شرح قول المصنف : ثم بعد هذه الفتنة - إما نعيم وإما عذاب حفظ
الشيخ : " ثم إما عذاب أو نعيم "
" ثم " هذه لمطلق الترتيب، وليست للتراخي، لأن الإنسان يعذب أو ينعم فوراً، كما سبق أنه إذا قال : لا أدري! ايش؟ يضرب بمرزبة، وأن ذاك الذي أجاب بالصواب، يفتح له باب إلى الجنة، ويوسع له في قبره.
فقول المؤلف : " ثم بعد هذه الفتنة " يراد به الترتيب بدون تراخي، إلا إذا كان الشيخ رحمه الله يرى أن العذاب الفوري أو النعيم الفوري الذي يعقب السؤال والجواب يرى أنه شيء مستقل. ويكون قوله : " ثم بعد هذه الفتنة إما نعيم " يريد به الشيء المستمر.
على كل حال نحن نقول: إنه بعد هذه الفتنة إما نعيم وإما عذاب إلى يوم القيامة.
هذا النعيم هل هو نعيم على البدن، أو على الروح، وهل هو على البدن وحده، أو على الروح وحدها، يعني أو يكون على البدن والروح جميعاً؟
نقول : المعروف عند أهل السنة والجماعة أنه في الأصل على الروح، والبدن تابع لها، كما أن العذاب في الدنيا على البدن، والروح تابعة له.
ففي الدنيا مثلا إذا ضرب الرجل فالألم يعود على يعود إلى الجسد لكن الروح تتألم من الباطن، تجد الإنسان يتكدر يضيق صدره، يعرف هذا في وجهه، فالعذاب في الدنيا على الظاهر والباطن تبع له وهو الروح.
كما أن الأحكام الشرعية في الدنيا على ايش؟ على الظاهر، والباطن لا نحاسبه عليه.
في الآخرة بالعكس، ففي القبر يكون العذاب على الروح أو النعيم، لكن الجسم يتأثر بهذا تبعاً، وليس على سبيل الاستقلال، وربما يكون العذاب على البدن والروح تتبعه بمعنى أنه ربما يعذب الإنسان في بدنه ويظهر أثره على البدن. لكن هذا قد لا يقع إلا نادراً، إنما الأصل أن العذاب على ايش؟ على الروح والبدن تبع. النعيم للروح والبدن تبع، لأن البدن يتنعم لما تنعمت الروح له فتنعم طيب.
وقوله : " إما نعيم وإما عذاب " فيه إثبات النعيم في القبر، وإثبات العذاب في القبر.
وقد دلّ على ذلك كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بل لنا أن نقول: وإجماع المسلمين.
ولنستمع إلى ذلك من كتاب الله، اذكروا الثلاثة أصناف التي في آخر الواقعة تجدونها ظاهرة في ثبوت عذاب القبر ونعيمه. (( فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ )) متى؟ حالا عندما يموت (( فروح وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ )).
وهذا أمر مشاهد أحيانا يسمع المحتضر يرحب بالقادمين عليه من الملائكة. ويقول : مرحباً! أحياناً يقول: مرحباً، اجلس هنا! كما ذكر ابن القيم في كتاب " الروح". نعم. وأحياناً يحَس بأن هذا الرجل أصيب بشيء مخيف، فيتغير وجهه عند الموت إذا نزلت عليه ملائكة العذاب، والعياذ بالله.
دليل آخر قال الله تعالى : (( وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُم )) وهم شاحون بأنفسهم، ما يريدون تطلع، لأنهم قد بشروا - والعياذ بالله - بالعذاب والعقوبة. فتجد الروح تكع ما تطلع تأبى. ولهذا قال : (( أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ )) (( اليوم )) "ال" هذه للعهد الحضوري، كقوله تعالى : (( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ )) اليوم يعني : اليوم الحاضر. كذلك (( اليوم تجزون )) "ال" هنا للعهد الحضوري، والمراد به : يوم حضور الملائكة لقبض أرواحهم. (( تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون )).
في المتقين قال : (( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ )) متى؟ ها؟ في حال الوفاة. (( تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ )). في هذه الحال.
ولهذا جاء في الحديث الصحيح : ( يقال للمؤمن يقال لنفسه : أخرجي أيتها النفس الطيبة أخرجي إلى رحمة من الله ورضوان ).
