جيدة في علم المصطلح.
قال : " وقد صححه ابن حبان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه " : يعني: إذن من طريق آخر، ولا لا ؟
الطالب : نعم .
الشيخ : حديث أبي هريرة ، صححه ابن حبان وحينئذٍ يكون هذا الحديث الذي صححه ابن حبان عن أبي هريرة يكون شاهداً، ولا متابعاً ؟
الطالب : شاهداً .
الشيخ : يكون شاهداً ، لأنه جاء من حديث صحابي آخر ، لكن لو جاء من حديث شيخ آخر ، والصحابي واحد يسمى متابعاً.
3 - شرح قول المصنف : " رواه الترمذي وصححه ، وأنكروا عليه لأن راويه كثير بن عبدالله بن عمرو بن عوف ضعيف ، وكأنه اعتبره بكثرة طرقه ، وقد صححه ابن حبان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ". أستمع حفظ
ما حكم من ضعف الحديث بناء على تضعيف الأئمة كالإمام أحمد وغيره ؟
الشيخ : نعم ، على كل حال أنت إذا وثقت بالرجل لا بأس أن تقلده مثل مسائل الفقه ، لكن الأولى أن تقيد ، تقول : ضعفه الإمام أحمد لأنه قد يكون غيره ما ضعفه ، وهذا كثير اقرأ التقريب مثلاً لابن حجر ، شوف كيف ، اقرأ التهذيب شوف كيف العلماء يختلفون في تضعيف الرجل ، بعضهم أحياناً يقول لك شيء ، أحياناً يقول متروك ، ويوجد ثاني يقول هذا ثقة ، ولهذا في الحقيقة أن علم الحديث ما هو بالأمر الهين ، يجي واحد من المتأخرين ويصحح هذا الحديث بناءً على توثيق أحد الأئمة لهذا الرجل مع أن أكثر الأئمة ضعفوه هذا خطأ ما هو صحيح .
تتمة شرح حديث: (عمرو بن عوف المزني رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً حرم حلالاً ، أو أحل حراماً ، والمسلمون على شروطهم إذا شرطاً حرم حلالاً أو أحل حراماً رواه الترمذي وصححه ، وأنكروا عليه لأن راويه كثير بن عبدالله بن عمرو بن عوف ضعيف ، وكأنه اعتبره بكثرة طرقه ، وقد صححه ابن حبان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ) .
الطالب : الفوائد !
الشيخ : طيب ، ما يخالف ، نقول أيضًا :
الصلح أنواع : صلح في الحقوق، وصلح في الأموال، وصلح في الحروب، وصلح في السلم، وذكرنا من صلح الحروب صلح الحديبية الواقع بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش.
الصلح في الحقوق كالصلح بين الزوجين.
الصلح في الدماء كالصلح بين الطائفتين المقتتلين.
الصلح في الأموال يدخل فيه هذا الحديث العام: ( الصلح جائز بين المسلمين ) .
طيب الصلح قال العلماء: الصلح -نشرح الآن لأننا ما كملنا الشرح- الصلح في الأموال إما على إقرار وإما على إنكار :
الصلح على الإقرار: أن يدعي شخص على آخر بشيء فيقر له، ثم يصالحه على عوض عنه، سواء كان المدعى ديناً أو عيناً ، فهمتم هذا ؟
الصلح على الإقرار: أن يدعي شخص على آخر بشيء فيقر له المدعى عليه ، ثم يصالحه بعوض عنه سواء كان المدعى به دينا أم عيناً، وهذا لا شك في جوازه من الطرفين .
مثال ذلك: ادعى شخص على آخر بألف ريال ، عندي لك ألف ريال ولا أنفقها ، ولكن أريد أن أصالحك على هذا المسجل ، يعني أعطيك هذا المسجل بدل عن ألف ريال ، فوافق ، يجوز هذا ولا لأ ؟
الطالب : يجوز .
الشيخ : يجوز ، وسواء كان المسجل يساوي ألف ريال ولا ما يساوي أو يساوي أكثر .
الصلح على عين ، يعني إذا كان المدعى به عينا ، قال شخص آخر : أنا أدعي عليك بأن ها المسجل لي ، قال : نعم ، أنا أُقر بذلك ، لكن أريد أن أُصالحك على أن تأخذ بدلا عنه مسجلي ، يجوز ؟
الطالب : يجوز .
الشيخ : يجوز ، يجوز من الطرفين ولا إشكال فيه ، وحقيقته أنه بيع ، وإن سمي صلحا فهو بيع .
طيب صالحته عن دين مؤجل ببعضه حالَّا ، يعني شخص يطلب شخصا مئة ريال مؤجلة إلى سنة ، فقال : أُصالحك على ثمانين ريالا حاضرة ، نقدا ، يجوز أو لا ؟
الشيخ : يجوز .
الطالب : على القول الراجح .
الشيخ : على القول الراجح يجوز ، لأن ها ليس من الربا في شيء فإن صاحب الحق لم يأخذ زيادة ، وإنما إيش ؟ تنازل أسقط فهو ضد الربا في الواقع ، لكنه انتفع بشيء وهو : تعجيل حقه ، فالطالب انتفع بالتعجيل والمطلوب انتفع بماذا ؟ بالإسقاط فلا ظلم لا في هذا ولا في هذا .
الصلح على إنكار : أن يدعي شخص على آخر بألف ريال ، فقول المدعي : لا ، ما لك عندي شيء ، ثم يخشى أن يحاكمه فيقول : أنا أصالحك عن الألف ريال بثمانمئة ريال وفكني ، أعطيك بدل ألف ريال ثمانمئة ودعنا من الخصومة والنزاع ، هذا جائز ، جائز في حق المظلوم حرام في حق الظالم ، أيهما الظالم ؟
الطالب : المدعي .
طالب آخر : المدعى عليه .
الشيخ : خطأ ، إن قلت المدعي فخطأ ، وإن قلت المدعى عليه فخطأ .
الطالب : كلاهما قد يكون .
