التعليق على تفسير الجلالين : (( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا )) هو أول أنبياء الشريعة (( والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه )) هذا هو المشروع الموصى به ، والموحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم وهو التوحيد . حفظ
الشيخ : ثم قال عز وجل : (( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ )) إلى آخره، شرع لكم الخطاب لهذه الأمة ولله الحمد، ومعنى شرع لكم أي سن لكم وجعل لكم شريعة، هي: (( ما وصى به نوحا )) قال الشارح : " وهو أول أنبياء الشريعة " وتساهل رحمه الله في هذا، والصواب أن يقول : هو أول رسل الشريعة، لأن جاء في الحديث الصحيح: أن الخلق يوم القيامة يأتون إلى نوح ليشفع لهم فيقولون له : أنت أول رسول أرسله الله، ولأن الرسول أخص من النبي، ولا ينبغي أن نعدل عن الأخص إلى الأعم، إذا الصواب أن نقول : هو أول رسل الشريعة، أما أول أنبياء الشريعة فهو آدم عليه الصلاة والسلام، نبي مكلم، لكنه ليس برسول، الحكمة من كونه غير رسول لأن الناس لم يختلفوا بعد، والله تعالى أرسل الرسل ليحكموا بين الناس فيما اختلفوا فيه كما قال جل وعلا : (( كان الناس أمة واحدة فعبث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه )) لكن في عهد آدم ما فيه اختلاف، العدد قليل وليس هناك مغريات ولا أشياء توجب أن يختلف الناس، فلذلك كان آدم يتعبد لله تعالى بشريعة التي شرعه له، أبنائه ؟ يتبعونه، لما كثروا وانتشروا واختلفوا حينئذ جاءت الحاجة بل الضرورة إلى الرسل، إذن الأولى أن نقول : هو أول رسل الشريعة، لماذا ؟ لأن أول أنبياء الشريعة آدم.
(( والذي أوحينا إلينا )) يعني: وشرع لكم الذي أوحينا إليك، (( والذي أوحينا إليك )) معطوفة على (( ما )) في قوله : (( ما وصى به نوحا )) والوصية: هي العهد بالشيء الذي يهتم به، يسمى وصية (( والذي أوحينا إليك )) وهو القرآن (( وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى )) الله أكبر، ذكر الله تعالى أول الأنبياء الذين هم الرسل وآخرهم، ثم ذكر ما بين ذلك ليجمع سبحانه وتعالى بين الطرفين والوسط، من أول هؤلاء الرسل الكرام ؟ نوح، وآخرهم ؟ محمد صلى الله عليهم وسلم، هؤلاء الخمسة هم أولوا العزم من الرسل قال الله تعالى : (( فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل )) وذكروا في القرآن في موضعين : هذا واحد.
والثاني قوله تعالى : (( وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى )) [الأحزاب:7] نعم.
(( وما وصينا به إبراهيم وموسى عيسى أن أقيموا الدين )) أن هذه تفسيرية بمعنى أي، ولذلك لا تعمل شيئا لأنها لمجرد التفسير والتبيين: (( أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه )) أقيموا الدين يعني: ائتوا به مستقيما غير منحرف، وما هو الدين القيم ؟ هو الدين الذي شرعه الله عز وجل، فيجب علينا أن نقيم الدين كما أقامه الله عز وجل، لا نغلو فيه ولا نقصر عنه، ولذلك كان الناس في دين الله على ثلاثة أقسام:
قسم غلوا وقسم قصروا وقسم اعتدلوا، فما الذي أمرنا به ؟ الاعتدال (( أن أقيموا الدين )) غير متجاوزين ولا قاصرين عنه، ولذلك هلك أقوام ممن قصروا أو تجاوزا، وأيهما أخطر ؟ الأخطر التجاوز وهو الغلو، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنما أهلك من كان قبلكم الغلو ) ولأن الغالي يعتقد أن هذا دين فلا يكاد يقلع عنه، والمقصر يعترف أنه مقصر فربما حاسب نفسه يوما من الأيام وأتم، فالغلو أخطر، ولذلك تجد بدع المبتدعة أشدها الغلو، فالرافضة مثلا غلو في آل البيت وتجاوزوا الحد، والمؤلهة للرسول عليه الصلاة والسلام الذي يعتقدون أنه أشد من الإله عز وجل غلو في الرسول وهلكوا، والغالية في الدين الذين يريدون من الناس أن يستقيموا على الدين وألا يفعلوا كبيرة أيضا غلو كالخوارج، المهم أنك إذا تأملت البدع وجدت أن الغلو فيها أشد خطرا على الإنسان، لأن الغالي يعتقد أن ما هو عليه دين، والمقصر يعرف أنه مقصر وربما استقام بعد ذلك.