فتفرح بهذه البشرى، وتخرج منقادة سهلة ما تتعب. نعم. وإن كان البدن قد يتألم. لكن الروح منقادة مستبشرة. أي نعم.
طيب، هذا في نعيم القبر أو عذابه الآية الأخيرة؟ في نعيم القبر.
في عذاب القبر أيضا آية ثالثة، وهي قوله تعالى في آل فرعون : (( النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ )). فقال : (( النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً )) قبل قيام الساعة ولا بعد؟ قبل، بدليل قوله : (( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ )).
وأما السنة في ذلك فهي متواترة، متواترة في نعيم القبر وعذابه.
وأما الإجماع، فكل المسلمين يقولون في صلاتهم: أعوذ بالله من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ولولا أن عذاب القبر ثابت، ما صح أن يتعوذوا منه، إذ لا تعوذ من أمر ليس، اه؟ ليس موجوداً. فالتعوذ بالله من عذاب القبر من كل المسلمين يدل على أنهم يؤمنون به.
وفي " الصحيحين" من حديث ابن عباس قال: ( مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين، فقال : إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير ) إلى آخر الحديث، فدل ذلك على أن عذاب القبر ثابت، وهو متواتر في السنة.
بقي علينا: هل العذاب والنعيم دائم أو ينقطع؟
فيقال: أما العذاب للكفار فإنه دائم، العذاب للكفار دائم ولا يمكن أن يزول العذاب عنهم، لأنهم مستحقون له، لأنه لو زال العذاب كان زال إلى نعيم وهم ليسوا أهلاً لذلك، فهم باستمرار في عذاب إلى يوم القيامة، إلى يوم القيامة، ولو طالت المدة؟ ولو طالت المدة، فقوم نوح الذين أغرقوا (( مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا )) هم ما زالوا يعذبون في هذه النار التي أدخلوا فيها إلى يوم القيامة، ويستمر عذابهم، أعوذ بالله. نعم. فالعذاب إذن دائم بالنسبة لمن مات كافرا.
أما عصاة المؤمنين الذين يقضي الله تعالى عليهم بالعذاب، فهؤلاء قد يدوم عذابهم وقد لا يدوم، وقد يطول وقد لا يطول، حسب الذنوب، وحسب عفو الله عز وجل.
وعذابهم في القبر أهون من عذابهم يوم القيامة، لأن عذابهم في القبر ليس فيه خزي وعار، لكن في الآخرة فيه الخزي والعار والعياذ بالله، لأن الأشهاد موجودون : (( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ )).
طيب، إذا قال قائل : كيف يثبت هذا ونحن نرى الإنسان يموت في البرية ولا يدفن سواء كان مسلما أو كافرا، كيف نقول عذاب القبر؟
نقول : المراد بالقبر البرزخ ما بين الدنيا والآخرة، وتسميتنا إياه بعذاب القبر من باب اللقب، من باب مفهوم اللقب الذي لا يمنع من دخول غيره بناء على ايش؟ بناء على الغالب، فإن أكثر الموتى يدفنون.
طيب، إذا قال قائل : لو أن هذا الرجل تمزق أوصالاً، وأكلته السباع، وذرته الرياح، فكيف يكون عذابه، كيف يكون سؤاله؟!
فالجواب : أن الله عز وجل على كل شيء قدير، وهذا أمر غيبي، ما هو أمر حسي فالله عز وجل قادر على أن يجمع هذه الأشياء في عالم الغيب، وإن كنا نشاهدها في الدنيا متمزقة متباعدة. لكن في عالم الغيب ربما يجمعها الله.
هؤلاء الملائكة - كما أسلفنا آنفا - تنزل لقبض روح الإنسان في المكان نفسه (( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ )). ومع ذلك هل يبصرونهم؟ أبدا ما نبصرهم.
ملك الموت يكلم الروح، اخرجي أيتها النفس المطمئنة، يكلمها، ونحن لا نسمع ولا لا؟ ما نسمع.
جبريل أحياناً يتمثل للرسول عليه الصلاة والسلام ويكلمه بالوحي في نفس المكان والناس لا ينظرون ولا يسمعون، يكلمه كما يكلم الرجل صاحبه ويعي ما يقول والناس ينظرون ولا يرون ولا يسمعون.
