فوائد حفظ
الشيخ : هذا الحديث فيه فوائد لم تسبق ، قوله : (حتى إذا كنا بسرف أو قريبًا منها ) سرف اسم موضع قريب من التنعيم ، يعني أنهم شارفوا على مكة ، وقولها : ( حضت ) هذا جواب الشرط ، ( فدخل علي وأنا أبكي ) فيه دليل على جواز البكاء للإنسان إذا فاته ما يحب ،كما أنه يبكي إذا حصل عليه ما يكره ، فسبب البكاء إما فوات محبوب وإما حصول مكروه ، وقد يبكي الإنسان من حصول محبوب ، كما بكى أبيّ بن كعب رضي الله عنه حين قال له النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله أمرني أن أقرأ عليك : (( لم يكن )) فقال : أو سماني لك ؟ قال : ( نعم ) . فبكى رضي الله عنه ، قالوا : هذا بكاء من الفرح ، فأسباب البكاء متعددة ، وقوله : ( أنفست ) تقول : يعني الحيضة ، فيه دليل على فائدتين لغويتين :
الفائدة الأولى : جواز إطلاق النفاس على الحيض ، لأن أفصح الخلق تكلم بذلك .
والثاني : أن الأفصح والأغلب في لسان العرب أن النفاس غير الحيض ، ولهذا احتاج إلى أن تفسّر ، يعني الحيضة ، أما إذا قيل الحيض والنفاس فواضح أن الحيض غير النفاس .
ومن فوائد هذا الحديث أيضًا : أن الحيض كان على بنات آدم من أول الأمر ، وليس كما جاء في بعض الإسرائليات أن أسبابه من نساء بني إسرائيل ، لقوله : ( إن هذا شيء كتبه الله على بنات آدم ) والمراد بالكتابة هنا الكتابة القدرية وليست الكتابة الشرعية.
ومن فوائد هذا الحديث : حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم الذي ينبغي أن نتأسى به فيه ، وهو التسلية ، تسلية الإنسان ، بما يصيبه من الأحزان فإنه إذا سلي بذلك سري عنه وزال عنه الألم ، وجه التسلية : أنه قال : ( إن هذا شيء كتبه الله على بنات آدم ) ومعلوم أن الإنسان يتأسى بغير ويتسلى بهم ، فلهذا قال لها النبي صلى الله عليه وسلم ذلك .
وتقول الخنساء في رثاء أخيها صخر :
فلولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي ، وما يكون مثل أخي ولكن أسلي النفس عنه بالتأسي ، وقد أشار الله تعالى إلى هذا المعنى في قوله : (( ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون )) .
لأن الإنسان إذا اشترك معه غيره في عقابه أو عذابه نفعه ذلك وتسلى به ، لكن أهل النار لا ينفعهم ذلك .
ومن فوائد هذا الحديث أيضًا : أن الحائض تفعل كل الأنساك ، الوقوف بعرفة ، وبمزدلفة وبمنى ورمي الجمار ، وغيرها ، لكن لا تطوف بالبيت ، وهنا لم يذكر السعي ولكنه قد جاء ذلك في رواية مالك رحمه الله في الموطأ ، قال : ولا بين الصفا والمروة .
وكما يدل عليه السياق السابق في صحيح مسلم أنها قالت أنها لم تطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة ، وهذا أمر معلوم ، لأنه لا يمكن الطواف بين الصفا والمروة إلا بعد الطواف بالبيت .
ومنها : اشتراط الطهارة للطواف ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( غير ألا تطوفي بالبيت حتى تغتسلي ) ولم يقل حتى تطهري من الحيض ، فدل ذلك على أنه لا بد من الطهارة للطواف ، وهذا الذي عليه الجمهور ، ولكن من أي شيء ، من أي طهارة ؟ هل من الطهارة الكبرى كطهارة الحيض وطهارة النفاس أو من الطهارة الكبرى والصغرى ؟ هذا محل خلاف : الجمهور على أنه من الطهارتين جميعًا ، وأنه لا يصح الطواف بالبيت إلا بوضوء ، واختار شيخ الإسلام رحمه الله أنه لا يجب الوضوء في الطواف ، واعتماد الجمهور على حديث ابن عباس المشهور ( الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أباح فيه الكلام ) لكنّ هذا إنما صح موقوفًا على ابن عباس رضي الله عنه ، ويحتمل عدة احتمالات ، أنه صلاة في ثوابه وفضله وإغنائه عن تحية المسجد وما أشبه ذلك ، لا أنه يشترط له ما يشترط للصلاة ولهذا قال : إلا أن الله أباح فيه الكلام ، مع أن الله أباح فيه الكلام وغيره مما يحرم في الصلاة ، وهذا مما يدل على أن الحديث لا يراد به عمومه ، حتى وإن كان عن ابن عباس ، أما عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا يصح .
ولا شك أن الطواف على الطهارة هو الأولى والأكمل ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف على طهارة بلا شك ، بدليل أنه طاف ثم صلى خلف المقام ولم ينقل عنه أنه توضأ ، لكن كوننا نجعل ذلك شرطًا حتى في أضيق الأحوال يتوقف الإنسان في هذا ، يعني لو أن امرأة في طواف الإفاضة في مثل هذا الوقت ، حصلل عليهاحدث ، أحدثت بريح ، أو ببول ، أو بغيره ، ثم خجلت واستمرت في الطواف ، ثم جاءت بعد أن رجعت وحلت من إحرامها ورجعت إلى بلدها تقول إنه حدث لها كذا ، فإن الإنسان سوف يجد حرجًا لو قال لها إن إن طوافك لم يصح ولا بد أن ترجعي لما بقي من إحرامك إلى مكة لتطوفي ، ولا شك أنه لا ينبغي للإنسان أن يطوف بلا وضوء .
ومن فوائد هذا الحديث غير ما سبق : أنه أطلق على الهدي أضحية ، ( ضحى النبي صلى الله عليه وسلم عن نسائه بالبقر ) ، وأنه إنما أطلق على الهدي أضحية لأنه يذبح في ضحى يوم العيد ، وأما من ذهب إلى أن في هذا دليل على أن الحاج يضحي ففيه نظر ، لأنه لو كانت الأضحية مشروعة للحاج لكان أول من يفعلها الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعلى هذا فيتعين أن يحمل قوله ضحّى أي : ذبح الهدي عن نسائه في ضحى يوم العيد ولم يتأخر في ذلك ونوع الهدي الذي ضحى به عن نسائه هو البقر .
وهل يؤخذ من هذا الحديث أن الإنسان مطالب بأن يهدي ، أقول هل في هذا الحديث أنه يجب على الزوج أن يهدي عن نسائه ؟
الجواب : لا ، لكنه لا شك أنه من حسن العشرة أن يهدي عن نسائه .