تتمة شرح :( ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر وصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعاه وكبره وهلله ووحده فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا فدفع قبل أن تطلع الشمس وأردف الفضل بن عباس وكان رجلا حسن الشعر أبيض وسيما فلما دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم مرت به ظعن يجرين فطفق الفضل ينظر إليهن فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر فحول رسول الله صلى الله عليه وسلم يده من الشق الآخر على وجه الفضل يصرف وجهه من الشق الآخر ينظر حتى أتى بطن محسر فحرك قليلا ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها مثل حصى الخذف رمى من بطن الوادي ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثا وستين بيده ثم أعطى عليا فنحر ما غبر وأشركه في هديه ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت فأكلا من لحمها وشربا من مرقها ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر فأتى بني عبد المطلب يسقون على زمزم فقال انزعوا بني عبد المطلب فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم فناولوه دلوا فشرب منه ) حفظ
الشيخ : وفيه أيضًا : أن الرسول صلى الله عليه وسلم حرك في بطن محسر ، ومحسر هذا وادٍ يفصل بين مزدلفة ومنى ، وسمي محسّرًا لأنه يحسر سالكه ، أي : يتعبه ، وذلك لكثرة الرمل الذي فيه ، فلماذا حرّك ، هل لأنه أسهل على الناقة لأنه إذا مشت بسرعة سار أسهل لها في مجاوزة الرمل الذي حمله السيل في مجرى هذا الوادي ، أو حرّك لأن الفيل أهلك فيه ، أو حرّك لأن قريشًا كانت تقف هناك وتذكر أمجاد آبائها وأجدادها .
في هذا ثلاثة أقوال للعلماء ، والظاهر والله أعلم الأول ، لأن الفيل لم يُهلك هناك ، الفيل هلك بالمغمس حول الأبطح ، كما قال أمية بن الصلت ، حبس الفيل في المغمس حتى ظل يحبو كأنه مكبول .
وفي هذه الجملة أيضًا من الحديث : أنه ينبغي للإنسان أن يسلك أقرب الطرق إلى الوصول إلى مقصده ، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم سلك الطريق الوسطى من طرق منى ، وكان في منى في ذلك الوقت ثلاثة طرق ، طريق شمالي وطريق جنوبي وطريق وسط ، هذا الوسط هو الذي يخرج على جمرة العقبة ، فسلكه النبي صلى الله عليه وسلم لأنه أقرب إلى مقصوده ، وهو الرمي .
الطالب : الراجح ياشيخ ؟
الشيخ : ذكرنا الراجح .
الطالب : الأول ؟
الشيخ : أي ذكرنا أنه الأول ، لأن الفيل لم يكن حبس هناك .
وأما وقوف أهل الجاهلية في هذا المكان فلم يثبت .
وفيه أيضا : في هذه الجملة ، من الحديث ،سلوك أسهل الطرق إلى حسن المقصود لما ذكرناه .
وفيه أيضًا : أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة ( جمرة العقبة ) يوم العيد راكبًا لأنه قصدها قبل أن يفعل أي شيء فرمى .
وفيه أيضًا دليل على ما ذهب إليه الفقهاء رحمهم الله ، من أن تحية منى رمي جمرة العقبة ، يُبدأ بها قبل كل شيء .
وفيه : ولم يذكر جابر رضي الله عنه من أين لقط الحصى حصى الجمرات ولكننا نعلم أنه لم يلقطها من مزدلفة ، لأنه اضطجع حتى طلع الفجر ثم صلى الفجر ثم ذهب إلى المشعر ثم دفع إلى منى ، لكن هل لقطها من الطريق أو لقطها حين وقف على الجمرة ؟ حديث ابن عباس في هذا محتمل لهذا وهذا ، أنه لقطها من الطريق أو لقطها حين وقف على الجمرة ، الله أعلم ، وعلى كل حال الذي ينبغي أن يكون الإنسان مستعدًا بالحصى ، حتى إذا وصل إلى الجمرة رماها .