فعالم الغيب لا يمكن أبداً أن يقاس بعالم الشهادة، وهذه من حكمة الله عز وجل، الآن نفسك التي في جوفك ما تدري كيف تتعلق ببدنك؟! وشلون؟ كيف هي موزعة على البدن؟! وشلون هذا؟ ما تعرف، وكيف تخرج منك عند النوم؟! هل تحس بها؟ تحس بها إذا استيقظت إنها ترجع؟! ومن أين تدخل مع الرأس ولا مع الدبر ولا مع الرجل ولا مع اليد؟ من أين؟ نعم. فعالم الغيب ليس فيه إلا التسليم، ولا يمكن فيه القياس إطلاقاً، فالله عز وجل قادر على أن يجمع هذه المتفرقات من البدن المتمزق الذي ذرته الرياح، ثم يحصل عليه المسائلة والعذاب أو النعيم، لأن الله سبحانه على كل شيء قدير.
طيب، فإن قلت : يدفن الميت في قبر ضيق، حوالي شبر فكيف يوسع له مد البصر؟! نفس الشيء، نقول : عالم الغيب لا يقاس بعالم الشهادة، بل إننا لو فُرض أن أحداً حفر حفرة مد البصر، ودفن فيها الميت، وطبق عليه. الذي لا يعلم بهذه الحفرة، هل يراها ولا ما يراها؟! طبعا ما يراها، وهو قد وسع له القبر مد البصر.
طيب إذا قال قائل: نحن نرى الميت، الميت الكافر إذا فتشناه بعد يوم أو يومين، نرى أضلاعه لم تختلف لم تتداخل من الضيق؟! ويش نقول؟
أيضا نقول : هذا من عالم الغيب، ومن الجائز أن تكون مختلفة، فإذا كشف عنه، أطلقها الله، ورد كل شيء إلى مكانه، امتحاناً للعباد، لأنها لو بقيت مختلفة ونحن قد دفناه وأضلاعه مستقيمة، صار الإيمان بذلك إيمان غيب ولا شهادة؟ شهادة، ما ينفع، وليس على الله بعزيز، يعني ربما في آخر لحظة يصلون إلى هذا الميت أضلاعه تكون مختلفة ثم تعود إلى مكانها. هذا ليس بغريب. نعم.
طيب، إذا قال قائل كما قاله الفلاسفة لأن الفلاسفة أحرج من أهل الشرع في مثل هذه التساؤلات، قالوا : نحن نضع الزئبق على الميت، الزئبق وهو أسرع الأشياء تحركاً ومروقاً، نضعه على الميت، وإذا جئنا من الغد، وجدنا الزئبق على ما هو عليه، أنتم تقولون: إن الملائكة يأتون ويجلسون هذا الرجل، الذي يجلس، كيف يبقى عليه الزئبق؟!
أيضاً نقول كما قلنا : هذه من عالم الغيب، وعلينا الإيمان والتصديق، ومن الجائز أيضاً أن الله عز وجل يرد هذا الزئبق إلى مكانه بعد أن تحول بالجلوس، واضح؟
الطالب : هو ما تحول أصلا. يجوز إنه ما تحول ابتداء حتى وإن جلس.
الشيخ : على كل حال المعروف أنه ... طيب.
نقول أيضاً : انظروا الآن إلى الرجل في المنام، يرى في المنام أشياء يعني لو كان على حسب رؤيته إياها، ما بقي في مكانه في فراشه على السرير ولا لا؟ أحيانا يرى أنه طالع وزملائه في رحلة. نعم. راكبين سيارة ووصلوا الرحلة قدموا الغداء وأكلوا الغداء، ثم لعبوا رياضة بعض الشيء بعد الغداء. نعم. وأين هو؟ في فراشه. صح ولا لا؟ في فراشه، وأحياناً تكون رؤيا حق من الله عز وجل وتقع كما كان، تقع كما كان، كأنما يقرأها في منامه. نعم. ومع ذلك، نحن نؤمن بهذا الشيء، نؤمن.
والإنسان إذا رأى في منامه ما يكره، إذا أصبح وإذا هو متكدر، وإذا رأى ما يسره، أصبح وهو مستبشر وفرح، كل هذا يدل على أن أمور الروح ليست من الأمور المشاهدة. أي نعم.
