شرح قول المصنف : باب قول الله تعالى : (( أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون )) حفظ
الشيخ : قال المؤلف رحمه الله تعالى : " باب قول الله تعالى (( أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون )) ".
قوله: (( أفأمنوا )) الضمير يعود على أهل القرى، لأن الآية قبلها آيات (( أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون )) أمِنوا ولا لأ ؟ هم أمِنوا ؟ لا، قصدي وهم نائمون، الجملة الحالية هذه تدل على أمنهم في بلادهم؟ نعم، لأن الخائف لا ينام (( أوأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون )) أيضا تدل على كمال الأمن والرخاء وعدم الضيق، لأنهم لو كان عندهم ضيق في عيش لذهبوا يطلبون العيش، ما صاروا في الضحى في رابعة النهار يلعبون، فدل أنهم في رخاء كامل ورزق ورغد، ما صاروا يلعبون في الضحى (( أوأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون )) بعدها ؟ (( أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون )). والاستفهامات هنا كلها للإنكار والتعجب من حال هؤلاء، للإنكار والتعجب، هم نائمون وفي رغد وهم مقيمون على معاصي الله واللهو، ذاكرون لترفهم، غافلون عن ذكر خالقهم، ولهذا في الليل نوم، ولا تهجد ؟ نوم، وفي النهار لعب، هذه حالهم والعياذ بالله، فبين الله عز وجل أن هذا من مكره بهم، ولهذا قال: (( أفأمنوا مكر الله ))، وهذا كما قلت للتعجب والإنكار، ثم ختم الآية بقوله: (( فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ))، الذين ينعمون في النعم والرغد والترف يظن أنه رابح وهو في الحقيقة؟ خاسر، ولهذا قال: (( فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون )) فلا تظن أن الله إذا أنعم عليك النعم من كل ما شئت أطعمك من جوع، وآمنك من خوف، وكساك من عري، لا تظن أنك رابح وأنت مقيم على معصيته، بل أنت خاسر، ولهذا قال: (( فلا يأمر مكر الله إلا القوم الخاسرون )) هذا معنى الآية، وقوله: (( أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم )) هذا الاستثناء أيش ...؟ لأيش؟ للحصر، وذلك لأن ما قبله مفرغ له أو لا ؟ فالجملة لم تستوف أركانها، الجملة اللي قبل إلا لم تستوف أركانها، ... فيها ؟ ... فاعل، فالقوم فاعل والخاسرون صفته.
قوله تعالى: (( أفأمنوا مكر الله )) ما معنى الأمن من مكر الله ؟ الأمن من مكر الله الإقامة على معصيته مع وفور نعمه، هذا الأمن من مكر الله، إذا طبقنا هذه الحال على حال كثير من الناس اليوم، إذا طبقنا هذه الآية على كثير من أحوال الناس اليوم نجدها منطبقة تماما، تجدهم والعياذ بالله نائمون في فرشهم عن صلاة الفجر، تجدهم لاعبون في ضحاهم عن ذكر مولاهم، حتى الصلوات الفرائض ما يصلونها، والعياذ بالله، لا يصلونها، وأظن أني حدثتكم حديثا بلغني عن طريق الهاتف: أن أهل بيت كانوا والعياذ بالله على غاية ما يكون من الاستكبار، وكان من بينهم شاب أصلحه الله صالح، يقيم الصلاة، ويمشي مع أهل الخير، وهم ينهونه فلا ينتهي، لأنه قد شب وكبر، أما الصغار الذين دونه فإنهم يزجرونهم إذا صلوا، ويوبخونهم على عمل الخير، هذا الشاب ماذا يفعلون به؟ فزين لهم الشيطان أن يبتعثوه إلى بلاد خارجية كافرة، فزينوا ذلك له فانبعث، وبقي هناك سنتين، فلما جاء وإذا هو قد أتى بقلب غير ما ذهب به العباذ بالله، فتن، فقالوا هذا الذي نريد، هؤلاء يقول هذا الذي بلغني إنهم من أغنى أهل البلد الذي هم فيهاـ أغنياء أثرياء، هؤلاء لا شك أنهم داخلون في الآية، أمنوا مكر الله فهم خاسرون، والعياذ بالله، وهكذا كل من أنعم الله عليه بالنعم وهو مقيم على معصيته، فإنه آمن مكر الله، لأن الله استدرجه من حيث لا يعلم، وأملى له من حيث لا يعلم، وكاد له من حيث لا يعلم. وفي قوله عز وجل: (( أفأمنوا مكر الله )) دليل على أن لله تعالى مكرا، والمكر ما هو ؟ المكر هو: التوصل إلى الإيقاع بالخصم من حيث لا يشعر، هذا المكر، عرفتم ؟ التوصل إلى الإيقاع به، يعني: بتلفه أو ضرره أو نقصه أو ما أشبه ذلك، المهم أن توقع به شيئا من حيث لا يشعر، لأنه إذا شعر ما صار مكرا، ومنه ما جاء في الحديث: ( الحرب خدعة )، ويقال: إن علي بن أبي طالب لما خرج إلى مبارزة عمرو بن ود، والتقيا صرخ به علي رضي الله عنه فقال: ( ما خرجت لأبارز رجلين ) فالتفت عمرو يحسب أنه جاء معه واحد ثان، لما التفت انتهز علي الفرصة فقطع رأسه، هذا مكر ولا لأ؟ أي نعم، مكر لكن جائز، يعني هذا الرجل ما خرج إلا ليقتله، فأراد أن يخدعه فخدعه بهذا. فالحاصل أن المكر في الأصل الإيقاع بأيش؟ بالخصم، التوصل إلى الإيقاع بالخصم من حيث لا يشعر.
فإذا قال قائل : كيف يوصف الله بالمكر مع أن المكر في ظاهره مذموم ؟
فالجواب على ذلك أن يقال: إن المكر في محله محمود، يدل على قوة الماكر، وأنه غالب على خصمه، فالمكر في موضعه لا شك أنه محمود، وأنه من صفات الكمال، ولهذا ما يوصف الله به عز وجل على سبيل الإطلاق، ما يجوز أن تقول: إن الله ماكر، ولا يجوز أن تقول: إن من أسماء الله الماكر مثلا، فلا تصفه بالمكر على الإطلاق، ولا تسميه بالماكر، وإنما تذكر هذه الصفة في مقام تكون فيه مدحا، مثل قوله تعالى: (( ويمكرون ويمكر الله )) (( ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون ))، وهكذا مثل هذه الآية (( افأمنوا مكر الله ))، وعلى هذا فالمكر من الصفات التي لا يوصف الله بها على سبيل الإطلاق، ولا تنفى عنه على سبيل الإطلاق، بل إنها في المقام الذي تكون فيه مدحا يوصف بها، وفي المقام الذي لا تكون مدحا لا يوصف بها، بخلاف الخيانة، الخيانة ما يوصف الله بها مطلقا، لأن الخيانة ذم بكل حال، إذ أنها مكر في موضع الائتمان، والمكر في موضع الإئتمان مذموم ولا محمود ؟ مذموم، ولهذا قال الله عز وجل: (( ذلك بأنهم خانوا الله من قبل )) ويش بعده؟ (( فأمكن منهم )) ولا قال فخانهم، (( خانوا الله من قبل فأمكن منهم ))، أما الخداع قال (( يخادعون الله وهو خادعهم )). فالحاصل: أن المكر من الصفات التي لا يوصف الله بها على الإطلاق، ولا تنفى عنه على الإطلاق، بل يوصف بها حيث تكون مدحا، وتنفى عنه حيث تكون ذما.
وقوله سبحانه وتعالى: (( أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله )) السؤال الآن: هل المكر من الصفات الذاتية أو الفعلية ؟ الفعلية، لأنها تتعلق بمشيئته.
