تفسير قوله تعالى:" إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجرٌ غير ممنونٍ " حفظ
ثم قال: (( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون )) (( إلا )) هذه بمعنى لكن ولا تصح أن تكون استثناء متصلاً، لأن الذين آمنوا ليسوا من المكذبين في شيء، بل هم مؤمنون مصدقون، وهذا هو الاستثناء المنقطع، أي إذا كان المستثنى ليس من جنس المستثنى منه فهو استثناء منقطع وتقدر (( إلا )) بــ لكن أي لكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجرٌ غير ممنون. الذين آمنوا بقلوبهم، واستلزم إيمانهم قيامهم بالعمل الصالح، هؤلاء هم الذين ليس لهم عذاب ولا ينتظرون العذاب لهم أجر غير ممنون. فإن قيل: ما هو العمل الصالح؟ فالجواب: أن العمل الصالح ما جمع شيئين: الأول: الإخلاص لله تعالى بأن يكون الحامل على العمل هو الإخلاص لله عز وجل ابتغاء مرضاته، وابتغاء ثوابه، وابتغاء النجاة من النار لا يريد الإنسان بعمله شيئاً من الدنيا، ولهذا قال العلماء: إن الأعمال التي لا تقع شرطاً في العبادة لا يصح أخذ الأجرة عليها كالأذان مثلاً لا يصح أن تؤذن بأجرة ، والإمامة لا يصح أن تؤم بأجرة، وقراءة القرآن لا يصح أن تقرأ بأجرة، بخلاف تعليم القرآن فيصح أخذ الأجرة لأنه متعدي و تكون الأجرة على العمل لا على التلاوة لكن يريد بأخذ القرآن تلاوة القرآن، إذا جاء إنسان قال أنا أريد أن آخذ القرآن بأجرة فإن ذلك لا يصح ولكن، لأن من شرط العمل الصالح أن يكون مخلصاً لله عز وجل ومن قرأ بأجرة أو تعلّم بأجرة فإنه لم يخلص العمل لله فلا يكون عمله مقبولاً. أما الشيء الثاني: أن يكون متبعاً فيه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أي أن يتبع الإنسان رسول الله صلى الله عليه وسلّم في عمله فعلاً لما فعل، وتركاً لما ترك. فما فعله النبي صلى الله عليه وسلّم مع وجود سببه فالسنة فعله إذا وجد سبب الشيء في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولم يفعله فإن السنة تركه، ولهذا نقول: إن ما يفعله كثير من المسلمين اليوم من الاحتفال بمولد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في اليوم الثاني عشر من هذا الشهر بدعة ليس لها أصل من السنة،لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يحتفل بعيد مولده ولا خلفائه الراشدون، مع أننا نعلم علم اليقين أنه لو كان مشروعاً ما تركه النبي عليه الصلاة والسلام بلا بيان للأمة لأن عليه البلاغ فلما لم يقل للأمة إنه يشرع الاحتفال بهذه المناسبة، ولما لم يفعله هو بنفسه، ولم يفعله خلفائه الراشدون، علم أنه بدعة، وأنه لا يزيد فاعله من الله إلا بعداً - نسأل الله العافية-، وهذه البدعة حدثت أول ما حدثت في القرن الرابع أي بعد مضي أكثر من ثلاثمائة سنة على الأمة الإسلامية حدثت هذه البدعة، زعموا أنهم يعظمون فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والحقيقة أن كل بدعة ليس فيها تعظيم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لأن تعظيم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنما هو في اتباع سنته، كما قال الله تعالى: (( يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم )) ، ولننظر هذه البدعة هل لها أصل من التاريخ؟ هل لها أصل من الشرع؟ نقول: ليس لها أصل من التاريخ، كذلك أن مولد الرسول عليه الصلاة والسلام مختلف فيه على أكثر من خمسة أقوال فهناك اتفاق على أنه في ربيع لكنهم اختلفوا أول يوم، في ثاني يوم، في التاسع، في العاشر، في الثاني عشر، فيها أقوال، وقد رجح بعض علماء العصر الفلكيين أنه كان في اليوم التاسع وليس في اليوم الثاني عشر، فبطل من الناحية التاريخية أن يكون في اليوم الثاني عشر، أما من الناحية الشرعية فهو باطل من وجوه: الأول: أنه عبادة لم يشرعه الله ولا رسوله، ولا الخلفاء الراشدون الذين أمرنا باتّباع سنتهم، فإن ادعى مدعٍ أن ذلك مشروع في القرآن والسنة، أو في عمل الخلفاء الراشدين من الصحابة، فعليه الدليل؟ لأن البينة على المدعي، ومن يستطيع إلى ذلك سبيلاً؟ لن يستطيع سبيلا أن يأتي بدليل واحد من الكتاب أو السنة أو فعل الخلفاء الراشدين أو الصحابة على أنه يسن الاحتفال بيوم ميلاد الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ثانياً: أن نقول هذه البدعة إما أن تكون حقاً أو تكون باطلاً، فإن كانت حقاً لزم من ذلك أن يكون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إما جاهلاً بحق، وإما عالماً به وكاتماً له، وكلا الأمرين باطل ممتنعاً غاية الامتناع أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم جاهلاً بشيء من شريعة الله أو أن يكون عالماً به ولكن لم يبينه للأمة لأن الاحتمال الأول يقتضي أن يكون جاهلاً بالشرع، مع أنه هو صاحب الشرع، والاحتمال الثاني يقتضي أن يكون كاتماً ما أنزل الله إليه وحاشاه من ذلك، لو كان