ذكر قصة إبراهيم الخليل عليه السلام مع ابنه إسماعيل الذبيح عليه السلام. حفظ
الشيخ : ولعلنا نقتصر على هذا ونبدأ فيما نريد الكلام عليه مما سمعناه من قراءة أئمتنا.
في الحقيقة أنه تزاحم عندي ثلاثة أشياء، الأول: بيان الأدلة على إمكان إحياء الموتى، وذلك في آخر سورة يس.
والثاني : قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام مع ابنه إسماعيل.
والثالث : قصة داود مع خصميه.
فأي الثلاثة ترجحون؟
الطالب : قصة إبراهيم.
الشيخ : نعم.
الطالب : قصة إبراهيم.
الشيخ : كلها لا يمكن، نعم قصة إبراهيم؟
طيب، وصل إلى سمعي الآن أصوات أكثر في ترجيح قصة إبراهيم. طيب.
إنما أقضي بنحو ما أسمع، والذي وصل إلى سمعي الأكثر قصة إبراهيم، فلتكن إياها إن شاء الله.
إبراهيم عليه الصلاة والسلام تعلمون أنه من أولي العزم من الرسل الذين أوصى الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يصبر كصبرهم، فقال : (( فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ))، وهم خمسة: محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وجعلني الله وإياكم من أتباعه ظاهرا وباطنا.
والثاني: إبراهيم، والثالث: موسى، والرابع والخامس: عيسى ونوح.
ذكرهم الله تعالى في موضعين من القرآن في سورة الأحزاب وفي سورة الشورى، والموضعان معلومان.
إبراهيم عليه الصلاة والسلام نال وصفا لم ينله معه إلا واحد، وما هو؟
الطالب : ... .
الشيخ : أي نعم، الخلة، ولهذا لا يمكن أن نقول إن جميع الأنبياء أخلاء لله، ولكن نقول إن الخليلين هما محمد وإبراهيم.
وبه نعرف أن الذين يصفون الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه حبيب الله دون أن يصفوه بخليل الله وصفهم إياه ناقص بلا شك، لأن الخليل أعلى رتبة من الحبيب، لا شك في هذا، ولذلك تجدون المحبة يثبتها الله عز وجل لغير الأنبياء، مثل: (( إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين )) ((يحب المتقين )) (( يحب المحسنين )).
لكن الخلة ما جاءت إلا للنبيين الكريمين محمد وإبراهيم.
فإذا كنت تريد أن تصف الرسول عليه الصلاة والسلام بأن الله يحبه، فبدل من أن تقول حبيب الله فقل خليل الله.
فإن قال: أنا أقصد الحبيب، لأن بعضهم يقول محمد الحبيب، أقصد الحبيب إلي ؟
نقول: أيضا هذا نقص إنه خليلك، وكونه خليلك أعلى في المحبة من كونه حبيبك.
ويدل لهذا أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : ( لو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر )، ومع ذلك سئل ( أي الرجال أحب إليك قال : أبو بكر )، فأثبت له المحبة، ولكن نفى عنه الخلة، لأن الخلة أعلى.
وعلى هذا فأقول أنا: إن خليلي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم أكمل مما إذا قلت: إن حبيبي محمد صلى الله عليه وسلم.
انتبهوا للعبارات التي ترد في بعض المقالات دون أن يكون فيها تحرير، ولا تأخذوا الشيء على علاته، انتبهوا للمعاني.
فحينئذ نقول هاذان الخليلان هما أفضل الرسل. وأما القصة فاستمع إليها.
ماذا قال ؟ قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام، نعم، قال (( رب هب لي من الصالحين )). رب هب لي: بمعنى أعطني، من الصالحين أي: ولدا من الصالحين.
(( فبشرناه بغلام حليم )) يعني أخبرناه خبرا يسره بهذا الغلام، لكن هذا الغلام حليم، وانتبه أنه ذكر الغلام في قصة إبراهيم مرة وصف بالحليم، ومرة وصف بالعليم، والوصفان لشخصين لا لشخص واحد.