" ثم " هذه لمطلق الترتيب، وليست للتراخي، لأن الإنسان يعذب أو ينعم فوراً، كما سبق أنه إذا قال : لا أدري! ايش؟ يضرب بمرزبة، وأن ذاك الذي أجاب بالصواب، يفتح له باب إلى الجنة، ويوسع له في قبره.
فقول المؤلف : " ثم بعد هذه الفتنة " يراد به الترتيب بدون تراخي، إلا إذا كان الشيخ رحمه الله يرى أن العذاب الفوري أو النعيم الفوري الذي يعقب السؤال والجواب يرى أنه شيء مستقل. ويكون قوله : " ثم بعد هذه الفتنة إما نعيم " يريد به الشيء المستمر.
على كل حال نحن نقول: إنه بعد هذه الفتنة إما نعيم وإما عذاب إلى يوم القيامة.
هذا النعيم هل هو نعيم على البدن، أو على الروح، وهل هو على البدن وحده، أو على الروح وحدها، يعني أو يكون على البدن والروح جميعاً؟
نقول : المعروف عند أهل السنة والجماعة أنه في الأصل على الروح، والبدن تابع لها، كما أن العذاب في الدنيا على البدن، والروح تابعة له.
ففي الدنيا مثلا إذا ضرب الرجل فالألم يعود على يعود إلى الجسد لكن الروح تتألم من الباطن، تجد الإنسان يتكدر يضيق صدره، يعرف هذا في وجهه، فالعذاب في الدنيا على الظاهر والباطن تبع له وهو الروح.
كما أن الأحكام الشرعية في الدنيا على ايش؟ على الظاهر، والباطن لا نحاسبه عليه.
في الآخرة بالعكس، ففي القبر يكون العذاب على الروح أو النعيم، لكن الجسم يتأثر بهذا تبعاً، وليس على سبيل الاستقلال، وربما يكون العذاب على البدن والروح تتبعه بمعنى أنه ربما يعذب الإنسان في بدنه ويظهر أثره على البدن. لكن هذا قد لا يقع إلا نادراً، إنما الأصل أن العذاب على ايش؟ على الروح والبدن تبع. النعيم للروح والبدن تبع، لأن البدن يتنعم لما تنعمت الروح له فتنعم طيب.
وقوله : " إما نعيم وإما عذاب " فيه إثبات النعيم في القبر، وإثبات العذاب في القبر.
وقد دلّ على ذلك كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بل لنا أن نقول: وإجماع المسلمين.
ولنستمع إلى ذلك من كتاب الله، اذكروا الثلاثة أصناف التي في آخر الواقعة تجدونها ظاهرة في ثبوت عذاب القبر ونعيمه. (( فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ )) متى؟ حالا عندما يموت (( فروح وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ )).
وهذا أمر مشاهد أحيانا يسمع المحتضر يرحب بالقادمين عليه من الملائكة. ويقول : مرحباً! أحياناً يقول: مرحباً، اجلس هنا! كما ذكر ابن القيم في كتاب " الروح". نعم. وأحياناً يحَس بأن هذا الرجل أصيب بشيء مخيف، فيتغير وجهه عند الموت إذا نزلت عليه ملائكة العذاب، والعياذ بالله.
دليل آخر قال الله تعالى : (( وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُم )) وهم شاحون بأنفسهم، ما يريدون تطلع، لأنهم قد بشروا - والعياذ بالله - بالعذاب والعقوبة. فتجد الروح تكع ما تطلع تأبى. ولهذا قال : (( أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ )) (( اليوم )) "ال" هذه للعهد الحضوري، كقوله تعالى : (( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ )) اليوم يعني : اليوم الحاضر. كذلك (( اليوم تجزون )) "ال" هنا للعهد الحضوري، والمراد به : يوم حضور الملائكة لقبض أرواحهم. (( تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون )).
في المتقين قال : (( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ )) متى؟ ها؟ في حال الوفاة. (( تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ )). في هذه الحال.
ولهذا جاء في الحديث الصحيح : ( يقال للمؤمن يقال لنفسه : أخرجي أيتها النفس الطيبة أخرجي إلى رحمة من الله ورضوان ).
