شرح قول المصنف : وقوله : (( قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون )) . حفظ
الشيخ : ثم قال : " وقوله (( ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون )) " شف، الآمن من مكر الله غلب عليه جانب الرجاء إن صح هذا التعبير، لكنه ما اهتم وظن أن النعم ستدوم.
أما الثاني (( ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون )) نشوف الكلام على ألفاظه، (( من يقنط )) من اسم استفهام، وليست شرطية، لأن الفعل بعدها مرفوع، ولو كانت شرطية لجزم، ثم إنها لم تستكمل الجواب.
وقوله (( من يقنط من رحمة ربه )) ما معنى القنوط؟ القنوط قال أهل العلم: إنه أشد اليأس، اليأس له درجات، إذا بلغ الدرجة العليا سمي قنوطا، لأن الإنسان يقنط ويستحسر ويبعد الرجاء والأمل.
وقوله (( من رحمة ربه )) هذا رحمة مضاف إلى الفاعل، ومفعولها محذوف، والتقدير من رحمة ربه إياه.
وقوله (( إلا الضالون )) إلا أداة حصر، لأن الاستفهام في قوله (( ومن يقنط )) يراد به النفي، ولهذا نقول: إلا أداة حصر والضالون فاعل يقنط، يعني: لا يقنط من رحمة الله إلا الضالون، الضال بمعنى فاقد الهداية التائه الذي لا يدري ما يجب لله عز وجل، مع أنه سبحانه وتعالى قريب الغِير، ولهذا جاء في الحديث ( عجب ربنا من قنوط عباده وقرب غِيَره، ينظر إليكم أزلين قنطين فيظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب ).
أما معنى الآية، فإن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما بشره الملائكة بغلام عليم قال لهم: (( أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون )) يعني: أنه عليه الصلاة والسلام استبعد أن يكون الولد وقد بلغ الكبر وامرأته كذلك كانت عاقرا كبيرة، فاستبعد ذلك وقال: (( فبم تبشرون ))، يعني هل تبشرون بأمر محقق واقع فأنا أستبعد ذلك، (( قالوا بشرناك بالحق )) يعني: بالصدق الذي لا بد أن يقع (( فلا تكن من القانطين )) يعني: لا تستبعد رحمة الله عز وجل، ولا تيأس من رحمة الله، فإن الله تعالى على كل شيء قدير، وكم من إنسان بلغ من الكبر عتيا لم يرزق أولادا فرزقه الله عز وجل، فلهذا لا يجوز للإنسان أن يقنط من رحمة الله، فقال لهم: (( ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون )) يعني وأنا والحمد لله مهتد وعالم، لكن أريد أن أتحقق من الأمر، وأزداد يقينا وطمأنينة، وهذا مثل قول زكريا عليه الصلاة والسلام، أيش قال زكريا لما بشره الله عز وجل؟ (( قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا )) فهذا لا ينافي اليقين، لكنه يراد به زيادة أيش؟ الطمأنينة، كقول إبراهيم (( رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي )).
إذن فهمنا أن القنوط من رحمة الله أيش؟ لا يجوز وأنه ضلال، وذلك لأنه سوء ظن بالله عز وجل، سوء ظن بالله من جهتين: الجهة الأولى: أنها طعن في قدرته، فإن من علم أن الله على كل شيء قدير لم يستبعد شيئا على قدرة الله.
والثاني: أنها طعن في رحمته، لأن من علم أن الله سبحانه وتعالى رحيم ما يستبعد أن يرحمه الله عز وجل، فلهذا كان القانط ضالا، القانط من رحمة ربه ضال.
فإذا قال قائل: ما هو القنوط من رحمة الله ؟ قلنا هو أشد اليأس، بحيث يستبعد الإنسان حصول مطلوبه أو كشف مكروبه. حطوا بالكم يعني أن القنوط يدور على أمرين: يستبعد الإنسان حصول مطلوبه أو كشف مكروبه، يدور على هذا، القنوط يدور على هذا الأمر، فأنت لا تستبعد يا أخي أن يأتي الله بمطلوبك ولا تستبعد أن يكشف الله مكروبك، فكم من إنسان وقع في كربة وظن أنه لا نجاة له منها، فكشف الله تعالى كربته، إما بعمل سابق له أو بعمل لاحق، العمل السابق مثل ما وقع ليونس، يونس وقع في بطن الحوت في ظلمات البحر، قال الله عز وجل (( فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون )) هذا نجا بعمل سابق، والذين نجوا بعمل لاحق كثير، كدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم على الأحزاب ليلة الأحزاب، ودعائه في بدر، هذا أُنجوا بعمل لاحق، وهو الدعاء، وكذلك أصحاب الغار الذين انطبق عليهم الغار، فإنهم لهم أعمال صالحة، لكنها ما دفعت عنهم هذه الأعمال الصالحة حتى دعوا الله بها وتوسلوا بها إلى الله سبحانه وتعالى.
الطالب : شيخ يونس ما هو ...؟
الشيخ : لا، أعم ، كان في الماضي، (( كان من المسبحين للبث في بطنه )).
السائل : قال : (( لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين )).
الشيخ : أي، هذه منها، لكنها تدل على الماضي، ولهذا لما قال (( لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم )) فأتى بالفاء الدالة على الترتيب والتعقيب، وأن هذا أعقب تسبيحه، لكن كان الدالة على الماضي تدل على أن هذا شيء سابق.