وفيه أيضًا - في هذه الجملة - أن الرمي يكون بسبع حصيات لا ينقص ولا يزيد ، فإن نقص فقيل إنه لا يجزئه ، وأن عليه إطعام مسكين ، والحصاتين إطعام مسكينين ، وفي الثلاث حصى ، دم ، إذا كان هذا من آخر جمرة من الجمرات في أيام التشريق ، وإن كان من أول جمرة صارت الجمرات التي بعدها لا تصح ، وحينئذٍ يلزمه دم كامل .
ولكن الظاهر - والله أعلم - أن سقوط حصاة أو حصاتين لا يضر ، لأن الصحابة كانوا يرمون الجمرات ويقول أحدهم : رميت بخمس ، ويأتي أحدهم ويقول : رميت بست ، ولا ينكر أحد على أحد .
وفيه أيضًا : أن الحصى مثل حصى الخذف ، والخذف هو أن يضع الإنسان الحجر بين أصابعه ثم يضرب به هكذا ، وهذا لابد أن يكون صغيرًا، ولهذا قال الفقهاء في تعريفه : بين الحمص والبندق ، بعضهم قال : إنها مثل حبة الفول ، فهي ليست كبيرة ولا صغيرة .
وفيه أيضًا : أنه يرمي من بطن الوادي ، يعني لا من الجبل ، وكانت جمرة العقبة فيما سبق قبل هذه التوسعة وهذا التعديل ،كانت في جبل في سفح جبل ، وتحتها وادي مجرى السيل ، وفوقها جبل ولكنه ليس بالرفيع ، وهي لاصقة بنفس الجبل ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم من بطن الوادي ورماها ، ولم يأتيها من فوق ، وعلى هذا فتكون السنة أن يرميها من هذه الجهة ، فيجعل مكة عن يساره ويجعل منى عن يمينه ،كما فعل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وقال : هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة .
ولكن إذا كان محاولة الوصول إلى الجمرة من هذه الناحية فيه مشقة على الإنسان ، ولو رماها من وجه آخر لم يكن فيه مشقة وصار أخشع له وأبلغ في الطمأنينة كان رميه من الجهة الأخرى أفضل ، بناء على القاعدة المعروفة : أن الفضل المتعلِّق بذات العبادة أولى بالمراعاة من الفضل المتعلق بمكانها .
وفيه أيضًا : أنه إذا رمى الجمرة بادر بالنَّحر ، لقوله : ( ثم انصرف إلى المنحر فنحر ) .
وفيه أيضًا : أن الرسول صلى الله عليه وسلم رتَّب حجَّه ، وجعل لمكان نحر إبله مكانًا معينًا ، حتى ينحصر الأذى والقذر الحاصل بالنحر من الدم والفرث وما أشبه ذلك لقوله : ( ثم انصرف إلى المنحر فنحر ) .
يقول : ( ثلاثًا وستين بيده ) النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي ينحر هديه تذلُّلًا لله عز وجل وتعبُّدًا له ، لأن هذا النحر ليس للأكل ولكنه قربة بنفسه ، كما قال تعالى : (( لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم )) .
وفي هذا دليل على خطأ الفكرة السائدة بين الناس اليوم ، وهو أن المقصود من الأضحية هو اللحم ، ولذلك تجدهم لا يبالي الإنسان أن يذبح أضحيته بيده أو في بيته أو في بلده أو في مكان آخر ، حتى صاروا -نسأل الله أن يكتب لنا ولهم الهداية إلى الصراط المستقيم - صاروا يوصلون الدراهم إلى البلاد النائية البعيدة بدلًا عن الأضحية ، ويقولون : هم أحوج منا ، لكن ليس المقصود اللحم ، المقصود التقرب إلى الله بالذبح ، هذا أهم شيء في الأضحية ، والعجب أن هؤلاء كأنما يقولون : نطعم ولا نأكل ، مع أن الله قال : (( كلوا منها وأطعموا البائس )) فبدأ بالأكل ، لكن هؤلاء قالوا : لا نأكل بل نطعم ولا نأكل ، سبحان الله ! تتركون ما أمر الله به أولًا وتفعلون ما جعله الله آخرًا .