الشيخ : يحتمل ، إذا كان المدعي كاذبا فالمظلوم المدعى عليه المنكر ، لكنه افتدى بثمانمئة عن الألف خوفا من المحاكمة ، طيب إذا كان المنكر هو الكاذب ، والمدعي صادق له في ذمة هذا الرجل ألف ريال والمنكر كاذب ، الذي جحد كاذب ، فهنا الظالم المدعى عليه ، طيب الصلح هذا جائز ، جائز ونافذ ، نافذ ظاهرا ، انتبه نافذ ظاهرا ، يعني في ظاهر الحكم ، في ظاهر الناس نافذ ، لكن في الباطن : أي فيما بين الإنسان وبين ربه لا ينفذ في حق الظالم ، ويبرأ منه يوم القيامة ولا لأ ؟
الطالب : ما يبرأ .
الشيخ : ما يبرأ ، لأنه ظالم إما معتد في الدعوى ، أو معتد في الإنكار ، إن كان الكاذب المدعي فهو معتد في الدعوى ، وإن كان الكاذب المنكر فهو معتد في الإنكار .
المهم أن هذا الصلح صحيح ظاهرا ، فاسد باطنا ، فلو كان المصالح عليه عيناً لم يحل للظالم الانتفاع بها ، يعني مثلا : ادعى عليه بألف ريال ، قال : والله ما عندي ألف ، ما عندي لك شيء ، فلما رأى أنه سيحاكمه قال : أصالحك عن هذا بهذا المسجل فأخذه المدعي والمدعي كاذب ، فاستعماله لهذا المسجل حلال ولا حرام ؟
الطالب : حرام .
الشيخ : حرام ، كل مرة يستعمله فهو آثم لأنه ظالم معتدي .
فصار الصلح الآن نوعان :
على إقرار ، وعلى إنكار .
والذي على إقرار إما على عين وإما على دين وكلاهما جائز صحيح ، لأنه برضى الطرفين وليس فيه كذب ولا إنكار .
والنوع الثاني صلح على إنكار : فها حكمه أنه جائز صحيح في حق المظلوم ، حرام فاسد في حق الظالم ، سواء كان هو المنكر أو هو المدعي .
طيب الشروط : الشروط الأصل فيها الحل إلا ما أحل حراما أو حرم حلالا ، والشروط يجب الوفاء بها ، لقول الله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود )) والأمر للوفاء بالعقد شامل للوفاء بأصل العقد وبوصفه ، ووصف العقد : هي الشروط المشروطة فيه ، فهمتم يا جماعة ؟ طيب .
الأصل فيها إيش ؟ الحل ، بناء على القاعدة :
" والأصل في الأشياء حل وامنعِ *** عبادة إلا بإذن الشارع " :
هذا بيت مفيد جدا ، " والأصل في الأشياء حل " : كل الأشياء الأصل فيها الحل .
" وامنع *** عبادة إلا بإذن الشارع " : فالأصل في العبادات الحظر إلا بإذن الشارع ، والأصل في غير العبادات من الأعيان والمنافع والشروط وغيرها الأصل فيها الحل .
طيب ويدل لذلك أيضاً : قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ) ، فأما ما في كتاب الله حله فهو صحيح نافذ ، إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا .
طيب ادُّعي على رجل بمئة ألف يا ياسر ، فصالح المدعي بولده ما تقول ؟
الطالب : لا يجوز ، لأنه أحل حراما .
الشيخ : يقول : لا يجوز ، صالح على المئة ألف بالولد ، قال : خذ ولدي بدلا عنها ، يقول : ما يجوز ، ليش ؟
الطالب : لأنه حر .
الشيخ : لأنه حر ، لأن هذا أحل حراما وهو استرقاق الحر ، واسترقاق الحر محرم ، يقول الله عز وجل في الحديث القدسي : ( ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة : رجل أعطى بي ثم غدر ، ورجل باع حرًا فأكل ثمنه ، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره ) ، هؤلاء خصمهم الله عز وجل ، ومن كان الله خصمه فهو مخصوم بلا شك ، مغلوب .
طيب : رجل باع على شخص أمَة ، واشترط البائع على المشتري أن يطأها البائع لمدة سنة ، ما يقول آدم ؟
الطالب : ما يجوز .
الشيخ : كيف ما يجوز ؟
الطالب : إي نعم .
الشيخ : البائع ما هو المشتري الذي اشترط ، طيب اشترط المشتري أن يطأها لمدة سنة ، أو أن يطأها دائمًا ؟
رجل اشترى أمة واشترط على البائع أن يطأها دائما ؟
الطالب : ما يجوز .
الشيخ : ما يجوز ! طيب توافقونه يا خالد في المسألتين ؟
الطالب : أما على الصورة الأولى !
الشيخ : المسألة الأولى : إذا اشترط البائع على المشتري أن يطأ الأمة لمدة سنة !
الطالب : هذا ما يجوز .
الشيخ : لا يجوز .
الطالب : ليس له ذلك لأن هذا لا يحل إلا بنكاح أو يمين .
الشيخ : ها ، نعم .
الطالب : أما الثانية : فهذا دائما ، ليس شرطا لأنها ملكه الآن صارت .
الشيخ : كيف ؟
الطالب : إي نعم .
الشيخ : المشتري اشترط على البائع أن يطأ الأمة ؟
الطالب : إي نعم ، نقول : هي صارت ملكه .
طالب آخر : لا يجوز .
الشيخ : شلون لا ؟
الطالب : المشتري أن يطأ البائع الأمة !
الشيخ : لا لا ، اشترط المشتري على البائع أن يطأ الأمة .
الطالب : الشرط ها لا داعي له .
الشيخ : ها ؟
الطالب : ما له داعي .
الشيخ : هذا توكيد .
طيب ، إذن آدم أصاب في مسألة وأخطأ في أخرى طيب .