العليم إسحاق، إذا وجدت (( بشرناه بغلام عليم )) فيراد به إسحاق، (( بغلام حليم )) يراد به إسماعيل.
إسماعيل أبو العرب الذين منهم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وإسحاق أبو بني إسرائيل الذين منهم موسى وهارون وأنبياء كثيرون.
(( بغلام حليم )) وصفه بالحلم، لأنك سيتبين لك في القصة أن حلمه من أوسع الحلم الذي يمكن أن يتصف به البشر.
فلما بلغ معه السعي، وانتبهوا أنه بشر بهذا الغلام وقد تمادى به السن، يعني وهو كبير، بشره الله بهذا الغلام، وفعلا ولد له، وهو وحيده، ليس له أحد سواه من الأولاد، وإذا كان وحيده وقد جاءه على كبر ماذا يكون له في المنزلة في القلب؟ أجيبوا ؟ يكون له منزلة كبيرة، ولد ليس له غيره، وعلى كبر، سيكون منزلته في قلبه كبيرة جدا.
(( فلما بلغ معه السعي )) انتبه يا أخ (( لما بلغ معه )) أي مع أبيه السعي، وصار يسعى معه، وهذا أشد ما يكون لتعلق القلب بالولد، لأن الصغير الطفل لا يتعلق به القلب كثيرا، والكبير الذي استقل بنفسه لا يتعلق به القلب كثيرا، إنما يتعلق القلب بمن؟ بالصغير الذي يمشي معه فنجده يساعده في بعض أموره، ولا يعصيه فيما يأمر به، ولا يغضبه، لأنه صغير.
لما بلغ معه السعي أراد الله عز وجل أن يمتحنه ويتمحن ابنه، قال له أبوه (( إني أرى في المنام أني أذبحك )) بلاء عظيم، ورؤيا الأنبياء وحي، ولهذا قالت عائشة : ( كان أول ما بدئ به الوحي برسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصالحة ).
(( إني أرى في المنام أني أذبحك )) هل هرب الابن خوفا من الذبح؟ نعم؟ ولو قال أحد منا لولده سأذبحك، نعم، لذهب يطلب الملاجئ، لكن هذا الغلام قال: يا أبت، شف اللطف التلطف باللفظ (( يا أبت افعل ما تؤمر )) سبحان الله، تعلمون أن كلمة يا أبت فيها رقة (( يا أبت افعل ما تؤمر ))، وهل أُمر أن يذبحه؟ نعم،كونه يذبحه في المنام يعني أن الله أمره بذلك، (( افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين )) سبحان الله، غلام يقول هذا الكلام البليغ، ستجدني الفعل هنا محقق بإيش؟ بالسين لأن الفعل إذا دخل عليه السين فهو محقق كما قال تعالى : (( سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها )) ستجدني، ولكن ما هذا مع كونه عازما على أن يصبر وأن أباه سيجد ذلك قال إن شاء الله، لأنه لا ينبغي للإنسان أن يجزم بفعل الشيء إلا بمشيئة الله كما قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم : (( ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله )).
(( ستجدني إن شاء الله من الصابرين ))، ولم يقل صابرا لئلا يضيف الفعل إلى نفسه مباشرة، وكل هذا تبرؤ من الحول والقوة والإعجاب.
(( ستجدني إن شاء الله من الصابرين فلما أسلما )) أسلما يعني استسلما لأمر الله، من هما؟ الأب والابن، إبراهيم وابنه إسماعيل.
(( وتله )) أي: الأب تل الابن، هكذا جذبه، (( للجبين )) يعني على وجهه، والجبين الجبهة، وإنما تله للجبين لسببين :
السبب الأول : ألا يرتاع الابن من رؤية السكين قبل أن تصيبه، ولهذا نهي أن تحد السكاكين أمام البهائم عند الذبح، لأنه إذا فعلت ذلك فقد موّتّها موتتين.
السبب الثاني : ألا يرى الوالد وجه ابنه حينما يتغير عند إهوائه بإيش؟ بالسكين فتقع منه الرحمة، وحينئذ قد يبتلى بالامتناع.