أهم شيء أن تذبحها أنت بنفسك ، تذللًا لله وتعظيمًا له ، وتقربًا إليه ، فإن لم تستطع فوكِّل من يذبح ، كما وكَّل النبيُّ صلى الله عليه وسلم ابن عمه علي بن أبي طالب أن يذبح ما بقي من هديه .
ثم إذا ذبحت وتقربت إلى الله فإن شئت فكل وإن شئت فتصدق بها ،
ولهذا لما نزلت بالمسلمين فاقة في إحدى السنوات لم يقل تصدقوا بالطعام ، لم يقل تصدَّقوا بالدراهم ، بل قال : ( اذبحوا لكن لا تدخروا فوق ثلاث ) وفي العام الثاني لما زالت الفاقة قال : ( كلوا وادخروا ما شئتم ) .
فالمهم : الذي يجب على طلبة العلم أن ينبِّهوا الناس ، على أن الذَّبح نفسه عبادة عظيمة قرنها الله بالصلاة ، نفس الذبح ، وإذا كانوا يحبون أن ينفعوا إخوانهم من الجهة الأخرى فليرسلوا دراهم صدقة ، تطوعًا لله عز وجل ، نحن لا نقول لا ترسلوا للفقراء هناك ، لكن نقول : لا ترسلوا الشعائر تقام هناك وتتركونها في بلادكم .
ولهذا كان من حكمة الله أن البلاد غير مكة تقام فيها هذه الشعيرة ، وهي التقرب إلى الله بالذبح ، لكن في مكة هدي ، وفي غيرها أضاحي ،
فهذه مسألة ينبغي أن يتنبه لها ، أكثر الناس تأخذهم العاطفة ، انفعوا إخوانكم في البلاد ، هم جياع ، هم فقراء ، هم أحوج منكم ، طيب ما في مانع ، لكن الذبح نفسه عبادة ، اذبحها وكل منها وكيسها وادفعها لهم .
ثم إذا أرسلنا الدراهم إلى هناك مَن يتولى الذبح ؟ ما ندري ، ما ندري من يتولاه ؟ هل يتولاه شيعي ؟ أو يتولاه قادياني ؟ أو يتولاه ملحد ؟ أو يتولاه من لا يصلي ، أو يتولاه من لا يُسمِّي على الأضحية ؟ ما ندري ؟! ثم إذا أحسنا الظن ، لا ندري متى يذبح ، قد لا تكون البهائم هناك متوفرة فيؤخرون الذبح إلى ما بعد أيام الذبح ، لاسيما إذا كثرت الأضاحي المبعوثة إليهم ، إذا مثل أرسل إليهم ثلاثين ألف ، عشرين ألف ، مَن يجد هذه الأضاحي ؟ ومن يضحي بها ؟
فلذلك يجب على طلبة العلم ، أن يبينوا للناس، وأن لا يكون الإنسان إمعة ، ما فعله الناس فعله بدون تروي وبدون الرجوع إلى الأصول الشرعية ، وهنا يقول : ( نحر ثلاث وستين بيده، ثم أعطى عليًّا فنحر ما غبر ) وأشركه في هديه .
قال أهل العلم : إن هذا من الحكمة الإلهية أن ينحر ثلاثًا وستين بيده ويعطي عليًّا ما بقي ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان عمره الشريف ثلاثًا وستين سنة ، وكان آخر هديه ثلاث وستون بدنة .
وفيه أيضًا : الدليل على التوكيل ، في الهدي ، لكن عند المشقة والتعذر ، وإلا فالأفضل أن الإنسان بنفسه يتولى ذبح هديه ، لكن إن كان هناك مشقة كما يوجد الآن فإن الإنسان يجد مشقة كبيرة إذا ذهب إلى المجزرة .
وفيه أيضًا : مزية عظيمة لعلي بن أبي طالب ، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أشركه في هديه ، وهذه الإشراك أولًا لقربه منه ، لأن أفضل قرابة النبي صلى الله عليه وسلم هو علي بن أبي طالب في ذلك الوقت ، ثم إن عليًّا قال : إني أحرمت بما أحرم به الرسول صلى الله عليه وسلم ، أهل بما أهل به الرسول ، فهذا جزاؤه ، جزاءً وفاقًا ، كما أهل بما أهل به الرسول أعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم من هديه .