الفوائد الآن : نأخذ فوائد الحديث، هذا الحديث فيه فوائد :
فأولا : قبل الفوائد الفقهية يقول المؤلف -رحمه الله- : إن الترمذي صحح الحديث ، وأن أهل الحديث أنكروا عليه لأن راويه ضعيف ، ولكنه اعتذر عن الترمذي بأنه : اعتبره بكثرة الطرق ، وهذا في الحقيقة من ابن حجر -رحمه الله- من الأخلاق الفاضلة ، أن الإنسان يلتمس العذر لأخيه ما وجد له محملا ، لاسيما إذا كان الإنسان المعتذر عنه معروفا بالاستقامة والنصح ، فإنه لا ينبغي للإنسان أن يتتبع هفواته وزلاته ، بل يعتذر عنه ما أمكن ، فاحمل الكلام على أحسن ما وجدت له محملا ، أما من تتبع هفوات الناس فإنه يدخل في الحديث : ( يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه ، لا تؤذوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم ، فإنه من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته ، ومن تتبع الله عورته فضحه ولو في جحر أمه ) ، نعوذ بالله ، لكن الإنسان الفاضل هو من يلتمس العذر لإخوانه ، كما أنه هو لو أخطأ يحب أن يلتمس له غيره العذر .
طيب لكن الواقع أن ابن حجر قال : إنه ضعيف ، والعلماء تكلموا فيه كلاما شديدا ، وكلمة ضعيف كلام رخو ، فها عندي في الحاشية يقول : " قال الشافعي وأبو داود : هو ركن من أركان الكذب " الذي هو كثير ، ولكن الحديث من حيث المعنى صحيح ، لا شك فيه ، تشهد له الأدلة الشرعية ، ولعل المؤلف ، الترمذي صححه لا باعتبار السند ، ولكن باعتبار المتن .
5 - تتمة شرح حديث: (عمرو بن عوف المزني رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً حرم حلالاً ، أو أحل حراماً ، والمسلمون على شروطهم إذا شرطاً حرم حلالاً أو أحل حراماً رواه الترمذي وصححه ، وأنكروا عليه لأن راويه كثير بن عبدالله بن عمرو بن عوف ضعيف ، وكأنه اعتبره بكثرة طرقه ، وقد صححه ابن حبان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ) . أستمع حفظ
فوائد حديث : ( الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً حرم حلالاً ... ).
أولاً: جواز الصلح بين المسلمين لقوله: ( الصلح جائز ) ، وقد ذكرنا أن كلمة جائز تشمل الجواز التكليفي ، ها ؟
الطالب : والوضعي .
الشيخ : والجواز الوضعي، فنقول في الجواز التكليفي: جائز وليس بحرام، ونقول في الجواز الوضعي: نافذ وليس بممنوع أو بفاسد.
فإن قال قائل: منطوق الحديث جواز الصلح بين المسلمين، مفهومه عدم جواز الصلح بين المسمين والكافرين أو بين الكافرين ؟
فيقال: هذا القيد أغلبي : ( بين المسلمين ) ، والقيد الأغلبي لا يكون مفهومه مخالفاً لمنطوقه، ولهذا جرى الصلح بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش، وهو صلح بين مسلمين وكافرين، وكذلك لو تصالح كافران واحتكما إلينا، وجب علينا أن ننفذ الصلح إذا لم يكن مخالفاً للشرع، إذن هذا القيد إيش؟
الطالب : أغلبي .
الشيخ : أغلبي.
ومن فوائد هذا الحديث: أن حكم الله سبحانه وتعالى لا يغيره حكم المخلوق ، من أين يؤخذ؟
( إلا صلحا حرم حلالا، أو أحل حراماً ) ، فكل شيء يجري بين الناس مخالفاً للشرع فإنه لا ينفذ، لأن حكم الله هو الحكم الأحسن: (( ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون )) .
ومن فوائد الحديث أيضاً: جواز الشروط بين الناس لقوله: ( والمسلمون على شروطهم ) ، وكذلك نقول في المسلمون على شروطهم إنه قيد أغلبي ، فإذا وجدت الشروط بين المسلم والكافر في عقد من العقود فهي ثابتة نافذة ، وكذلك لو وُجد شروط بين الكافرين في عقد من العقود فهي نافذة .
ومن فوائد الجملة الأخيرة: أن الشرط المخالف للشرع باطل غير جائز ولا نافذ ، لقوله: ( إلا شرطاً حرم حلالا، أو أحل حراماً ) .
ومن فوائده: أن حكم الشرع فوق حكم المخلوق ، ولهذا إذا خالف شرط المخلوق شرط الخالق وجب إبطاله .
ومن فوائد الحديث: مِن عمومه، بطلان جميع الأنظمة المخالفة للشرع، لأن الأنظمة المخالفة للشرع شروط توضح بوضع البشر، فكل القوانين المخالفة للشرع مهما كان وضعها فهي فاسدة، لا يجوز تنفيذها، بل يجب إبطالها، وقد أبطل النبي صلى الله عليه وسلم الشرط الفاسد حتى بعد أن اشتُرط في قصة من؟
الطالب : بريرة .
الشيخ : في قصة بريرة ، طيب.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره ) ، ثم يقول أبو هريرة : مالي أراكم عنها معرضين ؟ والله لأرمين بها بين أكتافكم . متفق عليه .
يجوز في : ( يمنع ) وجهان: الوجه الأول: لا يمنعُ، والوجه الثاني: لا يمنعْ، فعلى الوجه الأول تكون لا نافية، والفعل بعدها ؟
الطالب : مرفوع.
الشيخ : مرفوع، لأن لا النافية لا تغير الفعل، وعلى الوجه الثاني: لا يمنعْ ؟
الطالب : ناهية .
الشيخ : ناهية ، والفعل بعدها مجزوم.
فإن قال قائل: هي ناهية واضح ، أن الرسول بنهى ، لكن إذا كانت نافية ؟
فنقول: هذا النفي بمعنى النهي، ويأتي النفي بمعنى النهي تأكيداً، يعني: كأنه لا يمكن أن يمنع جارٌ جاره، فيكون هذا أبلغ من النهي، ولهذا قال العلماء: " قد يأتي الخبر بمعنى الأمر ، وقد يأتي النفي بمعنى النهي " ، فقوله تعالى: (( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء )) : هذا خبر لكنه بمعنى الأمر، وهذا الحديث : ( لا يمنع جار ) خبر بمعنى النهي .
