تتمة فوائد :( فإن هم أبوا فسلهم الجزية فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك فإنكم أن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا ) حفظ
الشيخ : بسم الله الرحمن الرحيم
( فإن هم أبوا فسلهم الجزية فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم )، من فوائد هذا الحديث في هذه القطعة :
قبول الجزية من غير اليهود والنصارى، لقوله فيما سبق : ( إذا لقيت عدوك من المشركين )، وهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء، فمنهم من قال إن المشركين لا تُقبل منهم الجزية، وإنما الإسلام أو القتال، والصحيح أنها تقبل، ويدل لهذا أخذ النبي صلى الله عليه وسلم الجزية من مجوس هجر وهم مشركون، ودعوى أن لهم شبهة كتاب ليست بصحيحة، لأنا نقول أين الشبهة ؟، وإذا كان لهم شبهة فإننا لا نقبل منهم، لأننا إذا قلنا يشترط لقبول الجزية أن يكون الباذل من أهل الكتاب ، فهؤلاء هم مشكوك فيهم لم يتحقق فيهم الشرط، فالصواب جواز أخذ الجزية من المشركين واليهود والنصارى ، بل من كل كافر، حتى من لا يدين بشيء إذا دعوناه للإسلام فأبى طلبنا منه الجزية ، فإن أبى قاتلناه.
فإن قال قائل : ما هي الجزية ؟ ، قلنا : هي العوض الذي يُؤخذ عوضاً عن حماية أهل الذمة وعن عدم قتالهم، وأن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين لكن بالشروط المعروفة عند أهل العلم .
فإن قال قائل : وهل هي مقّرة شرعاً أو بحسب ما يراه الإمام ؟ .
فالجواب الثاني غير مقدرة شرعاً، بل ما يرى الإمام أنه جزية يكفهم فله أن يختاره، فإذن هي راجعة إلى اجتهاد الإمام.
يقول : فإن أبوا -هذه المرتبة الرابعة-، إن أبوا الرابعة أو الثالثة ؟.
ادعهم للإسلام ثم بعد أن يسلموا يتحولوا إلى دار المهاجرين ، فإن أبوا فالجزية، فإن أبوا هذا الثالث ، قال : ( فاستعن بالله وقاتلهم )، هذا يدل علىأنه إن أبى المشركون ما عرض عليهم وجب قتالهم .
ومن فوائده أن يكون الإنسان مستعيناً بالله عز وجل في قتال المشركين، ولكن يُشترط لوجوب القتال أن يكون قادراً على ملاقاة هؤلاء، فإن لم يكن قادراً فإنه لا يجب القتال، بل لو قيل بالتحريم لكان أولى، لأن قتالهم مع عدم القدرة إضرار بالمسلمين، ربما يقضون على هؤلاء الذين قاتلوهم ويسيرون إلى الآخرين، فلا بد من شرط القدرة على قتالهم، ولا يُشترط أن تكون قواتنا أقوى، بل إذا كانت متكافئة أو أقوى، أما إذا كنا نعلم أننا لا قبل لنا بهم فإن قتالهم من الحمق، ولم تأت به الشريعة، ولهذا لم يُؤمر المسلمون بالقتال إلا حين صار لديهم دولة، وصار لهم شوكة وصار عندهم قوة .
ومن فوائد هذا الحديث جواز محاصرة الحون، والحصون هي عبارة عن القلاع التي يحتمي بها الأعداء، فيجوز محاصرتها ، أي أن تحصر من كل الجوانب ويُمنع عنها الطعام والشراب .
فإن قال قائل : هل في ذلك تعذيب لهم، أليس النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( دخلت امرأة النار في هرة حبستها لا هي أطعمتها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض ) فما الجواب ؟ .
الجواب من وجهين :
الأول : أن هؤلاء الكفار المحاربين لا حرمة لهم، لأن دماءهم حلال لنا، وأموالهم حلال لنا .
الثاني: أن بإمكانهم أن يتخلصوا من هذا الحصار، بماذا ؟ . بالاستسلام، إذا استسلموا حصل لهم الفكاك من الحصار بخلاف الهرة .