يستفاد من هذه الآية الكريمة - يرحمك الله - الحذر من النعم التي يجلبها الله للعبد لئلا تكون استدراجا، لأن كل نعمة فلله عليك فيها وظيفة، ما هي الوظيفة ؟
الطالب : الشكر.
الشيخ : الشكر، وهو القيام بطاعة المنعم، فإذا لم تقم بطاعة المنعم مع توافر النعم عليك، فاعلم أن هذا من مكر الله فاحذر، نعم، أيش سؤالك ؟
الطالب : ... الكبر في صفات الله محمود، وفي غير الله مذموم.
الشيخ : أي نعم.
الطالب : ما يصير المكر مثله؟
الشيخ : لا، المكر ليس مثله، لأن المكر يقع من بني آدم، أما، نعم؟
السائل : محمود حتى من بني آدم؟
الشيخ : أي نعم، محمود من بني آدم إذا كان في محله، فمثلا ما ذكر عن علي بن أبي طالب يعتبر؟
الطالب : محمود.
الشيخ : يعتبر محمودا، لا شك فيه، كل ما وقع فإنه محمود، الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد غزوة ورّى بغيرها، لئلا يعلم به أعداؤه، إلا في غزوة تبوك كما هو معروف.
فالحاصل أن المكر صفة مدح في مقامه.
الطالب : هذه ما تعد مكرا.
الشيخ : كيف ما تعد مكرا؟ إذا كان هناك قوم منابذون كهؤلاء الجماعة، وخرجوا يريدونهم، ولكن ما أخبروا أحدا، قالوا نريد مثلا جهة أخرى، لأن هؤلاء ... أنهم يأتونهم، فهو نوع من المكر، صحيح أنه ما ... لكنه نوع منه.
الطالب : لكن من قال أن هذا خاص ...
الشيخ : أيها ؟
الطالب : ...
الشيخ : ... كان إذا أراد غزوة ورّى بغيرها إلا في تبوك.
الطالب : إلا في تبوك.
الشيخ : نعم، أما في غزوة الفتح فإنه الرسول صلى الله عليه وسلم سأل الله دعا أن الله يعمي الأخبار عن قريش حتى يبغتها في بلادها
الطالب : بالنسبة ... .
الشيخ : نعم.
الطالب : ... .
الشيخ : لا، هو كل بني آدم ائتمنهم الله على العهد، فالعهد الذي يكون بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم لا شك أن هذا ائتمان، فالأصل أن من عقدنا معه عهدا الأصل أننا أمِناه على ذلك وإلا لما عقدنا معه عهدا، ولهذا حتى الذين عقد معهم العهد إذا خفنا منهم الخيانة نبذنا إليهم عهدهم (( وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء )).
الطالب : ...
الشيخ : ... ولهذا لما علم أمكن منهم، وخيانتهم لله عز وجل ما هي خيانة لله نفسه، لكن خيانة لرسوله عليه الصلاة والسلام
الطالب : ... .
الشيخ : نقول إن هذه الخيانة لما كانت خيانة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كانت خيانة لله، مثل ما أن مبايعة الصحابة للرسول كانت مبايعة لله عز وجل.
إذن اللي صار في هذه الآية تحريم الأمن من مكر الله، ووجه الدلالة: أن الله تعالى صاغ هذه الجملة بصيغة الاستفهام الدال على الإنكار والتعجب هذا وجه، والوجه الثاني: قوله (( فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون )). إذن ما الذي يعلمني أن هذه النعم مكر أو ليست بمكر ؟ وش اللي يدريني إنها مكر ولا غير مكر ؟
الطالب : إذا لم يؤدي شكرها علمت أنها مكر.
الشيخ : أي، صح، إذا كان لم يؤد شكرها فهي مكر، إذا كان يؤدي شكرها فهي نِعَم ومنح.