طيب قوله: ( جارٌ جاره أن يغرز خشبة في جداره ) : خشبة فيها أيضاً وجهان : خشبَهُ على أنها جمع، وخشبة على أنها مفرد.
طيب فإذا قلنا بالجمع خشبَهُ فهذا عام، وصيغة العموم أنه جمع مضاف، والجمع المضاف يفيد العموم.
وعلى رواية الإفراد خشبة نقول: هو نكرة في سياق النفي أو النهي فيكون عاماً : أي خشبة تكون، وعلى هذا فمؤدى اللفظين إيش؟
الطالب : واحد.
الشيخ : واحد ، طيب قوله عليه الصلاة والسلام : ( لا يمنع جار جاره ) : المراد بالجار هنا: الجار الملاصق، لأن خشبة الجار لا توضع على الجدار إلا إذا كان الجار ملاصقاً، طيب أما الجار الذي ليس بملاصق فلا يَرِد عليه هذا الحديث وإن كان له حق لكن لا يدخل في هذا الحديث.
وقوله عليه الصلاة والسلام: ( أن يغرز خشبة ) : يغرزها يعني: يغرسها، يحفر لها حفرة ويدخلها فيها، أو أن يضعها على ظهر الجدار، فالغرز هنا ليس بشرط، يعني الغرز: أن يفتح مكاناً للخشبة ويدخلها فيه، ووضعها على ظهر الجدار واضح.
وإذا كان الرسول نهى أن يغرز فالنهي عن وضعها على ظهر الجدار من باب أولى، نعم لأن الغرز نهى أن يُمنع، إذا كان الرسول نهى أن يمنع الجار جاره من غرز خشبة فنهيه عن منع جاره من وضع الخشبة على ظهر الجدار من باب أولى لأن الغرز أشد.
وقوله: ( في جداره ): جدار الجار ولا جدار المانع ؟
الطالب : كلها واحد .
الشيخ : لا، جدار المانع ، لأن جدار الجار لا يمكن أن ينهى عنه الرسول، معروفة الجدار جداره ، واضح ؟ والله ما أدري عنكم !
الطالب : واضح .
الشيخ : ( لا يمنعن جارٌ جاره أن يغرز خشبة أو خشبه في جداره ) أي : في جدار الجار المانع ، لا في جدار الواضع ، لأنه إذا كان الجدار للواضع ما أحد يمانع، هو ملكه، لكن الكلام على جدار المانع، طيب.
7 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره ) ، ثم يقول أبو هريرة : مالي أراكم عنها معرضين ؟ والله لأرمين بها بين أكتافكم . متفق عليه . أستمع حفظ
فوائد حديث :( لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره ).
أولاً: بيان حقوق الجار، وأن للجار أن ينتفع بملك جاره بما لا ضرر عليه فيه، كذا؟ ومن ذلك وضع الخشبة ، طيب .
وهل يلحق بوضع الخشبة ما يساويها؟
الجواب: نعم، يلحق بوضع الخشبة ما يساويها ، وذلك لأن الخشبة إذا وضعها الجار على الجدار استفاد الجار الواضع والجار صاحب الجدار، صح؟
الطالب : نعم .
الشيخ : إذا وُضعت الخشبة على الجدار غرزاً أو وضعاً استفاد الجار صاحب الخشبة والجار صاحب الجدار كيف ذلك؟
أما صاحب الخشبة فاستفادته !
الطالب : ظاهرة .
الشيخ : ظاهرة ، لأنه بدلاً من أن يقيم أعمدة أو جداراً آخر ملاصقاً لجدار جاره يضع هذه، بدون تعب ، وأما استفادة الجار صاحب الجدار ، فلأن وضع الخشب على الجدار تثبيت له ، تزيد في تثبيت الجدار عرفتم ؟
وتقيه السيول، لأنه إذا وضع الخشبة يتصطب عليها فتقيه السيول ، وهذا ينتفع به الجدار، لاسيما فيما سبق لما كان الجدار من الطين صار الانتفاع بذلك واضحاً .
وهذا الحديث ظاهره أنه لا يمنعه ولو تضرر الجدار ، وهذا غير مراد ، يعني : لو تضرر الجدار فإن لصاحب الجدار أن يمنع صاحب الخشبة ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا ضرر ولا ضرار ) ، ومعلوم أنه لا يحل لك أن تضر غيرك بمنفعة نفسك .
طيب إذا قال قائل: ما رأيكم فيما لو أراد أن يُجري الماء على أرضه ، إلى أرضه التي وراءه ، يعني: أراد صاحب الماء أن يُجري الماء على أرض جاره إلى أرض له وراء أرض جاره، فمنع الجار ؟
نقول: هذا لا يجوز، لا يجوز لصاحب الأرض أن يمنع صاحب الماء من إجرائه على أرضه إلا أن يكون في ذلك ضرر، فإن لم يكن في ذلك ضرر فإنه لا يجوز أن يمنع، ولهذا قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لجار محمد بن مسلمة لما أراد محمد بن مسلمة أن يُجري الماء على أرض جاره فمنعه، قال له عمر: " والله ليمرن به ولو على بطنك " ، يعني: لو فرضنا أننا أجريناه على بطنك أجريناه ما يمكن تمنع، لماذا؟
لأن فيه منفعة لصاحب الأرض وفيه منفعة لصاحب الماء، أما صاحب الماء : فلأن الماء يصل إلى أرضه الأخرى، وأما صاحب الأرض، فلأنه يمكن أن يغرس على الماء، ولا لا؟
الطالب : بلى .
الشيخ : وكذلك الزرع الذي حول الماء ينتفع به فلم يكن في ذلك ضرر بل فيه مصلحة .
لكن لو قال صاحب الأرض: أنا سأبني على الأرض ، أنا ببني بناء ، فهل له أن يمنع ؟
الطالب : نعم.
الشيخ : نعم، له أن يمنع، لأن الماء لو مشى من تحت البناء أضر به.