إذن نحاصرهم، أي نحيط بهم من كل جانب، ونمنع عنهم الطعام والشراب، والخروج ودخول أحد عليهم .
من فوائد هذا الحديث أنهم إذا طلبوا أن يُجعل لهم عهد الله وعهد نبيه فإنهم لا يُعطون ذلك، ولكن يُعطون عهد القائد، قائد الجيش المحاصر ، وعهد أصحابه، لأن النبي صلى الله علهيه وسلم نهى عن ذلك : ( لا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه ).
ومن فوائد هذا الحديث حكمة النبي صلى اله عليه وسلم في تعليمه وأحكامه، لأنه بين العلة من كوننا لا نعطيهم ذمة الله وذمة نبيه، لأنه ربما يحصل نقض للعهد، فنكون بذلك نقضنا عهد الله ورسوله، ونقض عهدنا وعهد أصحابنا أهون من نقض عهد الله وعهد رسوله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال : ( فإنكم أن تُخفروا أو إن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم أهون ).
ومن فوائد هذا الحديث استعمال أفعل التفضيل فيما ليس في الطرفين منه شيء، وهذا نادر، لقوله : أهون، فإن المعروف في اسم التفضيل اشتراك المفضَّل والمفضَّل عليه في الصفة، ومعوم أن هذا لا يشترك فيه المفضّل ولا المفضَّل عليه في الصفة، لأن الصفة التي فيها التفضيل هو الهون ، ومعلوم أن إخفار الذمم سواء كان ذلك في ذمة الله وذمة رسوله أو ذمة القائد وأصحابه ليس بهين، لأنه من الغدر، والغدر من صفات المنافقين .
فيستفاد من هذا أنه يجوز في اللغة العربية استعمال أفعل التفضيل فيما ليس في الطرفين منه شيء، فالهون ليس موجوداً لا في إخفار ذممنا ولا في إخفار ذمة الله وذمة رسوله، لكن المعلوم أن الشر بعضه أهون.
ومن فوائد هذا الحديث أن الشرور تتفاضل، بعضها أشد، من أين تؤخذ الأخ ؟ .
أين سرحت ؟ أجب سرحت أم أنت باق ؟ .
الطالب : ...
الشيخ : أهون اسم التفضيل يدل على أن الشرور تتفاضل كما أن الخيرات تتفاضل ، وهذا أمر في الحقيقة لا يحتاج إلى استدلال، لأنه واضح.
ومن فوائد هذا الحديث أنه لا يجوز أن يُنزَّل أهل الحصن المحصورين على حكم الله ورسوله، لقوله : ( فإن أرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله )، لماذا ؟ .
علل قال : ( فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا )، إذن على أي شيء ينزلهم ؟ على حكم القائد والجيش، وهو سيجتهد إما أن يصيب وإما أن يخطيء، إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر، والخطأ مغفور.
ومن فوائد هذا الحديث أنه لا ينبغي للمفتي أن يقول فيما يفتي به هذا شرع الله، لأنه لا يدري أيصيب شرع الله أم لا ؟، اللهم إلا في أمر بين كأن يقول : الميتة حرام، هذا حكم الله، لأن هذا صريح ليس فيه إشكال، لكن المسائل الاجتهادية لا ينبغي له أن يقول : حكم الشرع كذا، حكم الإسلام كذا، لأنه لا يدري أيصيب حكم الشرع أو لا يصيب، وعليه فإذا وجه إليك سائل يقول : ما حكم الشارع في كذا ؟ فأرشده، قل له يا أخي لا تقل هذا الكلام، لأني أنا بشر أخطئ وأصيب، فلا أدري إذا قلت شيئا أن أصيب الشرع أم لا أصيبه.
ومن فوائد هذا الحديث جواز الاجتهاد، لقوله : ( أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب )، ومعلوم أنه إذا كان لا يدري أيصيب أم لا ، فإنه قد حكم عن اجتهاد، ولا شك أن الاجتهاد في الشريعة الإسلامية جائز، ولكن لا يمكن أن يعرض به النص أبداً بأي حال من الأحوال .