وفي قوله : ( أكل منها وشرب من مرقها ) دليل على تأكد الأكل ، لأنه أمر من كل بدنة بقطعة ، وكان يكفيه أن يأخذ من بدنة واحدة يأكل ما شاء ، لكنه تحقيقًا لقوله تعالى : (( فكلوا منها )) أمر أن يؤخذ من كل بدنة قطعة صغيرة ، وجعلت في القدر ، وقلت قطعة صغيرة لأنها مائة قطعة ، تحتاج إلى قدر كبير ، لكن هذه القطع كانت صغيرة ، جعلت في قدر فطبخت فأكل من لحمها ، أكل هو وعلي بن أبي طالب ، وشربا من مرقها ، أكلا من لحمها ، ومعلوم أنه إذا أكل قطعة من اللحم لم يأكل ، لكن المرق الذي فيه طعم اللحم كله شرب منه ، وطعم اللحم كله موجود في المرق ، أكلا من لحمها وشربا من مرقها ، ثم ركب صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت فصلى .
فيه أيضًا : أنه إذا نحر يركب إلى البيت ويطوف ، ولم يذكر جابر الحلق ، لكن ذكره غيره ، وهذا فيه دليل على ما ذكرنا سابقًا أن جابر رضي الله عنه لم يسق كل ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم في الحج ، فهو لم يذكر نزول الرسول صلى الله عليه وسلم بين عرفة والمزدلفة ، ولم يذكر أنه أوتر ، ولم ينفِ الوتر ، ولم يذكر من أين لقط الحصى ، ولم يذكر الحلق ، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم حلق وتطيب وحل من إحرامه ، ونزل إلى البيت فطاف به ، طاف بالبيت ، ولم يسعَ ، لأنه كان قارنًا وسعى بعد طواف القدوم ، فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر.
ترتيب الأنساك التي ذكرها جابر هنا : الرمي ، ثم النحر ، ثم الإ فاضة ، وسكت عن الحلق لكن الحلق بين النحر والإفاضة .
وفي هذا دليل على أنه ينبغي للإنسان أن يصلي في مكة الظهر بعد أن يطوف ، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم .
وفيه البركة العظيمة في أعمال الرسول صلى الله عليه وسلم ، تصور المسألة ، دفع من مزدلفة حين أسفر جدًّا على الإبل ، ودفع بسكينة ، إلا في بطن المحسر ، ورمى الجمرات ، وذبح الإبل ، وحلق ، ولبس ، ونزل إلى مكة وصلى بها الظهر ، بركة عظيمة في هذه المدة الوجيزة ، مع أن الذي يظهر والله أعلم أن حجه كان في مثل هذا الوقت ، يعني في زمن الربيع تساوي الليل والنهار .
وفيه أيضًا أنه صلى بمكة الظهر ، وفي حديث أنس أنه صلى الظهر بمنى وهو في الصحيحين ، فبعضهم قدم حديث أنس لأنه في الصحيحين ، وقال إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل الظهر إلا في منى ، ومنهم من قدم حديث جابر ، والصحيح أنه لا تعارض ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم صلَّى الظهر بمكَّة ثم خرج إلى منى فوجد بعد أصحابه لم يصلوا فأعاد بهم الصلاةى ، وهذا جمعٌ ممكن ، ولا محذور فيه ، لكن محذور أن نقول أن جابرًا وهم - مثلًا - أو نسقط روايته ، هذا هو المحذور.
وهو متى أمكن الجمع وجب .
وفيه أيضًا - في هذه القطعة - أنه ينبغي الشرب من ماء زمزم ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم شرب من ماء زمزم .
وفيه أن أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم أسوة ، لقوله لبني عبد المطلب : انزعوا بني عبد المطلب فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم ، لأنه لو نزع لكان سنة ، يأخذ بها الناس ، وحينئذٍ يغلبونهم على السقاية .