كاتماً ما أنزل الله إليه لكتم قول الله تعالى : (( وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه )) ،ثالثا : بقي أن نقول: إذا تبين أنها بدعة فإنه لا يحل لأحد أن يقيمها، لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار )، (( ولو اتبع الحق أهوائهم )) لو أن كل من عنّ له أن في هذا مشروعية شرعها لاختلفت الأمة، ولتمزق الدين، ولكان كل فرد له دين معين، وهذا خلاف ما جاءت به الشريعة الإسلامية من وجوب الالتفاف على كلمة الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم. رابعاً نقول: هذه البدعة لم تقتصر على مجرد الاجتماع والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وذكر محاسنه وذكر مآثره وذكر شريعته، بل عدل من هذا إلى شيء آخر، إلى قصائد المديح البالغة في الغلو غايته، بل المتجاوزة لطبيعة البشر إلى حقوق الله عز وجل فقد كان هؤلاء الذين يجتمعون يترنمون بقصيدة البوصيري والتي كان يقول فيها يخاطب النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يقول: يا أكمل الخلق ما لي من ألوذ به *** سواك عند حلول الحادث العمم ، إن لم تكن آخذاً يوم المعاد بيدي *** وإلا فقل يا زلة القدم ، فإن من جودك الدنيا وضرتها *** ومن علومك علم اللوح والقلـــم قال بعض العلماء: إذا كان الأمر هكذا لم يبق لله شيء، ولم يكن الله تعالى هو المرجع عند الشدائد والفزع، بل كان الرسول عليه الصلاة والسلام الذي لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله هو المرجع وهذا غاية ما يكون من الغلو الذي نهى عنه الرسول عليه الصلاة والسلام، فصار هؤلاء الذين يدّعون أنهم يتقربون إلى الله بمثل هذه الاحتفالات، وأنهم المحبون لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صاروا في الحقيقة هم الذين يبتعدون عن الله عز وجل كما أشركوا به ما لم ينزل به سلطاناً، ولا شك أن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يرضى بمثل هذا أبداً، فإذا قالوا: إن منشأ هذا هو محبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن أجل أن نبين للنصارى أننا نعتني برسولنا كما هم يعتنون برسولهم حين يتخذون من ميلاده عيداً، قلنا: إذا كنتم صادقين في محبة الله ورسوله فهنا الميزان ميزان قسط عادل وهو قوله تعالى : (( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله )) ولهذا كل ما كان الإنسان أشد حباً لله كان أشد اتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكلما كان أقل حباً لله كان أقل اتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا رأيت الرجل يدعي محبة الله ورسوله ولكنه لا يحكم بالشريعة فاعلم أنه كاذب، لأن محبة الله ورسوله تنتج منهاجاً لازماً اتباعاً الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، الحاصل أنه يجب على طلبة العلم هنا في السعودية وفي غيرها من البلاد الإسلامية أن يبينوا للعامة ولغير العامة أن هذا الاحتفال ليس له أصل من السنة وأنه بدعة وأنه لا يزيد الإنسان إلا بعداً من الله عز وجل لأنه شرع في دين الله ما ليس منه، فإن قال قائل: أليست الصلاة على الرسول عليه الصلاة والسلام مشروعة كل وقت؟ والجواب: بلى، أكثرْ من الصلاة على الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم يعظم الله لكم أجرا ، ومن صلى عليه مرة واحدة صلى الله عليه بها عشراً لكن بيد معلم والاجتماع إليه، وذكر المدائح والقصائد الغالية البالغة في الغلو غايته هذا هو الممنوع ونحن لا نقول لا تصلوا على الرسول، نقول أكثر من الصلاة، ولا نقول لا تحب الرسول، نقول حبوا الرسول، أكثر مما تحبون أنفسكم ولا يتم إيمانكم إلا بذلك لكن لا تشرعوا في دينه ما ليس منه، والواجب على طلبة العلم أن يبينوا للناس ويقولوا لهم اشتغلوا بالعبادات الشرعية الصحيحة، اذكروا الله، صلوا على النبي في كل وقت، أقموا الصلاة، آتوا الزكاة، أحسنوا إلى المسلمين في كل وقت، أما أن تجعلوا عيداً معيناً في السنة، والله تعالى لم يجعل في السنة إلا في ثلاثة أعياد فقط : عيد الأضحى، و عيد الفطر، وعيد الأسبوع وهو الجمعة، أما أن أعياداً أخرى فإنكم تثبتون لله ما لم يشرعه. ثم قال الله تبارك وتعالى: (( إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون لهم أجر )) : أي ثواب، (( غير ممنون )): أي غير مقطوع، بل هو مستمر أبد الآبدين، والآيات في تأبيد الجنة كثيرة معلومة في الكتاب والسنة، وليس من السهولة حيث نسوقها إليكم الآن لأنها واضحة ولله الحمد، فأجر الآخرة لا ينقطع أبداً، ليس كالدنيا فيه وقت تثمر الأشجار ووقت لا تثمر، أو وقت تنبت الأرض ووقت لا تنبت، والجنة الأجر فيها دائم، (( ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً )) نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم من المؤمنين العاملين بالصالحات، المجتنبين للسيئات.