وهناك مسائل واقعة فيها اجتهاد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعده ، عمار بن ياسر أجنب وهو في سرية، أصابته الجنابة وخاف، وليس معه ماء، فماذا صنع ؟ .
تمرّغ في الصعيد كما تمرغ الدابة قياساً على طهارة الماء، فإن طهارة الماء من الجنابة تعم جميع البدن، فظن أن التراب كالماء فاجتهد، ومن المعلوم أنه في ذلك المكان ليس له إلا الاجتهاد، فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم أخبره بأن هذا غير صضحيح، وأنه يكفيه أن يتيمم في كفيه، فهل نقول إن القياس هنا مقدم على النص ؟ .
الجواب : لا، لا يمكن، عبد الله بن عمر رضي الله عنه، لما حدث أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال : ( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله )، قال ابنه بلال : والله لنمنعهن، لأنه رأى أمراً يقتضي أن تُمنع النساء أن تخرج من البيوت، أقبل عليه أبوه عبد الله، سبه سباً شدياً لم يسبه قبله قط، لأنه عارض الحديث وإن كان عن اجتهاد، لكنه اجتهاد غير لائق، غير سائغ ، وقال له : أقول لك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله )، وتقول : والله لنمنعهن! ثم أقسم ألا يكلمه مدة حياته ، هجره ، لماذا يعارض هذا النص بهذا الأسلوب .
إذن نقول المجتهد قد يصيب وقد يخطئ، ولكن لا يمكن أن يُعارض النص باجتهاد أحد كائنا من كان، وهذا له أمثلة كثيرة :
منها حديث الناس قبل أيام قليلة رمي الجمرات قبل الزوال، اجتهد بعض الناس وأفتى لهم أن يرموا قبل الزوال في اليوم الثاني عشر، لكن هذا غلط، لا يستقيم، لأنه مخالف للسنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( خذوا عني مناسككم ) ولم يرم قبل الزوال، ولم يرخص لأحد أن يرمي قبل الزوال، والاجتهاد مع وجود النص لاغ لا شك فيه .
فإذا قالوا : إن الرسول لم يدري عن الحال التي عليها الناس اليوم ؟.
قلنا إذا كان الرسول لا يدري فالله يدري، ولم يقل النبي عليه الصلاة والسلام ارموا قبل الزوال عند الزحام .
ومن فوائد هذا الحديث أن الإنسان إذا اجتهد فأخطأ فلا إثم عليه، لقوله : ( أنزلهم على حكمك ) مع قوله : ( إنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا )، وهو كذلك، إذا اجتهد الإنسان وبذل جهده وطاقته في تحري الحق وأخطأ فلا شيء عليه، حتى لو أفتى شخصاً بصحة صلاته مع بطلانها بمقتضى النص، فلا شيء عليه، لأنه مجتهد .
وهل مثل ذلك من تصرف لغيره بوكالة أو ولاية وأخطأ في اجتهاده ؟ .
الجواب نعم، مع أن هذا حق آدمي، لكنه مجتهد، فإذا وكل شخصاً في بيع شيء ، وباعه في السوق مجتهداً متحريا لكثرة الثمن، وباعه عند آخر سوم ، ثم تبين من الخارج أن قيمة هذه السلعة مرتفعة وهو لم يدر ، فهل عليه شيء ؟ .
ليس عليه شيء، والأمثلة في هذا كثير ، لا بالنسبة لأولياء الأيتام، ولا للوكلاء، ولا للأوصياء، ولا لنظار الأوقاف، كلهم إذا تصرفوا تصرفا عن اجتهاد وتبين خطؤهم فإنه لا شيء عليهم، لا إثم ولا ضمان.
وهذه مسألة ينبغي للإنسان أن يتفطن لها حتى يستريح ويريح غيره إذا استُفتي، لا يقول إذا تصرف تصرفا باجتهاد ثم تبين الخطأ . أنا والله الآن أخطأت ، وأنا أخشى على ذمتي .