وفيه تواضع النبي صلى الله عليه وسلم حين شرب من الدلو الذي يشرب منه الناس ، ناولوه دلوًا فشرب منه عليه الصلاة والسلام ، وظاهر الحال أنه شرب قائمًا ، فقيل : إنه شرب قائمًا لضيق المكان ، وقيل : إنه شرب قائمًا من أجل أن يتضلع منه - أي من ماء زمزم - لأن الإنسان كلما كان قائمًا صار أوسع لبطنه فيتضلع منه أكثر ، فالله أعلم .
المهم أن هذا الحديث من أطول الأحاديث في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم ، ولهذا جمع الشيخ الألباني -وفقه الله - جعله أصلًا لصفة حج النبي صلى الله عليه وسلم ، وبنى منسكه المعروف المشهور على هذا، وزاد فيه ما زاد . نعم
في هذا ثلاثة أقوال للعلماء ، والظاهر والله أعلم الأول ، لأن الفيل لم يُهلك هناك ، الفيل هلك بالمغمس حول الأبطح ، كما قال أمية بن الصلت ، حبس الفيل في المغمس حتى ظل يحبو كأنه مكبول .
وفي هذه الجملة أيضًا من الحديث : أنه ينبغي للإنسان أن يسلك أقرب الطرق إلى الوصول إلى مقصده ، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم سلك الطريق الوسطى من طرق منى ، وكان في منى في ذلك الوقت ثلاثة طرق ، طريق شمالي وطريق جنوبي وطريق وسط ، هذا الوسط هو الذي يخرج على جمرة العقبة ، فسلكه النبي صلى الله عليه وسلم لأنه أقرب إلى مقصوده ، وهو الرمي .
الطالب : الراجح ياشيخ ؟
الشيخ : ذكرنا الراجح .
الطالب : الأول ؟
الشيخ : أي ذكرنا أنه الأول ، لأن الفيل لم يكن حبس هناك .
وأما وقوف أهل الجاهلية في هذا المكان فلم يثبت .
وفيه أيضا : في هذه الجملة ، من الحديث ،سلوك أسهل الطرق إلى حسن المقصود لما ذكرناه .
وفيه أيضًا : أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة ( جمرة العقبة ) يوم العيد راكبًا لأنه قصدها قبل أن يفعل أي شيء فرمى .
وفيه أيضًا دليل على ما ذهب إليه الفقهاء رحمهم الله ، من أن تحية منى رمي جمرة العقبة ، يُبدأ بها قبل كل شيء .
وفيه : ولم يذكر جابر رضي الله عنه من أين لقط الحصى حصى الجمرات ولكننا نعلم أنه لم يلقطها من مزدلفة ، لأنه اضطجع حتى طلع الفجر ثم صلى الفجر ثم ذهب إلى المشعر ثم دفع إلى منى ، لكن هل لقطها من الطريق أو لقطها حين وقف على الجمرة ؟ حديث ابن عباس في هذا محتمل لهذا وهذا ، أنه لقطها من الطريق أو لقطها حين وقف على الجمرة ، الله أعلم ، وعلى كل حال الذي ينبغي أن يكون الإنسان مستعدًا بالحصى ، حتى إذا وصل إلى الجمرة رماها .
وفيه أيضًا - في هذه الجملة - أن الرمي يكون بسبع حصيات لا ينقص ولا يزيد ، فإن نقص فقيل إنه لا يجزئه ، وأن عليه إطعام مسكين ، والحصاتين إطعام مسكينين ، وفي الثلاث حصى ، دم ، إذا كان هذا من آخر جمرة من الجمرات في أيام التشريق ، وإن كان من أول جمرة صارت الجمرات التي بعدها لا تصح ، وحينئذٍ يلزمه دم كامل .
ولكن الظاهر - والله أعلم - أن سقوط حصاة أو حصاتين لا يضر ، لأن الصحابة كانوا يرمون الجمرات ويقول أحدهم : رميت بخمس ، ويأتي أحدهم ويقول : رميت بست ، ولا ينكر أحد على أحد .
