شرح :( فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له فأتى بطن الوادي فخطب الناس وقال إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ودماء الجاهلية موضوعة وإن أول دم أضع من دمائنا دم بن ربيعة بن الحارث كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضع ربانا ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون قالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس اللهم اشهد اللهم اشهد ثلاث مرات) حفظ
القارئ : ( فأجاز رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى أتى عرفة ، فوجد القبّة قد ضربت له بنمرة ، فنزل بها ، حتّى إذا زاغت الشّمس أمر بالقصواء، فرحلت له،فأتى بطن الوادي ، فخطب النّاس وقال : إنّ دماءكم وأموالكم حرام عليكم ، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا ، في بلدكم هذا ، ألا كلّ شيءٍ من أمر الجاهليّة تحت قدميّ موضوع ، ودماء الجاهليّة موضوعة ، وإنّ أوّل دمٍ أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث ، كان مسترضِعًا في بني سعدٍ فقتلته هذيل ، وربا الجاهليّة موضوع ، وأوّل ربًا أضع ربانا ربا عبّاس بن عبد المطّلب ، فإنّه موضوع كلّه ، فاتّقوا الله في النّساء ، فإنّكم أخذتموهنّ بأمان الله ، واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله ، ولكم عليهنّ أن لا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه ، فإن فعلن ذلك فاضربوهنّ ضربًا غير مبرّحٍ ، ولهنّ عليكم رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف ، وقد تركت فيكم ما لن تضلّوا بعده إن اعتصمتم به ، كتاب الله ، وأنتم تسألون عنّي ، فما أنتم قائلون ؟ قالوا : نشهد أنّك قد بلّغت وأدّيت ونصحت ، فقال : بإصبعه السّبّابة ، يرفعها إلى السّماء وينكتها إلى النّاس: اللهمّ اشهد ، اللهمّ اشهد ، ثلاث مرّاتٍ ).
الشيخ : في هذه القطعة فيها أنه إذا زالت الشمس أمر بالقصواء فرحلت وركب صلى الله عليه وسلم من نمرة متجهًا إلى عرفة ، أتى بطن الوادي وهو وادي عرنة فنزل فيه ، لأنه أسهل من الأرض الجرداء إذ أن مسرى الوادي يكون سهلًا ليلًا ، نزل فيه صلى الله عليه وسلم ففيه دليل على طلب الأسهل في النزول ، لكن لا يبيت الإنسان في مجاري السيول ، لأن السيول قد تأتي بدون شعور فيحصل بذلك ضرر ، ولهذا نهي عن الإقامة فيها ، أما إقامة النبي صلى الله عليه وسلم هنا فهي إقامة قصيرة يسيرة ،
نزل صلى الله عليه وسلم خطب الناس وهكذا كانت عادته صلى الله عليه وسلم يخطب الناس يبين لهم أحكام الله في كل مناسبة ، كلما يظن أن الناس يحتاجون إلى بيان الحق يقوم ويبينه عليه الصلاة والسلام ، وهكذا ينبغي ... العلماء أن يبينوا للناس ما يحتاجون إليه سواء بألسنتهم أو بأقوالهم ، فخطب الناس صلى الله عليه وسلم هذه الخطبة العظيمة ، وقد شرحها الشيخ عبد الله بن محمد حميد رحمه الله في رسالة صغيرة مفيدة ، وقال صلى الله عليه وسلم فيما قال : ( إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا ) أكد التحريم تحريم الدماء والأموال أكدها بهذا التأكيد ( كحرمة يومكم هذا ) وهو يوم عرفة ، فإنه يوم حرام لأنه من جملة أيام الحج ، والناس فيه محرمون ، ( في شهركم هذا ) شهر ذي الحجة ، لأنه من الأشهر الحرم ، بل هو أوسط الأشهر الحرم الثلاثة المقترنة ، إذ الأشهر الحرم الثلاثة المقترنة هي ( ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ) ، ( في بلدكم هذا ) الذي هو مكة ، فإنه لا شك أنه أعظم البلاد حرمة هي مكة .
( ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ) موضوع تحت القدم ، وهذا كناية عن إبطاله ، وإهانته ، لأن الناس جرت العادة أن الشيء المكرم يقال فيه ( على الرأس ) والمهان يقال : ( تحت القدم ) والمعنى أنها باطلة مهينة لا يعتد بها ، كل أمر الجاهلية ، وهذا عام في جميع أمور الجاهلية ،كلطم الخدود ، وشق الجيوب ، والدعاء بدعوى الجاهلية ، وغير ذلك ، كل أمور الجاهلية أبطلها النبي صلى الله عليه وسلم ووضعها ، الميسر ، الخمر كل أمر الجاهلية ، هذا عام .
يقول : ( كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ) وعلى هذا فيكون أمور الجاهلية قد محيت بهذا الحديث ، ولا اعتماد عليها ولا رجوع عليها ، ( ودماء الجاهلية موضوعة ) دماء الجاهلية موضوعة أيضًا ، يعني الدماء التي حصلت بين أهل الجاهلية موضوعة لا حكم لها ، ولا قصاص ولا دية ولا شيء ، وإن أول دم أضعه من دمائنا دم بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، يعني ابن ابن عمه صلى الله عليه وسلم ، وضعه الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه أولى الناس به ، أولى بالمؤمنين من أنفسهم فوضعه .
قال : ( وكان مسترضِعًا في بني سعد فقتلته هذيل ) ، ولا يصلح أن يكون ( مسترضَعًا ) ، لأن ( مسترضعًا ) بالفتح من طلب أن يرضع ، و( المسترضع ) هو الذي طلب له أن يرضِع ، هذا قريب من الرسول صلى الله عليه وسلم ابن ابن عمه أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه ، وجعله موضوعًا ، عني فلا يطالب به ، كل هذا لئلا يعود الناس إلى أمور الجاهلية فيطالبون بما كان بينهم من أمور الجاهلية من دماء أو أموال ، ولهذا انتقل ( وربا الجاهلية موضوع ، وأول ربا أضعه ربانا ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله ) اللهم صليى وسلم عليه ، وهذا يدل على أن الربا موضوع ، لا يؤخذ مهما كان ، كل ربا الجاهلية موضوع ، أبطله النبي صلى الله عليه وسلم ، وأول ما أبطل من الربا ربا أقاربه ، ربا العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه ، وكان غنيًّا يرابي ، فوضع النبي صلى الله عليه وسلم رباه ، كله موضوع ، وهذا تحقيق لقول الله تعالى : (( فإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون )) .
وما ذهب إليه بعض المستحسنين الآن يقول : خذ الربا من البنوك وتصدق به ، فهو غلط ، وكيف نقول للإنسان اجترئ على المحرم ثم حاول التطهر منه ، ما مثل ذلك إلا كمن قيل له : دس يدك في الغائط ثم حاول أن تغسل يدك منه ، هذا غلط .
يقول بعض الناس إننا لو تركناهم للبنوك الأجنبية خاصة لاستعانوا به على المسلمين ، وعلى عمارة الكنائس وغير ذلك ، نقول : أولًا : لم يثبت لنا حتى نقول تركناه ، لأن هذا الربا الذي يعطونه ليس هو ثمرة أموالنا ، قد يكون المال الذي أعطيته إياه خسر ، أو يتلف ، ولكنهم يعطونك ربًا مضمونًا عليه ، فليس هذا الربا ثمرة مالك ولا كسب مالك حتى تقول إني لو تركته لهم لكنت آثمًا لكونهم يستعينون به على ما حرّم الله ، بل هو من أموالهم ، إذ أن مالك قد يكون كله زائل ، ولا يجوز لنا أن نستحسن ما استقبحه الشرع ، ولا أن نثبت ما أبطله الشرع .
نحن إذا اتقينا الله ، وقلنا تبنا إلى الله لنا رءوس أموالنا لا نظلم ولا نظلم ، فسوف يكون تدبيرهم علينا تدميرهم عليهم ، حتى لو استعانوا بالأموال على بناء الكنائس أو على الأسلحة ، فإنها ستكون عليهم ، لأن الله تعالى يقول : (( ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب )) ، لكنّ كثيرًا من الناس لا ينظر إلى الأمور إلا إلى الظاهر فقط ، لا ينظر إلى أن قوة وراء ذلك ، وأننا إذا اتقينا الله عز وجل وقلنا سمعنا وأطعنا ، نتقي الله ونذر ما بقي من الربا ولا نأخذ منه شيئًا فسيكون الله معنا ، (( إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون )) أما أن ننظر إلى الأمور ببداهة وببساطة وبسطحية ، فهذا ليس من الجيد .
