القراءة من قول المصنف: ومنها : أنه سبحانه هيأ لعباده المؤمنين منازل في دار كرامته لم تبلغها أعمالهم ولم يكونوا بالغيها إلا بالبلاء والمحنة فقيض لهم الأسباب التي توصلهم إليها من ابتلائه وامتحانه كما وفقهم للأعمال الصالحة التي هي من جملة أسباب وصولهم إليها .
ومنها : أن النفوس تكتسب من العافية الدائمة والنصر والغنى طغيانًا وركونًا إلى العاجلة وذلك مرضٌ يعوقها عن جدها في سيرها إلى الله والدار الآخرة فإذا أراد بها ربها ومالكها وراحمها كرامته قيض لها من الابتلاء والامتحان ما يكون دواءً لذلك المرض العائق عن السير الحثيث إليه فيكون ذلك البلاء والمحنة بمنزلة الطبيب يسقي العليل الدواء الكريه ويقطع منه العروق المؤلمة لاستخراج الأدواء منه ولو تركه لغلبته الأدواء حتى يكون فيها هلاكه . ومنها : أن الشهادة عنده من أعلى مراتب أوليائه والشهداء هم خواصه والمقربون من عباده وليس بعد درجة الصديقية إلا الشهادة وهو سبحانه يحب أن يتخذ من عباده شهداء تراق دماؤهم في محبته ومرضاته ويؤثرون رضاه ومحابه على نفوسهم ولا سبيل إلى نيل هذه الدرجة إلا بتقدير الأسباب المفضية إليها من تسليط العدو .
ومنها : أن الله سبحانه إذا أراد أن يهلك أعداءه ويمحقهم قيض لهم الأسباب التي يستوجبون بها هلاكهم ومحقهم ومن أعظمها بعد كفرهم بغيهم وطغيانهم ومبالغتهم في أذى أوليائه ومحاربتهم وقتالهم والتسلط عليهم فيتمحص بذلك أولياؤه من ذنوبهم وعيوبهم ويزداد بذلك أعداؤه من أسباب محقهم وهلاكهم وقد ذكر سبحانه وتعالى ذلك في قوله { ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين إن يمسسكم قرحٌ فقد مس القوم قرحٌ مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين فجمع لهم في هذا الخطاب بين تشجيعهم وتقوية نفوسهم وإحياء عزائمهم وهممهم وبين حسن التسلية وذكر الحكم الباهرة التي اقتضت إدالة الكفار عليهم فقال { إن يمسسكم قرحٌ فقد مس القوم قرحٌ مثله } فقد استويتم في القرح والألم وتباينتم في الرجاء والثواب كما قال { إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون } فما بالكم تهنون وتضعفون عند القرح والألم فقد أصابهم ذلك في سبيل الشيطان وأنتم أصبتم في سبيلي وابتغاء مرضاتي .
ثم أخبر أنه يداول أيام هذه الحياة الدنيا بين الناس وأنها عرضٌ حاضرٌ ثم ذكر حكمةً أخرى وهي أن يتميز المؤمنون من المنافقين فيعلمهم علم رؤيةٍ ومشاهدةٍ بعد أن كانوا معلومين في غيبه وذلك العلم الغيبي لا يترتب عليه ثوابٌ ولا عقابٌ وإنما يترتب الثواب والعقاب على المعلوم إذا صار مشاهدًا واقعًا في الحس .
ثم ذكر حكمةً أخرى وهي اتخاذه سبحانه منهم شهداء فإنه يحب الشهداء من عباده وقد أعد لهم أعلى المنازل وأفضلها وقد اتخذهم لنفسه فلا بد أن ينيلهم درجة الشهادة . وقوله { والله لا يحب الظالمين } تنبيهٌ لطيف الموقع جدا على كراهته وبغضه للمنافقين الذين انخذلوا عن نبيه يوم أحدٍ فلم يشهدوه ولم يتخذ منهم شهداء لأنه لم يحبهم فأركسهم وردهم ليحرمهم ما خص به المؤمنين في ذلك اليوم وما أعطاه من استشهد منهم فثبط هؤلاء الظالمين عن الأسباب التي وفق لها أولياءه وحزبه .
ثم ذكر حكمةً أخرى فيما أصابهم ذلك اليوم وهو تمحيص الذين آمنوا وهو تنقيتهم وتخليصهم من الذنوب ومن آفات النفوس وأيضًا فإنه خلصهم ومحصهم من المنافقين فتميزوا منهم فحصل لهم تمحيصان تمحيصٌ من نفوسهم وتمحيصٌ ممن كان يظهر أنه منهم وهو عدوهم .
حفظ