تفسير قوله تعالى:" في لوحٍ محفوظٍ " حفظ
فهو (( في لوح محفوظ ))، قال العلماء ((محفوظ )) لا يناله أحد، محفوظ عن التغيير والتبديل، والتبديل والتغيير إنما يكون في الكتب الأخرى، لأن الكتابة من الله عز وجل أنواع : أرجوا أن تنتبهوا لهذا النوع الأول: الكتابة في اللوح المحفوظ وهذه الكتابة لا تبدل ولا تغير، ولهذا سماه الله لوحاً محفوظاً، لا يمكن أن يبدل أو يغير ما فيه، لأنه ، الثاني: الكتابة على بني آدم وهم في بطون أمهاتهم، لأن الإنسان في بطن أمه إذا تمّ له أربعة أشهر، بعث الله إليه ملكاً موكلاً بالأرحام، فينفخ فيه الروح بإذن الله، لأن الجسد عبارة عن قطعة من لحم إذا نفخت فيه الروح صار إنسانًا، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد. هناك كتابة أخرى حولية كل سنة، وهي الكتابة التي تكون في ليلة القدر، فإن الله سبحانه وتعالى يقدر في هذه الليلة ما يكون في تلك السنة، قال الله تبارك وتعالى: (( فيها يفرق كل أمر حكيم )) . فيكتب في هذه الليلة ما يكون في تلك السنة. هناك كتابة رابعة وهي: كتابة الصحف التي في أيدي الملائكة، وهذه الكتابة تكون بعد العمل، والكتابات الثلاث السابقة كلها قبل العمل، لكن الكتابة الأخيرة هذه تكون بعد العمل، يكتب على الإنسان ما يعمل من قول بلسانه، أو فعل بجوارحه، أو اعتقاد بقلبه، فإن الملائكة الموكلين بحفظ بني آدم أي بحفظ أعمالهم يكتبون، قال الله تعالى: (( كلا بل تكذبون بالدين. وإن عليكم لحافظين. كراماً كاتبين. يعلمون ما تفعلون )). لكن هذه الكتابة الأخيرة تختلف عن الثلاث السابقة لأنها كتابة ما بعد العمل، حتى يكتب على الإنسان ما عمل فإذا كان يوم القيامة فإنه يعطى هذا الكتاب كما قال تعالى: (( وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً. اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً )). يعني تعطى الكتاب ويقال لك أنت: اقرأ حاسب نفسك، قال بعض السلف: لقد أنصفك من جعلك حسيباً على نفسك، وهذا صحيح أي إنصاف أبلغ من أن يقال للشخص تفضل هذا ما عملت حاسب نفسك، أليس هذا هو الإنصاف؟! بل أكبر إنصاف هو هذا، فيوم القيامة تعطى هذا الكتاب منشوراً مفتوحًا أمامك ليس مغلقاً، تقرأ ويتبين لك أنك عملت في يوم كذا، في مكان كذا، كذا وكذا، شيء مضبوط لا يتغير، وإذا أنكرت فهناك من يشهد عليك (( يوم تشهد عليهم ألسنتهم )) يقول اللسان: نطقت بكذا (( وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون )) تقول اليد: بطشت، تقول الرجل: مشيت، بل يقول الجلد أيضاً، الجلود تشهد بما لمست (( وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون )). المهم الآن أن اللوح المحفوظ هو هذا اللوح الذي كتب الله فيه مقادير كل شيء هو محفوظ من التغيير، محفوظ من أن يناله أحد، والله سبحانه وتعالى يعلم ما كتب فيه، وقلنا إنه محفوظ لأنه لا يتغير وما بأيد الملائكة يتغير، وقلنا أن الكتابات أربع: اللوح المحفوظ، و الأجنة، والكتابة الحولية تكون في ليلة القدر، والرابعة؟ كتابة الأعمال بعد وقوعها وتكون هذه بأيد الملائكة، على اليمين واحد من الملائكة وعلى الشمال واحد، يسجلون على الإنسان كل ما يقول، نحن الآن نسجل بمسجل الشريط لا يفوت شيء من الإنسان حتى النَّفَس يوجد في هذا الشريط، هم أيضاً الملائكة يكتبون كل شيء، (( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ))، و(( من قول )) هذه يقول علماء البلاغة: " إن النكرة في سياق النفي تكون للعموم "، أي قول تقوله عندك رقيب حسيب حاضر لا يغيب عنك، ويُذكر أن الإمام أحمد رحمه الله كان مريضاً وكان يئن في مرضه، من شدة المرض، فدخل عليه أحد أصحابه وقال : يا أبا عبد الله -وهو طاووس الشامي- وهو رجل من التابعين معروف، يقول: إن الملائكة تكتب على الإنسان حتى أنين المرض، حتى أنينه في مرضه، فأمسك رحمه الله عن الأنين، فالأمر ليس بهين، نسأل الله تعالى أن يتولانا بعفوه ومغفرته. و إلى هنا ينتهي الكلام على هذه السورة العظيمة التي ابتدأها الله تعالى بالقسم بالسماء ذات البروج وأنهاها بقوله: (( بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ )) فمن تمسك بهذا القرآن العظيم فله المجد والعزة والكرامة والرفعة، ولهذا ننصح أمتنا الإسلامية بادئين بأفراد شعوبها أن يتمسكوا بالقرآن العظيم، ونوجه الدعوة على وجه أوكد، وأوكد إلى ولاة أمورها أن يتمسكوا بالقرآن العظيم، وأن لا يغرهم البهرج المزخرف الذي يرد من الأمم الكافرة التي تضع القوانين المخالفة للشريعة، المخالفة للعدل، المخالفة لإصلاح الخلق، أن يضعوها موضع التنفيذ، ثم ينبذوا كتاب الله وسنة رسوله وراء ظهورهم، فإن هذا والله سبب التأخر ولا أظن أحداً يتصور الآن أن أمة بهذا العدد الهائل تكون متأخرة هذا التأخر، وكأنها إمارة في قرية بالنسبة للدول الكافرة، لكن سبب ذلك لا شك معلوم هو أننا تركنا ما به عزتنا وكرامتنا وهو: التمسك بهذا القرآن العظيم، وذهبنا نلهث وراء أنظمة بائدة فاسدة مخالفة للعدل، مبنية على الظلم والجور، فنحن نناشد ولاة أمورنا وأنا أقصد بولاة أمورنا وولاة أمور المسلمين جميعاً، لأننا أمة واحدة، وإن تفرقت منا البلدان، واختلفت منا الألسن، أناشدهم أن يتقوا الله عز وجل، وأن يرجعوا رجوعاً حقيقيًّا إلى كتاب الله ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلّم حتى يستتب لهم الأمن والاستقرار، وتحصل لهم العزة والمجد والرفعة، وتطيعهم شعوبهم، ولا يكون في قلوب شعوبهم عليهم شيء، وذلك لأن الإنسان إذا أصلح ما بينه وبين ربه، أصلح الله ما بينه وبين الناس، فإذا كان ولاة الأمور يريدون أن تذعن لهم الشعوب، وأن يطيعوا الله فيهم، فليطيعوا الله أولاً حتى تطيعهم أممهم، وإلا فليس من المعقول أن يعصوا الملك الأكبر وهو الله عز وجل، ثم يريدون أن تطيعهم شعوبهم هذا بعيد، بعيد، بل كلما بَعُد القلب عن الله بعد الناس عن صاحبه - نسأل الله العافية-، وكلما قَرُب من الله قرب الناس منه، فنسأل الله أن يعيد لهذه الأمة الإسلامية مجدها وكرامتها، وأن يذل أعداء المسلمين في كل مكان، ونسأل الله تعالى أن ينصر إخواننا المسلمين في البوسنة والهرسك وأن يعينهم على ما أصابهم من هؤلاء النصارى الذين لا يريدون أن يقيم للمؤمنين قائمة ونسأل الله أن يذل النصارى واليهود، وأن يكبتهم، وأن يردهم على أعقابهم خائبين،وكذلك كل عدو، إنه على كل شيء قدير.