تفسير قوله تعالى: " لمن شاء منكم أن يستقيم " حفظ
قال (( لمن شاء منكم أن يستقيم )) (( لمن شاء )) هذه الجملة بدل مما قبلها لكنها بإعادة العامل وهي " إلا " أي: " إلا ذكر للعالمين لمن شاء منكم أن يستقيم " وأما من لا يشاء الاستقامة فإنه لا يتذكر بهذا القرآن ولا ينتفع به كما قال تعالى: (( إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد )). فالإنسان الذي لا يريد الاستقامة لا يمكن أن ينتفع بهذا القرآن، ولكن إذا قال قائل: هل مشيئة الإنسان باختياره؟ نقول: نعم مشيئة الإنسان باختياره. فالله عز وجل جعل للإنسان اختياراً وإرادة، فإن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، لأنه لو لم يكن ذلك لم تقم الحجة على الخلق الذين أرسلت إليه الرسل بإرسال الرسل، فهمتم الموضوع ؟ هل ما نفعله نحن باختيارنا وإرادتنا؟ الجواب: نعم هو باختيارنا وإرادتنا، ولولا ذلك ما كان لإرسال الرسل حجة علينا إذ أننا نستطيع أن نقول نحن لا نقدر على الاختيار، فالإنسان لا شك فاعل باختياره، وكل إنسان يعرف أنه إذا أراد أن يذهب إلى مكة فهو باختياره، وإذا أراد أن يذهب إلى المدينة فهو باختياره، وإذا أراد أن يذهب إلى بيت المقدس فهو باختياره وإذا أراد أن يذهب إلى الرياض فهو باختياره، أو إلى أي شيء أراده فهو باختياره لا يرى أن أحداً أجبره عليه، ولا يشعر أن أحداً أجبره على ذلك، كذلك أيضاً من أراد أن يقوم بطاعة الله فهو باختياره ومن أراد أن يعصي الله فهو باختياره، فالمشيئة للإنسان هو حر فيها، ولكن نعلم علم اليقين أنه ما شاء شيئاً إلا وقد شاءه الله من قبل، ولهذا قال: (( وما تشاءون إلا أن يشاء الله )) ما نشاء شيئاً إلا بعد أن يكون الله قد شاءه، فإذا شئنا الشيء علمنا أن الله قد شاءه، ولولا أن الله شاءه ما شئناه. كما قال تعالى: (( ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا )) . فنحن إذا عملنا الشيء نعمله بمشيئتنا واختيارنا، ولكن نعلم أن هذه المشيئة والاختيار كانت بعد مشيئة الله عز وجل، ولو شاء الله ما فعلنا . فإن قال قائل: إذن لنا حجة في المعصية لأننا ما شئناها إلا بعد أن شاءها الله . فالجواب: أنه لا حجة لنا لأننا لم نعلم أن الله شاءها إلا بعد أن فعلناها، وفعلنا إياها باختيارنا، ولهذا لا يمكن أن نقول إن الله شاء كذا أو شاء كذا إلا بعد أن يقع، فإذا وقع فبأي شيء وقع؟ وقع بإرادتنا ومشيئتنا، لهذا لا يتّجه أن يكون للعاصي حجة على الله عز وجل وقد أبطل الله هذه الحجة في قوله: (( سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذّب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا )) . فلولا أنه لا حجة لهم ما أذاقهم الله، ما ذاقوا بأس الله، لسَلِموا من بأس الله، ولكنه لا حجة لهم فلهذا ذاقوا بأس الله، وكلنا نعلم أن الإنسان لو ذُكر له أن بلداً آمناً مطمئناً، يأتيه رزقه رغداً من كل مكان، فيه من المتاجر والمكاسب ما لا يوجد في البلاد الأخرى، وأن بلداً آخر بلدٌ خائف غير مستقر، مضطرب في الاقتصاد، مضطرب في الخوف والأمن، فإلى أيهما يذهب؟ بالتأكيد سيذهب إلى الأول ولا شك، ولا يرى أن أحداً أجبره أن يذهب إلى الأول، يرى أنه ذهب إلى الأول بمحض إرادته، وهكذا الآن طريق الخير وطريق الشر، قال الله لنا: هذه طريق جهنم وهذه طريق الجنة، وبيّن لنا ما في الجنة من النعيم، وما في النار من العذاب. فأيهما نسلك؟ بالقياس الواضح الجلي أننا سنسلك طريق إيش؟ طريق الجنة لا شك، كما أننا في المثال الذي قبل نسلك طريق البلد الآمن الذي يأتيه رزقه رغداً من كل مكان. لو أننا سلكنا طريق النار فإنه سيكون علينا العتب والتوبيخ واللوم، ويُنادى علينا بالسفه، كما لو سلكنا في المثال الأول طريق البلد المخوف المتزعزع الذي ليس فيه استقرار، فإن كل أحد يلومنا ويوبخنا، إذاً ففي قوله: (( لمن شاء أن يستقيم )) تقرير لأن الإنسان، أو تقرير لكون الإنسان يفعل الشيء بإيش؟ بمشيئته واختياره، ولكن بعد أن يفعل الشيء ويشاء الشيء نعلم أن الله قد شاءه من قبل ولو شاء الله ما فعله، وكثيراً ما يعزم الإنسان على شيء يتّجه بعد العزيمة على هذا الشيء وفي لحظة ما يجد نفسه منصرفاً عنه، أو يجد نفسه مصروفاً عنه، لأن الله لم يشأه، كثيراً ما نريد أن نذهب مثلاً إلى مسجد ما لنستمع إلى محاضرة، وإذا بنا ننصرف بسبب أو بغير سبب، أحياناً بسبب بحيث نتذكر أن لنا شغلاً أو يقال لنا: إن المحاضرة ألغيت فنرجع، وأحياناً نرجع بدون سبب لا ندري إلا وقد صرف الله تعالى همتنا عن ذلك فرجعنا. ولهذا قيل لأعرابي بم عرفت ربك؟ قال: بنقض العزائم وصرف الهمم. " بنقض العزائم " يعني الإنسان يعزم على الشيء عزماً مؤكداً وإذا به ينتقض!! من نقض عزيمته، لا يشعر، ما يشعر أن هناك مرجحاً أوجب أن يعدل عن العزيمة الأولى بل بمحض إرادة الله " صرف الهمم " يهم الإنسان بالشيء ويتجه إليه تماماً وإذا به يجد نفسه منصرفاً عنه سواء كان الصارف مانعاً حسيًّا أو كان الصارف مجرد اختيار اختار الإنسان أن ينصرف، كل هذا من الله عز وجل. فالحاصل أن الله يقول: (( لمن شاء منكم أن يستقيم )) وما معنى الاستقامة؟ الاستقامة هي الاعتدال،الاعتدال ولا عدل أقوم من عدل الله عز وجل في شريعته، في الشرائع السابقة كانت الشرائع تناسب حال الأمم زماناً ومكاناً وحالاً، وبعد بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام، كانت شريعته تناسب الأمة التي بُعث النبي صلى الله عليه وسلّم إليها من أول بعثته إلى نهاية الدنيا. ولهذا كان من العبارات المعروفة " أن الدين الإسلامي صالح لكل زمان ومكان وحال ". لكل زمان ومكان وحال، لو تمسك الناس به لأصلح الله الخلق. انظر مثلاً الإنسان يصلي أولاً قائماً، فإن عجز فقاعداً، فإن عجز فعلى جنب، إذن الشريعة تتطور بحسب حال الشخص، لأن الدين صالح لكل زمان ومكان . يجب على المحدث أن يتطهر بالماء، فإن تعذر استعمال الماء لعجز أو عدم. عدل إلى التيمم، فإن لم يوجد ولا تراب، أو كان عاجزاً عن استعمال التراب فإنه يصلي بلا شيء، لا بوضوء، لا بطهارة ماء ولا بطهارة تيمم، كل هذا لأن شريعة الله عز وجل كلها مبنية على العدل، ليس فيها جور، ليس فيها ظلم، ليس فيها حرج، ليس فيها مشقة، ولهذا قال: (( أن يستقيم )) : ضد الاستقامة انحرافان: انحراف إلى جانب الإفراط والغلو، وانحراف إلى جانب التفريط والتقصير، ولهذا كان الناس في دين الله عز وجل ثلاثة أشكال: طرفان ووسط، طرف غالٍ مبالغ متنطع متعنت، وطرف آخر مفرّط مقصّر مهمل. والثالث: وسط بين الإفراط والتفريط، مستقيم على دين الله هذا هو الذي يُحمَد. أما الأول والثاني، الأول الغالي، والثاني الجافي فكلاهما هالك . هالك بحسب ما عنده من الغلو، أو من التقصير، وقد نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن الغلو والإفراط والتعنت والتنطع حتى إنه قال: ( هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون )، لأن التنطع فيه إشقاق على النفس وفيه خروج عن دين الله عز وجل، كما أنه ذمّ المفرطين المهملين وقال في وصف المنافقين: (( وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى )) . فدين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، ولهذا قال هنا: (( لمن شاء منكم أن يستقيم )) لا يميل يميناً ولا شمالاً، يكون سيره سير استقامة على دين الله عز وجل والاستقامة كما تكون في معاملة الخالق عز وجل وهي العبادة تكون أيضاً في معاملة المخلوق، فكن مع الناس بين طرفين، بين طرفي الشدة والغلظة والعبوس، وطرف التراخي والتهاون وبذل النفس وانحطاط الرتبة، كن حازماً من وجه، ولين من وجه، ولهذا قال الفقهاء ـ رحمهم الله ـ في القاضي: " ينبغي أن يكون ليناً من غير ضعف، قويًّا من غير عنف " . فلا يكون لينه يشطح به إلى الضعف، ولا قوته إلى العنف، يكون بين ذلك، ليناً من غير ضعف، قويًّا من غير عنف حتى تستقيم الأمور، فبعض الناس مثلاً يعامل الناس دائماً بالعبوس والشدة وإشعار نفسه بأنه فوق الناس وأن الناس تحته، وهذا خطأ، ومن الناس من يحط قدر نفسه ويتواضع إلى حد التهاون وعدم المبالاة بحيث يبقى بين الناس ولا حرمة له، وهذا أيضاً خطأ، فالواجب أن يكون الإنسان بين هذا وبين هذا كما هو هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه عليه الصلاة والسلام يشتدّ في موضع الشدة، ويلين في موضع اللين. فيجمع الإنسان هنا بين الحزم والعزم، واللين والعطف والرحمة .(( لمن شاء منكم أن يستقيم )).