لهذا نرى أنه يحرم على الإنسان إذا وضع أمواله في البنوك الأجنبية أو الأهلية نرى أنه يحرم عليه أن يأخذ الربا ، وأنه لا يجوز بأي حال من الأحوال ، وأنّ استحسان شيء حرمه الشرع في غير محله لا شك ، والله تعالى أعلم .
لم يقل ذروا ما بقي من الربا إلّا إذا خفتم كذا وكذا ، ولم يقل خذوه وتصدقوا به ، ثم من الذين يضمن أن هذا الرجال الذي أخذ ملايين من الربا ، من الذي يضمن أن يقوى نفسه ويتصدق بها ، ربما لا يستطيع ، ربما تسول له نفسه أن يبقيه .
ثم على فرض أنه على جانب كبير من التقوى تصدق بها ، فمن يعلم الآخرين أنه تصدق بها ؟ سوف يحذون حذوه ، ويقتدون به ويأخذون ما أخذ ، ثم إننا إذا قلنا للناس إن هذا الربا حرام عليكم ، فإن هذا سوف يلجئهم ويضطرهم إلى أن يكونوا مصارف إسلامية تخلو من الربا ، لكن إذا قلنا امشوا على الربا واستمرئوا هذا وذهبنا نؤول ونقول هذا لأجل أن لا يستعينوا بها على بناء الكنائس والصناعة الأسلحة قلنا ليس عندنا ضرورة إلى أن ننشئ بنوك إسلامية .
فالمهم أن الإنسان العاقل إذا تدبّر الأمر وجد أن كلّ ما استحسنته العقول في مقابلة النصوص فهو سيئ وخطأ ، ولهذا قال : ( وأول ربا أضع من ربانا ربا العباس ) مع أن ربا العباس متى كان ؟ في الجاهلية قبل أن تشرع الأحكام ، ومع ذلك وضعه النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم لم ندري ما مقدار ربا العباس ، قد تكون أموالًا عظيمة ، تساوي الملايين في ذلك الوقت ومع هذا وضعه النبي صلى الله عليه وسلم .
وفي هذا الحديث من بيان عدل النبي صلى الله عليه وسلم ما هو ظاهر ، أوّل ما قضى عليه من أمر الجاهلية ما كان يتصل بأقاربه ، وهذا كما قال في الحديث الصحيح : ( وايم الله ، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ) .
وهكذا يجب على الإنسان أن يكون قائمًا لله بالعدل لا يفرق بين قريب وبعيد ، أو غني وفقير ، أو قوي وضعيف ، الناس في حكم الله واحد لا يتميز أحد منهم بشيء إلّا بما ميّزه الله به .
ثم انتقل صلى الله عليه وسلم من ذلك إلى قضيّة المرأة ، قضية المرأة التي كانت في الجاهلية مظلومة ، وكان الرجال يستعبدون النساء ، حتى تصل بهم الحال إلى أن يمنعوهن الميراث ، ويقولون : لا إرث للمرأة ، الإرث للرجال لأنهم هم الذين يذودون عن البلاد ويحمون الأعراض ، أما المرأة فليس لها الميراث .
ولكن الإسلام حكم بالعدل في النساء ، وأعطاهن حقهن ، من ذلك إعلام الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الخطبة في قوله : ( اتقوا الله في النساء ) اتقوا الله فيهن ، لا تظلموهن لا تقصروا في حقوقهن ، لا تعتدوا عليهن ، ( فإنكم أخذتموهن بأمان الله ) ، وهن عندكم أمانة ، لا يجوز الغدر فيها ولا الخيانة ( واستحللتم فروجهن بكلمة الله ) كقوله تبارك وتعالى : (( والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم )) فهذه من كلمات الله التي استحل بها الرجل فرج امرأته ، ( ولكم عليهن ألّا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه ) هذا من حق الزوج على المرأة ، ألا توطئ فراشه أحدًا يكرهه .
والمراد بالفراش ما هو أعم من فراش النوم ، فيدخل في ذلك فراش البيت ، ويدخل في ذلك أيضًا ما كان وسيلة إليه كإدخال أحد بيت زوجها وهو يكرهه ، سواء كان من أقاربها أو من الأباعد ، فلا يحل للمرأة أن تدخل أحدًا بيت زوجها وهو لا يرضى بذلك ، فإن فعلن ذلك . فاضربوهن .