فتفرح بهذه البشرى، وتخرج منقادة سهلة ما تتعب. نعم. وإن كان البدن قد يتألم. لكن الروح منقادة مستبشرة. أي نعم.
طيب، هذا في نعيم القبر أو عذابه الآية الأخيرة؟ في نعيم القبر.
في عذاب القبر أيضا آية ثالثة، وهي قوله تعالى في آل فرعون : (( النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ )). فقال : (( النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً )) قبل قيام الساعة ولا بعد؟ قبل، بدليل قوله : (( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ )).
وأما السنة في ذلك فهي متواترة، متواترة في نعيم القبر وعذابه.
وأما الإجماع، فكل المسلمين يقولون في صلاتهم: أعوذ بالله من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ولولا أن عذاب القبر ثابت، ما صح أن يتعوذوا منه، إذ لا تعوذ من أمر ليس، اه؟ ليس موجوداً. فالتعوذ بالله من عذاب القبر من كل المسلمين يدل على أنهم يؤمنون به.
وفي " الصحيحين" من حديث ابن عباس قال: ( مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين، فقال : إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير ) إلى آخر الحديث، فدل ذلك على أن عذاب القبر ثابت، وهو متواتر في السنة.
بقي علينا: هل العذاب والنعيم دائم أو ينقطع؟
فيقال: أما العذاب للكفار فإنه دائم، العذاب للكفار دائم ولا يمكن أن يزول العذاب عنهم، لأنهم مستحقون له، لأنه لو زال العذاب كان زال إلى نعيم وهم ليسوا أهلاً لذلك، فهم باستمرار في عذاب إلى يوم القيامة، إلى يوم القيامة، ولو طالت المدة؟ ولو طالت المدة، فقوم نوح الذين أغرقوا (( مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا )) هم ما زالوا يعذبون في هذه النار التي أدخلوا فيها إلى يوم القيامة، ويستمر عذابهم، أعوذ بالله. نعم. فالعذاب إذن دائم بالنسبة لمن مات كافرا.
أما عصاة المؤمنين الذين يقضي الله تعالى عليهم بالعذاب، فهؤلاء قد يدوم عذابهم وقد لا يدوم، وقد يطول وقد لا يطول، حسب الذنوب، وحسب عفو الله عز وجل.
وعذابهم في القبر أهون من عذابهم يوم القيامة، لأن عذابهم في القبر ليس فيه خزي وعار، لكن في الآخرة فيه الخزي والعار والعياذ بالله، لأن الأشهاد موجودون : (( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ )).
طيب، إذا قال قائل : كيف يثبت هذا ونحن نرى الإنسان يموت في البرية ولا يدفن سواء كان مسلما أو كافرا، كيف نقول عذاب القبر؟
نقول : المراد بالقبر البرزخ ما بين الدنيا والآخرة، وتسميتنا إياه بعذاب القبر من باب اللقب، من باب مفهوم اللقب الذي لا يمنع من دخول غيره بناء على ايش؟ بناء على الغالب، فإن أكثر الموتى يدفنون.
طيب، إذا قال قائل : لو أن هذا الرجل تمزق أوصالاً، وأكلته السباع، وذرته الرياح، فكيف يكون عذابه، كيف يكون سؤاله؟!
فالجواب : أن الله عز وجل على كل شيء قدير، وهذا أمر غيبي، ما هو أمر حسي فالله عز وجل قادر على أن يجمع هذه الأشياء في عالم الغيب، وإن كنا نشاهدها في الدنيا متمزقة متباعدة. لكن في عالم الغيب ربما يجمعها الله.
هؤلاء الملائكة - كما أسلفنا آنفا - تنزل لقبض روح الإنسان في المكان نفسه (( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ )). ومع ذلك هل يبصرونهم؟ أبدا ما نبصرهم.
ملك الموت يكلم الروح، اخرجي أيتها النفس المطمئنة، يكلمها، ونحن لا نسمع ولا لا؟ ما نسمع.
جبريل أحياناً يتمثل للرسول عليه الصلاة والسلام ويكلمه بالوحي في نفس المكان والناس لا ينظرون ولا يسمعون، يكلمه كما يكلم الرجل صاحبه ويعي ما يقول والناس ينظرون ولا يرون ولا يسمعون.