نقول: لا ، لا شيء عليك، ما دمت أنك تصرفت تصرفاً ترى أنه المناسب فلا شيء عليك .
( فإن هم أبوا فسلهم الجزية فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم )، من فوائد هذا الحديث في هذه القطعة :
قبول الجزية من غير اليهود والنصارى، لقوله فيما سبق : ( إذا لقيت عدوك من المشركين )، وهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء، فمنهم من قال إن المشركين لا تُقبل منهم الجزية، وإنما الإسلام أو القتال، والصحيح أنها تقبل، ويدل لهذا أخذ النبي صلى الله عليه وسلم الجزية من مجوس هجر وهم مشركون، ودعوى أن لهم شبهة كتاب ليست بصحيحة، لأنا نقول أين الشبهة ؟، وإذا كان لهم شبهة فإننا لا نقبل منهم، لأننا إذا قلنا يشترط لقبول الجزية أن يكون الباذل من أهل الكتاب ، فهؤلاء هم مشكوك فيهم لم يتحقق فيهم الشرط، فالصواب جواز أخذ الجزية من المشركين واليهود والنصارى ، بل من كل كافر، حتى من لا يدين بشيء إذا دعوناه للإسلام فأبى طلبنا منه الجزية ، فإن أبى قاتلناه.
فإن قال قائل : ما هي الجزية ؟ ، قلنا : هي العوض الذي يُؤخذ عوضاً عن حماية أهل الذمة وعن عدم قتالهم، وأن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين لكن بالشروط المعروفة عند أهل العلم .
فإن قال قائل : وهل هي مقّرة شرعاً أو بحسب ما يراه الإمام ؟ .
فالجواب الثاني غير مقدرة شرعاً، بل ما يرى الإمام أنه جزية يكفهم فله أن يختاره، فإذن هي راجعة إلى اجتهاد الإمام.
يقول : فإن أبوا -هذه المرتبة الرابعة-، إن أبوا الرابعة أو الثالثة ؟.
ادعهم للإسلام ثم بعد أن يسلموا يتحولوا إلى دار المهاجرين ، فإن أبوا فالجزية، فإن أبوا هذا الثالث ، قال : ( فاستعن بالله وقاتلهم )، هذا يدل علىأنه إن أبى المشركون ما عرض عليهم وجب قتالهم .
ومن فوائده أن يكون الإنسان مستعيناً بالله عز وجل في قتال المشركين، ولكن يُشترط لوجوب القتال أن يكون قادراً على ملاقاة هؤلاء، فإن لم يكن قادراً فإنه لا يجب القتال، بل لو قيل بالتحريم لكان أولى، لأن قتالهم مع عدم القدرة إضرار بالمسلمين، ربما يقضون على هؤلاء الذين قاتلوهم ويسيرون إلى الآخرين، فلا بد من شرط القدرة على قتالهم، ولا يُشترط أن تكون قواتنا أقوى، بل إذا كانت متكافئة أو أقوى، أما إذا كنا نعلم أننا لا قبل لنا بهم فإن قتالهم من الحمق، ولم تأت به الشريعة، ولهذا لم يُؤمر المسلمون بالقتال إلا حين صار لديهم دولة، وصار لهم شوكة وصار عندهم قوة .
ومن فوائد هذا الحديث جواز محاصرة الحون، والحصون هي عبارة عن القلاع التي يحتمي بها الأعداء، فيجوز محاصرتها ، أي أن تحصر من كل الجوانب ويُمنع عنها الطعام والشراب .
فإن قال قائل : هل في ذلك تعذيب لهم، أليس النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( دخلت امرأة النار في هرة حبستها لا هي أطعمتها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض ) فما الجواب ؟ .
الجواب من وجهين :
الأول : أن هؤلاء الكفار المحاربين لا حرمة لهم، لأن دماءهم حلال لنا، وأموالهم حلال لنا .
الثاني: أن بإمكانهم أن يتخلصوا من هذا الحصار، بماذا ؟ . بالاستسلام، إذا استسلموا حصل لهم الفكاك من الحصار بخلاف الهرة .