طيب من فوائد هذا الحديث: أنه يجب على المسلم ألا يمنع أخاه حق الانتفاع بملكه إذا لم يكن عليه ضرر، وجهه: نهيُ النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وعلى هذا فلو أنَّ رجلاً مر برجالٍ جالسين تحت جداره مستظلين به من الشمس، قال: قوموا هذا ظِلال جداري، قوموا ، يمنع ولا لا ؟
الطالب : يمنع .
الشيخ : يعني له الحق أن يمنع ، ما له حق، يقول : إذن قف بجدارك ، لا يكن له ظلال أما أن تمنعنا فلا .
لكن لو دخلوا البيت واستظلوا بظل الجدار، معلوم له الحق، ما هو أن يقيمهم من الظل، لكن يخرجهم من بيته.
ولما جاءت امرأة إلى الإمام أحمد -رحمه الله- تسأله قالت: " يا أبا عبد الله إن السلطان إذا مرَّ بنا في الليل ونحن نغزل ازداد غزلنا بواسطة الأنوار التي يمر بها ، فهل يحل لنا ذلك؟ تحل لنا هذه الزيادة؟ لأن أموال السلاطين في ذلك الوقت ليست نزيهة من كل وجه، فقال الإمام أحمد: نعم يحل هذا، ولما أدبرت سأل الذي إلى جنبه قال : ما هذه المرأة: كيف تسأل هذا السؤال الدقيق ؟
قال: هذه أخت إبراهيم بن أدهم، قال: خلها تجي، فدعا بها ثم قال: لا يحل لكم، كيف؟ قال: نعم، من بيتكم خرج الورع " ، شوف كيف اختلفت الفتوى.
على كل حال أقول: إن مثل هذه المنافع العامة لا يجوز لأحد أن يمنع منها من ينتفع بها.
طيب ومن فوائد هذا الحديث: أنه إذا غرز الجارُ الخشبة لم يُلزم بما يسمونه المباناة عندنا، عندنا شيء يسمونه المباناة، يعني: أن الجار إذا بني وأحاط بيته بجدار، ثم بنى جاره وأراد أن يغرز خشبة على الجدار قال: ما يمكن حتى تسلم نصف قيمة الجدار وتسمى المباناة.
ولكن ظاهر الحديث أنه ليس للجار أن يطلب هذه القيمة، لأن الجدار لمن؟ الجدار له، ولهذا قال: ( على جداره ) : فهو ملكه ، كيف تطالبني أن أحمل عنك بعض نفقة ملكك ؟
فإذا قال: نعم تحمل بعض نفقة ملكي لأنك انتفعت به، فالجواب: أن هذا النفع قد جعله الشارع لي، ونهاك أن تمنعني، لكن الواقع أن الأمر عندنا على خلاف ذلك، والحكام يحكمون بوجوب دفع نصف النفقة، ولعلهم يلاحظون في هذا قطع النزاع، لأنهم يخشون أن يتأخر الجار في البناء مِن أجل أن يقيم جاره الجدار، لأن جاره قد بنى، يحتاج إلى جدار سور، فيسكت هذا ولا يقيم البناء حتى يبني ذاك الجدار وربما يتكلف عشرة آلاف أو أكثر، فإذا بني شرع هذا في البناء، ويش يكون هذا حيلة ولا لا؟
الطالب : بلى .
الشيخ : يكون حيلة ، فلذلك كان القضاة عندنا يحكمون بدفع المباناة يعني: دفع نصف التكاليف على هذا الجدار، طيب إذا دفع نصف التكاليف يكون الجدار الآن مشتركاً بين الطرفين ، لو آل إلى السقوط أُلزم الطرفان ببنائه، وعلى عدم تحميل نصف التكاليف يكون الجدار لمن؟
للأول، ولا يلزم إذا مال الجدار للسقوط ببنائه.
السائل : قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يمنع جار جاره ) يشمل المسلم والكافر ؟
الشيخ : إي نعم ، لأن هذا حق جوار .
السائل : ... ؟
الشيخ : ما وصلناه ، أنت عاد الذي قلت : خلينا نأخذ الأسئلة !
قال المؤلف في بقية الحديث: " ( ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: ما لي أراكم عنها معرضين؟ ) " :
يعني: أي شيء لي ؟ ( أراكم عنها ) أي : عن هذه السنة التي حدثتكم بها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
( معرضين ) : يعني لا تعملون بها .
( والله لأرمين بها ) أي: بالسنة، ( بين أكتافكم حتى تنزل عليكم من فوق فترهقكم عملاً ) وقيل: ( والله لأرمين بها ) : أي بالخشب بين أكتافكم ، أي: لأجعلنها على أكتافكم إن منعتم من وضعها على الجدار .
فعلى الوجه الأول يكون الضمير في قوله: ( بها ) عائداً على السنة، وعلى الثاني يكون عائداً على الخشب، ولكن أيهما أنسب؟
الطالب : الثاني .
الشيخ : قال بعض العلماء: الأنسب الثاني، ويؤيد ذلك أمران:
الأمر الأول: أن أبا هريرة رضي الله عنه قال ذلك حين كان والياً على المدينة لمروان، فهو أمير والأمير له سلطة التنفيذ ولو بالقوة .
والثاني: أنه يبعدُ أن يقول أبو هريرة رضي الله عنه عن السنة: لأرمين بها بين أكتافكم، لأن السنة الأنسب والأليق أن يقال فيها: لألقينها بين أيديكم، ولا توصف بالرمي والطرح ، ثم لا توصف بالرمي بين الأكتاف حتى تكون وراء الظهور، بل تلقى بين الأيدي حتى يقتدي بها الناس .
ثم هناك أيضاً وجه ثالث أو أمر ثالث يرجح : أن ما بين الأكتاف هو موضع الحِمل عادة، فكان الأنسب أن يكون المراد بها إيش؟
الطالب : الخشبة .
الشيخ : الخشبة، ونظير هذا قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: " والله ليمرن به ولو على بطنك " : يعني الساقي للماء الذي يمر في ملك الجار .
ففي هذا الحديث عدة فوائد ، وأظن أخذنا منها ؟
الطالب : نعم ، وقفنا فيها !
الشيخ : ما أخذنا منها ! طيب .
أولاً : نهي الجار أن يمنع جاره عن وضع الخشب في جداره .