وفيه أيضًا : أن الحصى مثل حصى الخذف ، والخذف هو أن يضع الإنسان الحجر بين أصابعه ثم يضرب به هكذا ، وهذا لابد أن يكون صغيرًا، ولهذا قال الفقهاء في تعريفه : بين الحمص والبندق ، بعضهم قال : إنها مثل حبة الفول ، فهي ليست كبيرة ولا صغيرة .
وفيه أيضًا : أنه يرمي من بطن الوادي ، يعني لا من الجبل ، وكانت جمرة العقبة فيما سبق قبل هذه التوسعة وهذا التعديل ،كانت في جبل في سفح جبل ، وتحتها وادي مجرى السيل ، وفوقها جبل ولكنه ليس بالرفيع ، وهي لاصقة بنفس الجبل ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم من بطن الوادي ورماها ، ولم يأتيها من فوق ، وعلى هذا فتكون السنة أن يرميها من هذه الجهة ، فيجعل مكة عن يساره ويجعل منى عن يمينه ،كما فعل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وقال : هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة .
ولكن إذا كان محاولة الوصول إلى الجمرة من هذه الناحية فيه مشقة على الإنسان ، ولو رماها من وجه آخر لم يكن فيه مشقة وصار أخشع له وأبلغ في الطمأنينة كان رميه من الجهة الأخرى أفضل ، بناء على القاعدة المعروفة : أن الفضل المتعلِّق بذات العبادة أولى بالمراعاة من الفضل المتعلق بمكانها .
وفيه أيضًا : أنه إذا رمى الجمرة بادر بالنَّحر ، لقوله : ( ثم انصرف إلى المنحر فنحر ) .
وفيه أيضًا : أن الرسول صلى الله عليه وسلم رتَّب حجَّه ، وجعل لمكان نحر إبله مكانًا معينًا ، حتى ينحصر الأذى والقذر الحاصل بالنحر من الدم والفرث وما أشبه ذلك لقوله : ( ثم انصرف إلى المنحر فنحر ) .
يقول : ( ثلاثًا وستين بيده ) النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي ينحر هديه تذلُّلًا لله عز وجل وتعبُّدًا له ، لأن هذا النحر ليس للأكل ولكنه قربة بنفسه ، كما قال تعالى : (( لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم )) .
وفي هذا دليل على خطأ الفكرة السائدة بين الناس اليوم ، وهو أن المقصود من الأضحية هو اللحم ، ولذلك تجدهم لا يبالي الإنسان أن يذبح أضحيته بيده أو في بيته أو في بلده أو في مكان آخر ، حتى صاروا -نسأل الله أن يكتب لنا ولهم الهداية إلى الصراط المستقيم - صاروا يوصلون الدراهم إلى البلاد النائية البعيدة بدلًا عن الأضحية ، ويقولون : هم أحوج منا ، لكن ليس المقصود اللحم ، المقصود التقرب إلى الله بالذبح ، هذا أهم شيء في الأضحية ، والعجب أن هؤلاء كأنما يقولون : نطعم ولا نأكل ، مع أن الله قال : (( كلوا منها وأطعموا البائس )) فبدأ بالأكل ، لكن هؤلاء قالوا : لا نأكل بل نطعم ولا نأكل ، سبحان الله ! تتركون ما أمر الله به أولًا وتفعلون ما جعله الله آخرًا .
أهم شيء أن تذبحها أنت بنفسك ، تذللًا لله وتعظيمًا له ، وتقربًا إليه ، فإن لم تستطع فوكِّل من يذبح ، كما وكَّل النبيُّ صلى الله عليه وسلم ابن عمه علي بن أبي طالب أن يذبح ما بقي من هديه .
ثم إذا ذبحت وتقربت إلى الله فإن شئت فكل وإن شئت فتصدق بها ،
ولهذا لما نزلت بالمسلمين فاقة في إحدى السنوات لم يقل تصدقوا بالطعام ، لم يقل تصدَّقوا بالدراهم ، بل قال : ( اذبحوا لكن لا تدخروا فوق ثلاث ) وفي العام الثاني لما زالت الفاقة قال : ( كلوا وادخروا ما شئتم ) .