فعالم الغيب لا يمكن أبداً أن يقاس بعالم الشهادة، وهذه من حكمة الله عز وجل، الآن نفسك التي في جوفك ما تدري كيف تتعلق ببدنك؟! وشلون؟ كيف هي موزعة على البدن؟! وشلون هذا؟ ما تعرف، وكيف تخرج منك عند النوم؟! هل تحس بها؟ تحس بها إذا استيقظت إنها ترجع؟! ومن أين تدخل مع الرأس ولا مع الدبر ولا مع الرجل ولا مع اليد؟ من أين؟ نعم. فعالم الغيب ليس فيه إلا التسليم، ولا يمكن فيه القياس إطلاقاً، فالله عز وجل قادر على أن يجمع هذه المتفرقات من البدن المتمزق الذي ذرته الرياح، ثم يحصل عليه المسائلة والعذاب أو النعيم، لأن الله سبحانه على كل شيء قدير.
طيب، فإن قلت : يدفن الميت في قبر ضيق، حوالي شبر فكيف يوسع له مد البصر؟! نفس الشيء، نقول : عالم الغيب لا يقاس بعالم الشهادة، بل إننا لو فُرض أن أحداً حفر حفرة مد البصر، ودفن فيها الميت، وطبق عليه. الذي لا يعلم بهذه الحفرة، هل يراها ولا ما يراها؟! طبعا ما يراها، وهو قد وسع له القبر مد البصر.
طيب إذا قال قائل: نحن نرى الميت، الميت الكافر إذا فتشناه بعد يوم أو يومين، نرى أضلاعه لم تختلف لم تتداخل من الضيق؟! ويش نقول؟
أيضا نقول : هذا من عالم الغيب، ومن الجائز أن تكون مختلفة، فإذا كشف عنه، أطلقها الله، ورد كل شيء إلى مكانه، امتحاناً للعباد، لأنها لو بقيت مختلفة ونحن قد دفناه وأضلاعه مستقيمة، صار الإيمان بذلك إيمان غيب ولا شهادة؟ شهادة، ما ينفع، وليس على الله بعزيز، يعني ربما في آخر لحظة يصلون إلى هذا الميت أضلاعه تكون مختلفة ثم تعود إلى مكانها. هذا ليس بغريب. نعم.
طيب، إذا قال قائل كما قاله الفلاسفة لأن الفلاسفة أحرج من أهل الشرع في مثل هذه التساؤلات، قالوا : نحن نضع الزئبق على الميت، الزئبق وهو أسرع الأشياء تحركاً ومروقاً، نضعه على الميت، وإذا جئنا من الغد، وجدنا الزئبق على ما هو عليه، أنتم تقولون: إن الملائكة يأتون ويجلسون هذا الرجل، الذي يجلس، كيف يبقى عليه الزئبق؟!
أيضاً نقول كما قلنا : هذه من عالم الغيب، وعلينا الإيمان والتصديق، ومن الجائز أيضاً أن الله عز وجل يرد هذا الزئبق إلى مكانه بعد أن تحول بالجلوس، واضح؟
الطالب : هو ما تحول أصلا. يجوز إنه ما تحول ابتداء حتى وإن جلس.
الشيخ : على كل حال المعروف أنه ... طيب.
نقول أيضاً : انظروا الآن إلى الرجل في المنام، يرى في المنام أشياء يعني لو كان على حسب رؤيته إياها، ما بقي في مكانه في فراشه على السرير ولا لا؟ أحيانا يرى أنه طالع وزملائه في رحلة. نعم. راكبين سيارة ووصلوا الرحلة قدموا الغداء وأكلوا الغداء، ثم لعبوا رياضة بعض الشيء بعد الغداء. نعم. وأين هو؟ في فراشه. صح ولا لا؟ في فراشه، وأحياناً تكون رؤيا حق من الله عز وجل وتقع كما كان، تقع كما كان، كأنما يقرأها في منامه. نعم. ومع ذلك، نحن نؤمن بهذا الشيء، نؤمن.
والإنسان إذا رأى في منامه ما يكره، إذا أصبح وإذا هو متكدر، وإذا رأى ما يسره، أصبح وهو مستبشر وفرح، كل هذا يدل على أن أمور الروح ليست من الأمور المشاهدة. أي نعم.