قال الله تبارك وتعالى : (( أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه )) الدين يطلق على معنيين:
المعنى الأول : الجزاء .
والمعنى الثاني : العمل، يعني يطلق على العمل وعلى الجزاء، فمن إطلاقه على العمل قول الله تبارك وتعالى: (( لكم دينكم ولي دين )) يعني لكم عملكم ولي عملي، كقوله تعالى: (( فإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم ))، ومن إطلاقه على ا لجزاء قوله تعالى : (( وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين )) وما نقرأه نحن في كل صلاة: (( مالك يوم الدين )) أي المعنيين يراد ؟ الجزاء (( أن أقيموا الدين )) هنا ما المراد به ؟ العمل (( أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه )) يعني: لا تتفرقوا في دينكم فتكونوا أحزابا، فنهى الله عز وجل عن التفرق في الدين وهذا يستلزم وجوب الاجتماع عليه، لأن النهي عن الشيء أمر بضده إذا لم يكن له إلا هذا الضد، وحينئذ يجب على المسلمين أن يجتمعوا في دين الله وألا يتفرقوا فيه، وما اختلف العلماء فيه من الآراء فإن الهدف منه واحد لمن صلحت نيته، لأن كل واحد من المختلفين إنما يريد الوصول إلى الحق لكن اختلفوا في الطريق، وإذا كان الهدف واحد وهو الوصول إلى الحق فإنه لا يجوز أن يجعل هذا الاختلاف سببا للتفرق في الاتجاه، لا يجوز هذا إطلاقا، بل تجب الوحدة والاجتماع حتى مع اختلاف الآراء، ولهذا كان السادة الغرر الصحابة رضي الله عنهم يختلفون في أشياء كثيرة مهمة ومع ذلك فالقلوب واحدة، ولما وصل الاختلاف بهم إلى تفرق القلوب حصل ما حصل من الفتن بين علي ومعاوية وعائشة والزبير وما أشبه ذلك، في وقتنا الحاضر لا شك أن الناس مختلفون فمنهم من يتجه اتجاها سياسي ومنهم من يتجه اتجاها صوفي ومنهم من هو معتدل، اختلافات كثيرة، فالواجب علينا أن ننزع فتيل هذا الاختلاف، وأن نكون أمة واحدة حتى لا نتفرق فنفشل لأن الله يقول : (( وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ )) يعني: ولا يكن لكم قيمة (( وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ )) [الأنفال:46] ولهذا نجد الآن مع الأسف الشديد أن ما يسمى بالصحوة الإسلامية أصيب بهذا البلاء، وصار نفس المتدينين يلمز بعضهم بعضا، ويضلل بعضهم بعضا ويبدع بعضهم بعضا، وربما يكفر بعضهم بعضا، فضاعت تلك الصحوة، وصار الذين يراد منهم أن يكونوا حزبا على أعداء الله وحربا على أعداء الله صاروا حربا على أنفسهم وأحزابا بأنفسهم، وهذا ما يبذل فيه العدو أغلى ما يكون ليحصل وقد حصل له مجانا، فالواجب علينا أن نزيل هذه الاختلافات وأن ندعها، وأن نترك ما يعمر به كثير من الناس مجالسهم في سب فلان وفلان أو ذم فلان وفلان أو الغلو في فلان وفلان لأن هذا يضيع الأوقات ويولد الأحقاد ولا يفيد شيئا بل