فالمهم : الذي يجب على طلبة العلم أن ينبِّهوا الناس ، على أن الذَّبح نفسه عبادة عظيمة قرنها الله بالصلاة ، نفس الذبح ، وإذا كانوا يحبون أن ينفعوا إخوانهم من الجهة الأخرى فليرسلوا دراهم صدقة ، تطوعًا لله عز وجل ، نحن لا نقول لا ترسلوا للفقراء هناك ، لكن نقول : لا ترسلوا الشعائر تقام هناك وتتركونها في بلادكم .
ولهذا كان من حكمة الله أن البلاد غير مكة تقام فيها هذه الشعيرة ، وهي التقرب إلى الله بالذبح ، لكن في مكة هدي ، وفي غيرها أضاحي ،
فهذه مسألة ينبغي أن يتنبه لها ، أكثر الناس تأخذهم العاطفة ، انفعوا إخوانكم في البلاد ، هم جياع ، هم فقراء ، هم أحوج منكم ، طيب ما في مانع ، لكن الذبح نفسه عبادة ، اذبحها وكل منها وكيسها وادفعها لهم .
ثم إذا أرسلنا الدراهم إلى هناك مَن يتولى الذبح ؟ ما ندري ، ما ندري من يتولاه ؟ هل يتولاه شيعي ؟ أو يتولاه قادياني ؟ أو يتولاه ملحد ؟ أو يتولاه من لا يصلي ، أو يتولاه من لا يُسمِّي على الأضحية ؟ ما ندري ؟! ثم إذا أحسنا الظن ، لا ندري متى يذبح ، قد لا تكون البهائم هناك متوفرة فيؤخرون الذبح إلى ما بعد أيام الذبح ، لاسيما إذا كثرت الأضاحي المبعوثة إليهم ، إذا مثل أرسل إليهم ثلاثين ألف ، عشرين ألف ، مَن يجد هذه الأضاحي ؟ ومن يضحي بها ؟
فلذلك يجب على طلبة العلم ، أن يبينوا للناس، وأن لا يكون الإنسان إمعة ، ما فعله الناس فعله بدون تروي وبدون الرجوع إلى الأصول الشرعية ، وهنا يقول : ( نحر ثلاث وستين بيده، ثم أعطى عليًّا فنحر ما غبر ) وأشركه في هديه .
قال أهل العلم : إن هذا من الحكمة الإلهية أن ينحر ثلاثًا وستين بيده ويعطي عليًّا ما بقي ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان عمره الشريف ثلاثًا وستين سنة ، وكان آخر هديه ثلاث وستون بدنة .
وفيه أيضًا : الدليل على التوكيل ، في الهدي ، لكن عند المشقة والتعذر ، وإلا فالأفضل أن الإنسان بنفسه يتولى ذبح هديه ، لكن إن كان هناك مشقة كما يوجد الآن فإن الإنسان يجد مشقة كبيرة إذا ذهب إلى المجزرة .
وفيه أيضًا : مزية عظيمة لعلي بن أبي طالب ، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أشركه في هديه ، وهذه الإشراك أولًا لقربه منه ، لأن أفضل قرابة النبي صلى الله عليه وسلم هو علي بن أبي طالب في ذلك الوقت ، ثم إن عليًّا قال : إني أحرمت بما أحرم به الرسول صلى الله عليه وسلم ، أهل بما أهل به الرسول ، فهذا جزاؤه ، جزاءً وفاقًا ، كما أهل بما أهل به الرسول أعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم من هديه .
وفي قوله : ( أكل منها وشرب من مرقها ) دليل على تأكد الأكل ، لأنه أمر من كل بدنة بقطعة ، وكان يكفيه أن يأخذ من بدنة واحدة يأكل ما شاء ، لكنه تحقيقًا لقوله تعالى : (( فكلوا منها )) أمر أن يؤخذ من كل بدنة قطعة صغيرة ، وجعلت في القدر ، وقلت قطعة صغيرة لأنها مائة قطعة ، تحتاج إلى قدر كبير ، لكن هذه القطع كانت صغيرة ، جعلت في قدر فطبخت فأكل من لحمها ، أكل هو وعلي بن أبي طالب ، وشربا من مرقها ، أكلا من لحمها ، ومعلوم أنه إذا أكل قطعة من اللحم لم يأكل ، لكن المرق الذي فيه طعم اللحم كله شرب منه ، وطعم اللحم كله موجود في المرق ، أكلا من لحمها وشربا من مرقها ، ثم ركب صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت فصلى .