الطالب : أخذناها لقول : ( لا يمنع ) .
الشيخ : لقوله : ( لا يمنع ) ، والأصل في النهي التحريم حتى يقوم دليل على أنه لغير التحريم .
ومن فوائد هذا الحديث: أن المنافع المتحمضة التي ليس فيها ضرر لا يجوز الامتناع منها، وذلك لأن وضع الخشب على الجدار فيه مصلحة للطرفين مَن؟ صاحب الجدار والجار صاحب الخشبة :
أما صاحب الجدار، فلأن وضع الخشب عليه يقيه من الشمس والأمطار، ويزيده شدة وقوة، لأن البناء يشد بعضه بعضاً.
وأما صاحب الخشب فالمنفعة له ظاهرة .
وظاهر هذا الحديث أنه لا تشترط الضرورة، يعني: لا يُشترط للنهي عن منعه أن يكون صاحب الخشب مضطراً إلى ذلك.
وذهب بعض أهل العلم إلى أنه يُشترط أن يكون مضطراً إلى ذلك، بحيث لا يمكنه التسقيف إلا على جدار جاره، فإن كان يمكنه التسقيف على الجهة الأخرى فإنه يجوز للجار أن يمنعه، وكذلك إذا كان يمكنه التسقيف بإقامة أعمدة وجسر بين الأعمدة توضع عليه الخشب، فإنه لا يُمنع الجار أو لا يُنهي الجار عن منعه من وضع الخشب على الجدار.
ولكنّ ظاهر الحديث أولى بالتقديم، وهو أنه لا تشترط الضرورة إلى ذلك .
وظاهر الحديث أيضًا : أنه لا فرق بين أن يتضرر الجدار بذلك أو لا يتضرر، ولكن هذا الظاهر غير مراد، طيب ما الذي يخرجه عن الإرادة؟
الأحاديث العامة الأخرى الدالة على أنه : ( لا ضرر ولا ضرار ) ، ومعلوم أن هذا فيه الضرر وإذا كان الجار قد أراد الضرر صار إضراراً أيضاً.
من فوائد هذا الحديث: تعظيم حق الجار على جاره، ولهذا أضاف قال: ( جار جاره ) من باب التحنن والتعطف على الجار، ولا شك أن للجار حقاً عظيما على جاره، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ) ، وقال النبي عليه الصلاة والسلام : ( والله لا يؤمن والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، من لا يأمن جاره بوائقه ) ، فالجار له حق على جاره، ومن حقوقه ألا يمنعه هذا الحق.
ومن فوائد الحديث: أنه لو كان الجدار مشتركاً فإنه لا يمنعه من وضع الخشب على جداره، صح؟
الطالب : من باب أولى .
الشيخ : لكن الحديث في جداره ، ونحن نقول الآن : الجدار المشترك ، والجدار المشترك يقال : في جداره ولا في جدارهما ؟
الطالب : في جدارهما .
الشيخ : في جدارهما ، لكن يقال: إنه مُنع، أو إذا نهى عن منعه من وضع الخشب على الجدار الخاص بالجار فمن باب أولى إذا كان الجدار مشتركاً، لأن الجار له حق فيه الآن له حق .
ومن فوائد هذا الحديث: أنه ينبغي للأمير ومن ولاه الله على شيء أن يكون قوياً في إمرته لقوله: ( ما لي أراكم عنها معرضين، والله لأرمين بها بين أكتافكم ) .
واللين له موضع، والشدة لها موضع، فإن هدي الرسول عليه الصلاة والسلام استعمال اللين في موضعه، واستعمال الشدة في موضعها، ومن لم يفرق بين مواضع الشدة ومواضع اللين فهو خال من الحكمة، فأنتم قد مرّ عليكم مسائل كثيرة استعمل فيها الرسول صلى الله عليه وسلم اللين، وأخرى استعمل فيها الشدة ، الرجل الذي كان لابساً خاتم ذهب نزعه الرسول عليه الصلاة والسلام من يده هو بنفسه، ورمى به، وهذا نوع من الشدة، والذين اشترطوا أن يكون الولاء لهم في بريرة، قام الرسول عليه الصلاة والسلام وخطب خطاباً توبيخياً عظيماً، فالمهم أن الإنسان ينبغي له أن يستعمل الشدة في موضعها ، واللين في موضعه ، ولهذا قال المتنبي وهو شاعر حكيم في الحقيقة:
" ووضع الندا في موضع السيف بالعُلا *** مضرٌ كوضع السيف في موضع الندا " .
وهذا صحيح ، إذا وضعت الندا يعني: الكرم والعطاء في موضع السيف فهذا إضرار بالعلا، مهانة وذل .
" كوضع السيف في موضع الندا " : يعني في موضع الكرم لا تضع السيف، وفي موضع السيف لا تضع الكرم، بل كن حكيما في هذا وهذا.
ومن فوائد هذا الحديث: استعمال المبالغة في الوعيد لقوله: ( والله لأرمين بها بين أكتافكم ) ، لأن الظاهر أن أبا هريرة رضي الله عنه لم يقصد بهذا أن توضع الخشب على الأكتاف، لأن هذا أمر لا يطاق، وعلى هذا يكون هذا من باب المبالغة في الوعيد ، مع أن أبي هريرة رضي الله عنه أقسم أنه يرمي بها بين أكتافهم .
وعن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يحل لامرئ أن يأخذ عصا أخيه بغير طيب نفس منه ) . رواه ابن حبان والحاكم في صحيحيهما .
قوله: ( لا يحل لامرئ أن يأخذ عصا أخيه ) : لامرئ : هذه من أسماء الأجناس للرجال، ويقال في النساء : امرأة، ولكن تعليق الحكم بالرجال في قوله: ( لامرئ ) ، من باب التغليب ، وليس من باب التقييد .
وقوله: ( أن يأخذ عصا أخيه ) : أخيه نسباً أو أخيه ديناً ؟
الطالب : ديناً .
الشيخ : نعم ديناً ، وإن اجتمع الدين والنسب صار تأكيداً على تأكيد.