يضر، ما لنا ولفلان، إن كان ميتا فقد واجه الحساب، وإن كان حيا فنرجوا له الاستقامة، وأما أن نجعل أكبر همنا هو هذا الكلام الذي لا يعود إلى الأمة إلا بالشر، ولهذا ينهى الله عز وجل عن التفرق في عدة آيات كما في هذه الآية: (( أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه )) فإذا اختلفت أنت وصاحبك في رأي من الآراء وهو محل للاجتهاد فالواجب أن تعتقد أن صاحبك لن يخالفك، لماذا ؟ لأنه سلك السبيل الذي تسلكه أنت، هو اجتهد فقال : هذا هو الصواب، وأنت اجتهدت فقلت: هذا هو الصواب، إذا ما مراد كل واحد منكم ؟ الوصول إلى الحق، ولا يمكن أن يكون اجتهادك حجة عليه ولا اجتهاده حجة عليك، وحينئذ نكون في الواقع متفقين حتى لو خالفني فأنا أعتقد أنه موافقني، لأننا كلنا نقصد الحق ولا نريد مخالفة الحق، لكن مع الأسف الآن أن بعض الناس يتخذ من هذا الخلاف الذي هو محل الاجتهاد يتخذ منه سلما للتفرق والطعن.
قبل سنوات في منى حضرت طائفتان أفريقيتان كل واحدة تلعن الأخرى وتكفرها، فأتوا إلى أمير الدعوة التي أنا من ضمن أعضائها أتوا إليه متشاكسين جدا جدا في منى في أيام الحج في شهر حرام في بلد حرام، فهو جزاه الله خير حضر إلي معهم، وش الأمر؟ قال: هؤلاء كفار، هؤلاء رغبوا عن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم : ( من رغب عن سنتي فليس مني ) ونحن نبرأ منهم، كلام طويل عجيب، وما الخلاف ؟ الخلاف إحدى الطائفتين تقول : إذا قام يصلي فإنه يضع اليد اليمنى على اليسرى، والطائفة الأخرى تقول : إذا قام يصلي يرسل يديه، المسألة ما هي خلاف في العقيدة، المسألة خلاف في سنة من سنن الصلاة هي محل اجتهاد، كل واحد يقول للآخر : إنه كافر لأنه رغب عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( من رغب عن سنتي فليس مني ) شوف البلاء، الآن الشباب صار اختلافهم في أمر آخر في الأشخاص، يجعلون الشخص هدفا، ما تقول في فلان ؟ إذا قال: والله فلان طيب حبيب ومن خير عباد الله، انشرح صدره وكأنما أعطي الجنة، وإذا قيل : والله هذا الرجل عنده انحراف في المسلك، إنسان فيه كذا وفيه كذا انقبض وضاق صدره وترك صاحبه، هذا غلط يا إخوان، الناس والرجال إن أخطئوا فسأل الله أن يعفوا عنهم خطئهم لأنهم مسلمون مهما كانوا لا يخرجون من الإسلام، وإن أصابوا فخذ بصوابهم واحمده، وخطئهم لا تأخذ به، أما أن تجعلهم محكا للولاء والبراء فهذا غلط عظيم، لذلك أنا أدعوا إخواننا من السعوديين وغيرهم إلى نبذ هذه الطريقة والبعد عنها، وأن نعتقد أننا إخوان، وأن كل واحد منا مجزي بعمله، وألا نجعل هذا سببا للتفرق لأن الله نهانا، ونحن نعلم علم اليقين أن الله لا ينهانا إلا عن شيء فيه ضررنا، فهنا يقول : (( أن أقيموا الدين )) يعني غير مغالين فيه ولا مقصرين (( ولا تتفرقوا فيه )) اجتمعوا عليه.