- انتبه يا أخ -.
إذن تله للجبين، لماذا؟ قل؟ يلا امشي.
الطالب : ... .
الشيخ : هو تله ليذبحه لكن ليش تله على الجبين ليش ما يذبحو على ظهره؟
الطالب : ... .
الشيخ : لئلا لا يرتاع الولد حين رأى السكين تهوى إليه، ولئلا يرى الوالد وجه ولده وقد تغير فتقع في قلبه الرحمة له ويعجز عن الإمضاء، استرح.
مع أن هذا بعيد عن إبراهيم، لكن الإنسان طبيعته طبيعة البشر.
(( فلما أسلما وتله للجبين )) تصور يا أخي هذه القضية كأنها أمامك الآن، تصور أن أبا محبا لابنه غاية المحبة لأنه وحيده وقد بلغ معه السعي يريد أن يذبحه (( فلما أسلما وتله للجبين )) أين الجواب؟ (( وناديناه أن يا ابراهيم )) قيل: إن الواو زائدة، وأن الجواب ناديناه، أي: فلما أسلما وتله للجبين ناديناه أن يا إبراهيم، ولكن هذا قول ضعيف، القرآن ليس فيه شيء زائد زائدا.
كل شيء زائد في القرآن من حيث الإعراب فله معنى عظيم.
والصواب أن الجواب محذوف، وأن الواو حرف عطف، والتقدير : (( فلما أسلما وتله للجبين )) تبين صدقهما وانقيادهما لأمر الله وتقديم أمر الله على ما يهوونه أو على ما يهويانه، ثم بعد ذلك نزل الفرج من الله (( وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين )) فصار هذا الفعل الذي عزم به على أن ينفذ أمر الله صار فعلا، لأن الإنسان إذا سعى في العمل الصالح وعجز عن إتمامه كتبه الله له تاما.
واسمع قول الله تعالى : (( ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله )).
(( قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين )).
إن هذا لهو البلاء، ايش البلاء هذا ؟ البلاء الذي هو المرض؟ أو البلاء الذي يبتلى به العبد ؟ الثاني ولا الأول؟ الثاني كما قال تعالى : (( ونبلوكم بالشر والخير فتنة )). وقال سليمان : (( ليبلوني أأشكر أم أكفر )).
إذن لهو البلاء أي الابتلاء والامتحان العظيم الذي لا شيء أعظم منه، يعني لو أنه أمر أن يخرج من ماله أو يقتل ولده، أيهما أهون؟ نعم، الأول لا شك أهون من أن يقتل ولده، فهو ابتلاء عظيم، ولكن الذي ابتلي تبين صبره، وأنه نال من الصبر أعلى المراتب عليه الصلاة والسلام.
(( وفديناه بذبح عظيم )) يعني: أمرنا إبراهيم بدل هذه الرؤيا ذبحا يعني فداء كبشا.
قال بعض أهل العلم : يؤخذ من هذه الآية أن الإنسان - قم بارك الله فيك - يؤخذ من هذه الآية أن الإنسان لو نذر أن يذبح ولده فإنه لا يذبحه، ولكن يذبح شاة يتصدق بها على الفقراء فداء عن ولده.
ولكن الصحيح ما ذهب عليه جمهور العلماء أنه إذا نذر أن يذبح ولده فقد نذر معصية فلا يعص الله، وعليه كفارة يمين، وهي عتق رقبة أو إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم، فإن لم يجد صام ثلاثة أيام متتابعة.
هذه القصة كما تعلمون أورثت إبراهيم عليه الصلاة والسلام محبة عظيمة لله وصدقا في الإيمان وتنفيذ أمر الله، ولهذا صار خليلا لله، كما قال الله تعالى : (( واتخذ الله إبراهيم خليلا ))، وقال الصادق المصدوق محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ( إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ).
أسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم من الأخلاء الصادقين في خلتهم، وأن يجعلنا من المتقين، ومن أوليائه الذين لا خوف عليهم ولاهم يحزنون.
وإلى الأسئلة فيما بقي من الوقت.