فيه أيضًا : أنه إذا نحر يركب إلى البيت ويطوف ، ولم يذكر جابر الحلق ، لكن ذكره غيره ، وهذا فيه دليل على ما ذكرنا سابقًا أن جابر رضي الله عنه لم يسق كل ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم في الحج ، فهو لم يذكر نزول الرسول صلى الله عليه وسلم بين عرفة والمزدلفة ، ولم يذكر أنه أوتر ، ولم ينفِ الوتر ، ولم يذكر من أين لقط الحصى ، ولم يذكر الحلق ، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم حلق وتطيب وحل من إحرامه ، ونزل إلى البيت فطاف به ، طاف بالبيت ، ولم يسعَ ، لأنه كان قارنًا وسعى بعد طواف القدوم ، فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر.
ترتيب الأنساك التي ذكرها جابر هنا : الرمي ، ثم النحر ، ثم الإ فاضة ، وسكت عن الحلق لكن الحلق بين النحر والإفاضة .
وفي هذا دليل على أنه ينبغي للإنسان أن يصلي في مكة الظهر بعد أن يطوف ، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم .
وفيه البركة العظيمة في أعمال الرسول صلى الله عليه وسلم ، تصور المسألة ، دفع من مزدلفة حين أسفر جدًّا على الإبل ، ودفع بسكينة ، إلا في بطن المحسر ، ورمى الجمرات ، وذبح الإبل ، وحلق ، ولبس ، ونزل إلى مكة وصلى بها الظهر ، بركة عظيمة في هذه المدة الوجيزة ، مع أن الذي يظهر والله أعلم أن حجه كان في مثل هذا الوقت ، يعني في زمن الربيع تساوي الليل والنهار .
وفيه أيضًا أنه صلى بمكة الظهر ، وفي حديث أنس أنه صلى الظهر بمنى وهو في الصحيحين ، فبعضهم قدم حديث أنس لأنه في الصحيحين ، وقال إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل الظهر إلا في منى ، ومنهم من قدم حديث جابر ، والصحيح أنه لا تعارض ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم صلَّى الظهر بمكَّة ثم خرج إلى منى فوجد بعد أصحابه لم يصلوا فأعاد بهم الصلاةى ، وهذا جمعٌ ممكن ، ولا محذور فيه ، لكن محذور أن نقول أن جابرًا وهم - مثلًا - أو نسقط روايته ، هذا هو المحذور.
وهو متى أمكن الجمع وجب .
وفيه أيضًا - في هذه القطعة - أنه ينبغي الشرب من ماء زمزم ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم شرب من ماء زمزم .
وفيه أن أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم أسوة ، لقوله لبني عبد المطلب : انزعوا بني عبد المطلب فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم ، لأنه لو نزع لكان سنة ، يأخذ بها الناس ، وحينئذٍ يغلبونهم على السقاية .
وفيه تواضع النبي صلى الله عليه وسلم حين شرب من الدلو الذي يشرب منه الناس ، ناولوه دلوًا فشرب منه عليه الصلاة والسلام ، وظاهر الحال أنه شرب قائمًا ، فقيل : إنه شرب قائمًا لضيق المكان ، وقيل : إنه شرب قائمًا من أجل أن يتضلع منه - أي من ماء زمزم - لأن الإنسان كلما كان قائمًا صار أوسع لبطنه فيتضلع منه أكثر ، فالله أعلم .
المهم أن هذا الحديث من أطول الأحاديث في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم ، ولهذا جمع الشيخ الألباني -وفقه الله - جعله أصلًا لصفة حج النبي صلى الله عليه وسلم ، وبنى منسكه المعروف المشهور على هذا، وزاد فيه ما زاد . نعم