وقوله: ( بغير طيب نفس منه ) : أي بغير رضا منه، لأن الإنسان إذا رضي طابت نفسه بالشيء وإذا لم يرض شحت نفسه بالشيء.
ففي هذا الحديث: نهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن أن يأخذ الإنسان عصا أخيه بغير طيب نفس منه، وذلك لأنه عدوان، وقد أشارت الآية الكريمة إلى هذا المعنى في قوله تعالى: (( يا أيها الذين امنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم )) .
وعلى هذا أساس كل معاملة، كل معاملة لا بد فيها من رضا وطيب النفس إلا ما استثني ، فإن الإكراه قد يكون بحق ، وإذا كان بحق صار كالرضا ، لأن من لم يرضَ بالشرع ألزم بالرضا به.
9 - وعن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يحل لامرئ أن يأخذ عصا أخيه بغير طيب نفس منه ) . رواه ابن حبان والحاكم في صحيحيهما . أستمع حفظ
فوائد حديث: ( ( لا يحل لامرئ أن يأخذ عصا أخيه بغير طيب نفس منه ).
يستفاد منه تحريم أخذ مال الغير بغير حق .
طيب فإذا قال قائل: أنت تقول: مال والحديث ( عصا ) ، ومال أعم من عصا ، فكيف تستدل بالأخص على الأعم؟
لأن القاعدة : " أن يُستدل بالأعم على الأخص ، لأن العام يدل على جميع أفراده، لا أن يُستدل بالأخص على الأعم، يعني: أن الدليل لا يكون أخص من المدلول " ، واضح يا جماعة ؟
فالجواب، إذا قال قائل هكذا فالجواب: أن ذكر العصا تنبيه على ما هو أعظم منه، وعلى هذا فيكون مراد النبي صلى الله عليه وسلم العموم .
ونظير هذا من بعض الوجوه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( خمس من الدواب كلهن فاسق يقتلن في الحل والحرم ) ، ما هي ؟ ( الغراب، والحدأة، والفارة، والعقرب، والكلب العقور ) ، فهذه الخمس لا يقال: إن غيرها لا يقتل في الحرم، بل ما كان مثلها في الأذى كان مثلها في الحكم، وما كان أعظم منها كان أولى منها بالحكم، واضح يا جماعة؟
فالذئب مثلاً يقتل في الحرم؟
الطالب : نعم.
الشيخ : لأنه كالكلب العقور أو أشد، الحية تقتل، لأنها كالعقرب أو أشد، الجرذ يقتل، لأنه كالفأرة، وعلى هذا فقس طيب.
من فوائد هذا الحديث: أنه إذا أَخذ الإنسان مال أخيه بطيب نفس منه فلا بأس بذلك، ولكن هذا العموم أو هذا الإطلاق يُقيد بالنصوص الأخرى الدالة على أنه لا بد أن يكون المعامل جائز التصرف، إن كان تصرفاً، وجائز التبرع إن كان تبرعاً .
أيهما أوسع: التصرف أو التبرع؟
الطالب : التصرف .
الشيخ : التصرف أوسع، ولهذا نقول: من جاز تبرعه جاز تصرفه، ولا نقول: من جاز تصرفه جاز تبرعه، فولي اليتيم يجوز أن يتصرف في مال اليتيم، ولكن لا يجوز أن يتبرع منه .
الوكيل يجوز أن يتصرف فيما وكل به، ولكن لا يجوز أن يتبرع به .
الذي عنده دين مُستغرق لماله يجوز أن يتصرف في ماله ولا يجوز أن يتبرع به، فالتبرع أضيق، طيب .
وظاهر الحديث : أنه لو طابت نفسه بعد التصرف جاز ذلك، وعليه فيكون فيه دليل على جواز تصرف الفضولي، أتعرفون تصرف الفضولي؟
الطالب : نعم .
الشيخ : أن يتصرف الإنسان بمال غيره بغير ولاية ، ثم يأذن الغير في هذا التصرف ، يُسمى هذا تصرف فضولي، لأنه متوقف على إذن الغير.
فهذا التصرف فيه خلاف بين العلماء : هل ينفذ أو لا ينفذ أو ينفذ في بعض المسائل دون بعض، والقول الراجح : أنه ينفذ في كل مسألة أجازها من له الحق، فلو بعت ملكك بدون توكيل منك ثم بعد ذلك أذنت لي وأجزت التصرف فالصحيح الجواز، غاية ما هنالك أن الإنسان يتردد فيما إذا كان الأمر يحتاج إلى نية، كما لو أديت الزكاة عنك، ثم أجزتني بعد ذلك، هل نقول: بأن الزكاة أجزأت ؟ نعم أو نقول لم تجزئ ؟
هذا فيه تردد؟ أما على قول من يقول: إن تصرف الفضولي لا ينفذ إلا في مسائل معينة، فظاهر أن الزكاة إيش؟
الطالب : لا تجزئ .
الشيخ : لا تجزئ ، لأنك لم توكل ، وأما على القول بأن الأصل في تصرف الفضولي الصحة إذا أُجيز، فإن الزكاة عندي فيها نظر، وذلك لاشتراط النية ممن تجب عليه عند الدفع، فقد يقال: إنها لا تجزئ، لأن المالك حين الدفع إيش؟
الطالب : لم ينوِ.
الشيخ : لم ينوِ، وقد يقال: إنها تجزي، لأن الدافع نواها زكاة عن صاحبها، نواها زكاةً ، وإذا كان نواها زكاةً أجزأت ، وربما يرشح هذا الاحتمال يعني يقويه ما جرى من أبي هريرة رضي الله عنه مع الشيطان، أبو هريرة كان وكيلاً على زكاة الفطر في رمضان وقد جمع تمراً كثيراً.
وفي ذات ليلة جاءه شخص في صورة فقير، فأخذ من التمر، فأمسك به أبو هريرة وقال: ( والله لأرفعن بك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له اصبر اصبر أنا فقير وذو عيال، فرق له أبو هريرة وأطلقه ) ، فلما أصبح أبو هريرة غدا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما فعل أسيرك البارحة ) : أخبره الله من طريق الوحي، فقال: يا رسول الله، إنه ادعى أنه ذو حاجة وذو عيال فأطلقته، قال: ( كذبك وسيعود ).