الآن نقول ما هو القنوط ؟ أشد اليأس، ويكون في استبعاد حصول المطلوب أو كشف المكروب، وكل ذلك محرم، والواجب على الإنسان أن يحسن الظن بالله إذا وجد معه سبب إحسان الظن، أن يحسن الظن إذا وجد معه السبب. نعم؟
الطالب : ...
الشيخ : مثل أيش؟
الطالب : ...
الشيخ : لأ، لأن هذا أصلا ما فيه رجاء حتى ييأس، يعني ما فيه رجاء حتى ييأس، فلهذا ما نقول، أو مثلا إنسان مات ما يمكن يرد، لأن هذا ما فيه رجاء حتى نقول إنك يأست وقنطت، أي نعم.
فتبين الآن أن المؤلف رحمه الله أراد في هذا الباب أن يكون الإنسان جامعا بين الخوف فلا يأمن مكر الله، وبين الرجاء فلا يقنط من رحمته، لأن القنوط من رحمة الله يستحسر به الإنسان ولا يدعو وتضيق عليه الدنيا، وربما والعياذ بالله يكفر، خصوصا الذي يعبد الله على حرف إن أصابه خير اطمأن به، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه.
والأمن من مكر الله يوجب للإنسان أن يطغى ويزيد ويرى أنه استغنى ولا يبالي بإضاعة حق الله، فكل منهما على طرفي نقيض، والإنسان يجب أن يكون بين الخوف والرجاء فلا يأمن مكر الله ولا يقنط من رحمته.
القنوط من رحمته كَلْمٌ في جانب الرجاء أو لا ؟ والأمن من مكره كلمٌ في جانب الخوف.
وأنا أقول لكم إن أعمال القلوب أشد من أعمال الجوارح، أعمال الجوارح يستطيع الإنسان بكل سهولة أن يفعلها، يستطيع الإنسان مثلا في الصلاة أن يقف ولا يتحرك، وأن يرفع يديه عند تكبيرة الإحرام، وعند الركوع، وعند الرفع منه، وأن يركع مستوي الظهر إلى آخر ما تعرفونه من صفات الصلاة، يستطيع؟ وبكل سهولة، لكن أعمال القلوب من المحبة لله والتعظيم له والخوف منه والرجاء له هذا أمر صعب جدا جدا، حتى إن بعض السلف يقول : " ما عالجت نفسي على شيء معالجتها على الإخلاص " على الإخلاص الذي هو لب العبادة، الواحد منا يرى أنه ما شاء الله أكمل الناس إخلاص وتوكل وما أشبه ذلك لكن لو ينظر ويلتفت قليلا وجد أن القلب كله خروق يحتاج إلى من يرقعه، فأعمال القلوب أنا أحثكم ونفسي أو أبدأ بنفسي في الحقيقة على اعتبارها وملاحظتها دائما، وأظن والله أعلم أن الله ما شرع الطاعات إلا كالسور للحديقة، حماية للأصل الذي هو القلب، لأن الطاعات بمنزلة السور تحفظ القلب، فإذا اعتنى الإنسان بالسور لكن أهمل الحديقة، أيش الفايدة ؟ فلهذا يجب علينا أننا نعتني بأعمال القلوب اعتناء كاملا.
ثم إن هذا المقام أعني جانب الخوف والرجاء تقدم الكلام عليه، وأن أهل العلم اختلفوا: هل يغلب جانب الرجاء أو جانب الخوف؟ فمنهم من قال: يغلب جانب الرجاء، ومنهم من قال: يغلب جانب الخوف، ومنهم من قال: يجب أن يكونا سواء، وأنهما للإنسان في سيره إلى ربه بمنزلة الجناحين للطائر، إذا انكسر أحدهما سقط الطائر، ومنهم من قال: في حال الصحة تغلب جانب الخوف حتى تستقيم، وفي حال المرض تغلب جانب الرجاء، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله )، ومنهم من فرق بين فعل الطاعة والمعصية، فقال: إذا فعلت الطاعة فغلب جانب الرجاء، لأنك فعلت ما أمرت به وما بقي إلا فضل الله وثوابه، وإذا هممت بالمعصية فغلب جانب الخوف حتى ترتدع عنها.
وعلى كل حال الإنسان في الحقيقة طبيب نفسه ما دام أنه فطن وكيّس وحازم ويتدبر قلبَه دائما فهو طبيب نفسه، يستطيع المسير إلى الله عز وجل على ما يكون صلاحا له، ولا يستطيع الإنسان أن يجعل من هذا الأمر قاعدة عامة، فإن بعض الناس قد لا يصلحه إلا الخوف مطلقا، وبعضهم قد لا يصلحه إلا الرجاء مطلقا، فلكل مقام مقال، ولكنه في الأصل نذهب إلى ما ذهب إليه الإمام أحمد، قال: " ينبغي أن يكون خوفه ورجاؤه واحدا، فأيهما غلب هلك صاحبه "، وهو ظاهر كلام المؤلف أيضا، ظاهر صنيع المؤلف رحمه الله شيخ الإسلام ابن عبد الوهاب ظاهر صنيعه أيضا أنه يكون خوفه ورجاؤه واحدا، لأنه جمع بين الآيتين.
الطالب : ...
الشيخ : يمكن أيش؟
الطالب : ...
الشيخ : أي.
الطالب : ... .
الشيخ : لا، لا بد، أيهما أغلب، لا بد، إذا لم يخف وقع في المعصية ، لا بد من الخوف، ولا بد من الرجاء أيضا.
الطالب : ...
الشيخ : هذا باب الخوف والرجاء.