إذن نحاصرهم، أي نحيط بهم من كل جانب، ونمنع عنهم الطعام والشراب، والخروج ودخول أحد عليهم .
من فوائد هذا الحديث أنهم إذا طلبوا أن يُجعل لهم عهد الله وعهد نبيه فإنهم لا يُعطون ذلك، ولكن يُعطون عهد القائد، قائد الجيش المحاصر ، وعهد أصحابه، لأن النبي صلى الله علهيه وسلم نهى عن ذلك : ( لا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه ).
ومن فوائد هذا الحديث حكمة النبي صلى اله عليه وسلم في تعليمه وأحكامه، لأنه بين العلة من كوننا لا نعطيهم ذمة الله وذمة نبيه، لأنه ربما يحصل نقض للعهد، فنكون بذلك نقضنا عهد الله ورسوله، ونقض عهدنا وعهد أصحابنا أهون من نقض عهد الله وعهد رسوله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال : ( فإنكم أن تُخفروا أو إن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم أهون ).
ومن فوائد هذا الحديث استعمال أفعل التفضيل فيما ليس في الطرفين منه شيء، وهذا نادر، لقوله : أهون، فإن المعروف في اسم التفضيل اشتراك المفضَّل والمفضَّل عليه في الصفة، ومعوم أن هذا لا يشترك فيه المفضّل ولا المفضَّل عليه في الصفة، لأن الصفة التي فيها التفضيل هو الهون ، ومعلوم أن إخفار الذمم سواء كان ذلك في ذمة الله وذمة رسوله أو ذمة القائد وأصحابه ليس بهين، لأنه من الغدر، والغدر من صفات المنافقين .
فيستفاد من هذا أنه يجوز في اللغة العربية استعمال أفعل التفضيل فيما ليس في الطرفين منه شيء، فالهون ليس موجوداً لا في إخفار ذممنا ولا في إخفار ذمة الله وذمة رسوله، لكن المعلوم أن الشر بعضه أهون.
ومن فوائد هذا الحديث أن الشرور تتفاضل، بعضها أشد، من أين تؤخذ الأخ ؟ .
أين سرحت ؟ أجب سرحت أم أنت باق ؟ .
الطالب : ...
الشيخ : أهون اسم التفضيل يدل على أن الشرور تتفاضل كما أن الخيرات تتفاضل ، وهذا أمر في الحقيقة لا يحتاج إلى استدلال، لأنه واضح.
ومن فوائد هذا الحديث أنه لا يجوز أن يُنزَّل أهل الحصن المحصورين على حكم الله ورسوله، لقوله : ( فإن أرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله )، لماذا ؟ .
علل قال : ( فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا )، إذن على أي شيء ينزلهم ؟ على حكم القائد والجيش، وهو سيجتهد إما أن يصيب وإما أن يخطيء، إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر، والخطأ مغفور.
ومن فوائد هذا الحديث أنه لا ينبغي للمفتي أن يقول فيما يفتي به هذا شرع الله، لأنه لا يدري أيصيب شرع الله أم لا ؟، اللهم إلا في أمر بين كأن يقول : الميتة حرام، هذا حكم الله، لأن هذا صريح ليس فيه إشكال، لكن المسائل الاجتهادية لا ينبغي له أن يقول : حكم الشرع كذا، حكم الإسلام كذا، لأنه لا يدري أيصيب حكم الشرع أو لا يصيب، وعليه فإذا وجه إليك سائل يقول : ما حكم الشارع في كذا ؟ فأرشده، قل له يا أخي لا تقل هذا الكلام، لأني أنا بشر أخطئ وأصيب، فلا أدري إذا قلت شيئا أن أصيب الشرع أم لا أصيبه.
ومن فوائد هذا الحديث جواز الاجتهاد، لقوله : ( أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب )، ومعلوم أنه إذا كان لا يدري أيصيب أم لا ، فإنه قد حكم عن اجتهاد، ولا شك أن الاجتهاد في الشريعة الإسلامية جائز، ولكن لا يمكن أن يعرض به النص أبداً بأي حال من الأحوال .