يقول: فعلمت أنه سيعود لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( سيعود )، فارتقبته الليلة الثانية فجاء، فأخذ من التمر، فأمسكته وقلت: ( لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليهوسلم، فادعى الفقر والحاجة والعيال قال له رح، فأطلقه، فلما أصبح غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما فعل أسيرك البارحة؟ قال: يا رسول الله، إنه ادّعى أنه ذو حاجة وذو عيال فأطلقته، قال: كذبك، وسيعود ) ، الليلة الثالثة يقول : ( فارتقبته فعاد فأمسكته قلت : ما أطلقك أبداً إلا عند الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما أمسكه هذه المرة قال له: سأخبرك بآية من كتاب الله إذا قرأتها لم يزل عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح : (( الله لا إله إلا هو الحي القيم لا تأخذه سنة ولا نوم )) آية الكرسي، فلما أصبح غدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر وقال : صدقك وهو كذوب ) : يعني أخبرك بالصدق وهو كذوب .
الشاهد من هذا الحديث والذي سقته من أجله : أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُضمن أبا هريرة الزكاة التي دفعها إلى هذا الشخص، مع أنه لم يوكَّل في الدفع، إنما وكل في إيش؟ في الحفظ فقط .
الشاهد أن نقول : إن هذا الحديث الذي معنا يدل على جواز تصرف الفضولي، لأنه بطيب نفس من صاحبه، ولو في ثاني الحال، ولو في ثاني الحال، طيب.
إذا قال قائل: لماذا أتى المؤلف بهذا الحديث عقيب حديث أبي هريرة ؟
قال الشارح: ليتبين أن قوله: ( لا يمنع جار جاره ) : على سبيل الأولوية ، وذلك لأننا لو مكنا الجار من وضع الخشب على جدار الجار لكان اعتدى على مال أخيه ، ووضع الخشب على جداره ، فكأن المؤلف يقول : إن حديث أبي هريرة ليس للتحريم ولكن من باب الأولى ، لكن هذا ليس بصحيح ، يعني ما أظن أن المؤلف أراد هذا ، وذلك لأن حديث أبي هريرة لا يتنافى مع هذا الحديث ، حديث أبي هريرة من حقوق الجار على الجار ، وليس فيه أخذ للمال الجدار الذي يبقى على ملك مَن ؟
الطالب : على صاحبه .
الشيخ : على ملك صاحبه ولن يتضرر الجدار بذلك ، ثم إن الحديث : ( لا يحل لامرئ أن يأخذ عصا صاحبه بغير طيب نفس منه ) : ليس على عمومه، فإنه يخصص منه أشياء كثيرة ، منها: الرهن مثلاً، الرهن يباع بغير طيب نفس من صاحبه، ولا لأ ؟
الطالب : بلى .
الشيخ : الرهن ، يعني مثلاً أنت تطلب زيدا ألف ريال فرهنك زيدٌ مالاً وقال: خذ هذا المال رهنا عندك ، إذا حل الأجل ولم أوفك فبعه وخذ حقك ، أو لم يقل هكذا قال : خذ هذا رهناً إذا حل الدين وامتنع من الوفاء يباع رضي راهنه أم لم يرض .
كذلك تؤخذ النفقة ممن تجب عليه رضي أم لم يرض، فالحديث هذا ليس على عمومه، يعني خُصص بأدلة أخرى تدل على أن الإنسان إذا امتنع من حق واجب عليه أُخذ منه قهراً رضي أم لم يرض.
باب الحوالة والضمان.
هذه الترجمة تضمنت بابين :
الباب الأول: الحوالة : وهي: " نقل الحق من ذمة إلى ذمة "، نقله من ذمة إلى ذمة ، هذه الحوالة .
والضمان: " التزام ما على غيره من الحقوق " .
وجمع المؤلف بينهما لما بينهما من التشابه، لأن الضامن ينقل الحق على الذي عليه الحق إلى ذمته، والمحيل ينقل الحق من ذمته إلى ذمة غيره، ففيهما تشابه.
الحوالة: نقل حق من ذمة إلى أخرى، مثاله: زيد يطلب عمروً مئة ريال، وعمروٌ يطلب من خالد مائة ريال، فجاء زيد إلى عمرو فقال: أعطني حقي، فقال: إن لي حقاً عند خالد هو مئة ريال وقد أحلتك عليه، الآن هذه حوالة تحول الحق من ذمة عمرو إلى ذمة خالد، واضح؟
الطالب : واضح .
الشيخ : طيب فانتقل من ذمة إلى ذمة ، عمرو في هذه الحال هل يكون مطالباً بشيء؟
الطالب : لا .
الشيخ : لا لأن الحق تحول من ذمته إلى ذمة خالد، طيب.
أركان الحوالة لا بد فيها من ثلاثة بل من خمسة: محيل ومحال ومحال به ومحال عليه كم هذه؟
الطالب : أربعة .
الشيخ : طيب نشوف الآن المحيل: من عليه الحق، مَن عليه الحق المحيل . والمحال: من له الحق . والمحال به: الدين الذي على مَن؟
الطالب : المحيل .
الشيخ : الذي على المحيل .
والمحال عليه: الدين الذي على المحال عليه .
وصيغة : يعني لفظ يحصل به التحول .
فالأركان إذن كم؟ خمسة، لأننا نقول: لزيد على عمروٍ مئة ريال ، كم جمعت هذه كم ركن ؟ لزيد على عمرو مئة ريال !؟
الطالب : أربعة .
طالب آخر : ثلاثة .
الشيخ : ثلاثة يا إخوان ، لزيد على عمرو مئة ريال: ثلاثة، ولعمرو على خالد مئة ريال، هذه كم؟
الطالب : أربعة .
الشيخ : هذه أربعة؟ كذا؟
الطالب : نعم .
الشيخ : طيب بعدئذٍ الصيغة قال عمرو لزيد: أحلتك على خالد، هذه الصيغة هي الخامسة، طيب، أما الضمان: ففيه أيضاً أركان.