قال المصنف :" الثالث: ثبوت الزنا ولا يثبت إلا بأحد أمرين أحدهما: أن يقر به أربع مرات " حفظ
الشيخ : يقول المؤلف رحمه الله " الثالث ثبوت الزنا ولا يثبت إلا بأحد أمرين "... وثلاثة طرق على القول الراجح، أما المذهب، فالطريق الأول الإقرار، والطريق الثاني البينة الشهود، والقول الراجح أن لثبوت الزنا ثلاثة طرق، هذان الطريقان، والطريق الثالث الحمل، وسيأتي إن شاء الله البحث فيه، أما الإقرار فيقول المؤلف رحمه الله: " الثالث ثبوت الزنا ولا يثبت إلا بأحد أمرين " وإن اجتمعا؟ من باب أولى، لكن واحد من أمرين يثبت به، الأول الإقرار، ودليل ذلك قوله تبارك وتعالى (( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم )) والشهادة على النفس هي الإقرار، فأمر الله عز وجل الإنسان أن يقر بما عليه ولو كان على نفسه، ودليل من السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم بالإقرار وجلد بالإقرار، قال شيخ الإسلام ابن تيمية " ولم يثبت الزنا بطريق الشهادة " من فجر الإسلام إلى وقت شيخ الإسلام ابن تيمية ما ثبت بطريق الشهادة وإنما ثبت بطريق الإقرار لأنّ الشهادة صعبة كما سيتبين إن شاء الله.
وأمّا المعنى فلأنّ الإنسان لا يمكن أن يقرّ على نفسه بما يدنّس عرضه ويوجب عقوبته إلا والأمر كذلك.
فعندنا الآن ثبوت الزنا بالإقرار له أدلة ثلاثة: الكتاب والسنة والنظر الصحيح، وقد عرفتموها، الكتاب قوله تعالى (( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم ))، وأما السنة فلأن الرسول عليه الصلاة والسلام رجم بالإقرار وجلد بالإقرار، وأما النظر الصحيح فلأن الإنسان لا يمكن أن يقر بشيء يدنّس به عرضه ويوجب على نفسه العقوبة إلا وهو ثابت، فالإقرار ... لكن له شروط قال المؤلف " أن يقر به أربع مرات " لا بد أن يقر أربع مرات فيقول إنه زنى، ثم يقول إنه زنى، ثم يقول إنه زنى، ثم يقول إنه زنى، وما الدليل على ذلك؟ الدليل على هذا النص والقياس، أما النص فلأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقم الحد على ماعز بن مالك حتى أقرّ أربع مرات، كان يأتي ويقر فيعرض عنه الرسول عليه الصلاة والسلام حتى أقر أربع مرات، فلما أقر أربع مرات قال ( ارجموه ).
وأما القياس فلأن الزنا لا يثبت إلا بشهادة أربعة رجال، كما قال الله تعالى (( لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأؤلئك عند الله هم الكاذبون )) فإذا لم يثبت إلاّ بأربعة شهداء فإنه يقاس عليه الإقرار فلا يثبت إلا بإقرارٍ أربع مرات.
وأما النظر فلأنّ الزّنا فاحشة وأمر عظيم ولا ينبغي أن يوصف به الإنسان إلا بزيادة تثبّت وذلك بأن يكرر أربع مرات، فهذا وجه كونه يشترط أن يكون الإقرار أربع مرات، هذا وجه اشتراطه فصار عندنا دليل من السنة، والثاني من القياس على الشهادة، والثالث الاحتياط لأنّ الزّنا أمره عظيم وهو فاحشة مدنّسة للعرض، ثم إنه يخشى إذا حصلت أن تهون في نفوس المجتمع فيؤدّي ذلك إلى فساده، ولهذا تجدون المنكرات إذا قل وقوعها في الناس ثم فعلت تجد النّاس يستنكرونها وينفرون من فاعلها، فإذا فعلها آخر وثالث ورابع وخامس هانت عند الناس، ولهذا من الأمثال المضروبة يقولون " مع كثرة المساس يقل الإحساس " وهذا أمر مشاهد، كنا قبل زمان نستنكر غاية الاستنكار أن نسمع العود والرّبابة وآلات اللّهو، نستنكرها ولا يفعلها أحد إلا في حجرة بعيدة أو في فلاة بعيدة من البر، وأصبحت الآن أمرا مألوفا لأنها كثرت.