وهناك مسائل واقعة فيها اجتهاد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعده ، عمار بن ياسر أجنب وهو في سرية، أصابته الجنابة وخاف، وليس معه ماء، فماذا صنع ؟ .
تمرّغ في الصعيد كما تمرغ الدابة قياساً على طهارة الماء، فإن طهارة الماء من الجنابة تعم جميع البدن، فظن أن التراب كالماء فاجتهد، ومن المعلوم أنه في ذلك المكان ليس له إلا الاجتهاد، فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم أخبره بأن هذا غير صضحيح، وأنه يكفيه أن يتيمم في كفيه، فهل نقول إن القياس هنا مقدم على النص ؟ .
الجواب : لا، لا يمكن، عبد الله بن عمر رضي الله عنه، لما حدث أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال : ( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله )، قال ابنه بلال : والله لنمنعهن، لأنه رأى أمراً يقتضي أن تُمنع النساء أن تخرج من البيوت، أقبل عليه أبوه عبد الله، سبه سباً شدياً لم يسبه قبله قط، لأنه عارض الحديث وإن كان عن اجتهاد، لكنه اجتهاد غير لائق، غير سائغ ، وقال له : أقول لك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله )، وتقول : والله لنمنعهن! ثم أقسم ألا يكلمه مدة حياته ، هجره ، لماذا يعارض هذا النص بهذا الأسلوب .
إذن نقول المجتهد قد يصيب وقد يخطئ، ولكن لا يمكن أن يُعارض النص باجتهاد أحد كائنا من كان، وهذا له أمثلة كثيرة :
منها حديث الناس قبل أيام قليلة رمي الجمرات قبل الزوال، اجتهد بعض الناس وأفتى لهم أن يرموا قبل الزوال في اليوم الثاني عشر، لكن هذا غلط، لا يستقيم، لأنه مخالف للسنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( خذوا عني مناسككم ) ولم يرم قبل الزوال، ولم يرخص لأحد أن يرمي قبل الزوال، والاجتهاد مع وجود النص لاغ لا شك فيه .
فإذا قالوا : إن الرسول لم يدري عن الحال التي عليها الناس اليوم ؟.
قلنا إذا كان الرسول لا يدري فالله يدري، ولم يقل النبي عليه الصلاة والسلام ارموا قبل الزوال عند الزحام .
ومن فوائد هذا الحديث أن الإنسان إذا اجتهد فأخطأ فلا إثم عليه، لقوله : ( أنزلهم على حكمك ) مع قوله : ( إنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا )، وهو كذلك، إذا اجتهد الإنسان وبذل جهده وطاقته في تحري الحق وأخطأ فلا شيء عليه، حتى لو أفتى شخصاً بصحة صلاته مع بطلانها بمقتضى النص، فلا شيء عليه، لأنه مجتهد .
وهل مثل ذلك من تصرف لغيره بوكالة أو ولاية وأخطأ في اجتهاده ؟ .
الجواب نعم، مع أن هذا حق آدمي، لكنه مجتهد، فإذا وكل شخصاً في بيع شيء ، وباعه في السوق مجتهداً متحريا لكثرة الثمن، وباعه عند آخر سوم ، ثم تبين من الخارج أن قيمة هذه السلعة مرتفعة وهو لم يدر ، فهل عليه شيء ؟ .
ليس عليه شيء، والأمثلة في هذا كثير ، لا بالنسبة لأولياء الأيتام، ولا للوكلاء، ولا للأوصياء، ولا لنظار الأوقاف، كلهم إذا تصرفوا تصرفا عن اجتهاد وتبين خطؤهم فإنه لا شيء عليهم، لا إثم ولا ضمان.
وهذه مسألة ينبغي للإنسان أن يتفطن لها حتى يستريح ويريح غيره إذا استُفتي، لا يقول إذا تصرف تصرفا باجتهاد ثم تبين الخطأ . أنا والله الآن أخطأت ، وأنا أخشى على ذمتي .
نقول: لا ، لا شيء عليك، ما دمت أنك تصرفت تصرفاً ترى أنه المناسب فلا شيء عليك .