شرب الخمر، ومن يقول فلان شرب الخمر، إذا قيل فلان شرب الخمر انتشر خبره في جميع آفاق البلد في المملكة كلّها، ورأوا ذلك أمرا عظيما، والآن كما تشاهدون، يذكر لنا أنّه يوجد عند بعض الناس في الثلاجات كما توجد المشروبات المباحة، كل هذا مع كثرة الوقوع، فإذا إنسان أقر بالزنا ورجمناه أو أقمنا عليه الجلد فهذا ربما يسري في الناس ويتساهلون به، فلهذا احتطنا في الإقرار فقلنا لا بد أن يكون أربعا، حتى إذا جاء وقال زنيت قلنا ما زنيت أبدا، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال لماعز ( لعلك قبلت أو نظرت أو غمزت ) لكنه يقول لا، إنه زنى، فهذا هو دليل هذه المسألة بأنه لا بد من تكرار الإقرار أربعا، وذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يشترط الإقرار أربعا وأن الإقرار بالزنا كغيره، إذا أقر به مرة واحدة وتمت شروط الإقرار بأن كان بالغا عاقلا ليس فيه بأس فإنه يثبت الزنا، واستدلوا بعموم قوله تعالى (( كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم ))، وهذا شاهد.
واستدلوا من السنة بقول النبي صلى الله عليه وسلم لأنيس رجل من الأنصار ( اغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ).
واستدلوا بالنظر بأنه إذا أقر على نفسه فإنه بالمرة الواحدة يثبت لأنه لا يمكن للإنسان أن يقرّ على نفسه بأمر يدنس عرضه ويوجب عقوبته إلاّ وهو صادق فيه، فإذا صدق بإقراره مرة انطبق عليه وصف الزنا، وإذا انطبق عليه وصف الزّنا فقد قال الله تعالى (( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة )).
وأما مسألة الإشاعة فالإشاعة لا تزول بتكراره أربعا لأن الرجل إذا أقر أربعا وصمم عليه بان الأمر واتضح.
بقي علينا أن نجيب عن أدلة القائلين بالتكرار، وأقوى حديث لهم هو حديث ماعز، حديث ماعز رضي الله عنه يظهر من سؤال النبي صلى الله عليه وسلم له أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يستثبت الخبر لأنه سأله ( هل بك جنون؟ ) قال لا، فأرسل إلى قومه، وقال لهم ( هل ماعز به جنون؟ ) قالوا لا، إنه من صالح رجالنا في العقل، ثم قال ( هل شربت الخمر؟ ) فقال: لا، حتى إنه أمر رجلا أن يستنكهه يشم رائحته، وهذا يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان عنده بعض الشك في إقرار هذا الرجل، وأراد أن يستثبت ودليل هذا أنّ قصة العسيف ما فيها إلا أنه قال ( إن اعترفت فارجمها ) والفعل مطلق يصدق بالواحد، وكذلك قصة الرجلين اليهوديين الزانيين فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر برجمهما ولم يذكر أنهما كررا الإقرار، وكذلك الغامدية أمر النبي عليه الصلاة السلام برجمها ولم يذكر أنها كررت الإقرار، حتى إنها قالت يا رسول الله أتريد أن ترددني كما رددت ما ماعزا؟ وهذا القول أرجح أنه ليس بشرط لا سيما إذا كان الأمر قد اشتهر كما في قصة العسيف، فإن هذه القصة اشتهرت لأنّ أباه أي أبا العسيف ذهب يسأل النّاس وش اللي عليه؟ فقيل له إن على ابنك مائة شاة وليدة فافتداه بذلك حتى حصلت المخاصمة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وقضى بينهما بكتاب الله.
فالآن عندنا قولان في المسألة، القول الأول أنه لا يشترط تكرار الإقرار، والقول الثاني شرط، لكن القولين يتفقان في أنّه إذا قام عند الحاكم شبهة فإنّ الواجب التأكد والإستثبات، هذا متفق عليه.
ولو قال قائل بقول وسط بأنه إذا اشتهر الأمر واتضح بين الناس فإنه يكتفى فيه بإقرار المرة، بخلاف ما إذا لم يشتهر فإنه لا بد فيه من تكرار الإقرار أربعا، و على هذا يكون هذا القول آخذا بالقولين، فيشترط التكرار في حال، ولا يشترطه في حال أخرى.