تفسير قول الله تعالى : << يآ أيها الذين ءامنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد و أنتم حرم إن الله يحكم ما يريد >> حفظ
يقول الله عز وجل: (( يا أيها الذين آمنوا )) واعلم أنه إذا صدر الكلام بهذه الجملة (( يا أيها الذين آمنوا )) فإنه كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أرعها سمعك ـ يعني انتبه له ـ فإما خير تؤمر به وإما شر تنهى عنه وإما خبر يكون فيه مصلحة لك ، مثل قول الله تعالى: (( يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس )) وما أشبه ذلك ، المهم أنه لابد أن تكون لخير أو لشر أو لخبر يتضمن خيرا أو شرا . واعلم أيضا أنه إذا صدر الكلام بها فإنه يدل على أن ما بعدها من مقتضيات الإيمان تصديقا به إن كان خبرا وعملا به إن كان عملا ، وأن مخالفة ذلك نقص في الإيمان . واعلم أيضا أن الله تعالى يصدر الخطاب بها إغراء للمخاطب ، لأنه إذا قيل: (( يا أيها الذين آمنوا )) كأنه يقول إن إيمانكم يحملكم على أن تفعلوا كذا وكذا أو أن تتركوا كذا وكذا حسب السياق . (( يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود )) أوفوا بها أي إيتوا بها وافيا كاملة من غير نقص ، وقد بين الله تعالى الوعيد على من يستوفي العقود تامة ولا يوفيها تامة في قوله تعالى: (( ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون )) إذا (( أوفوا )) بمعنى أيش ؟ إيتوا بها كاملة ، ومنه قوله تعالى: (( وأوفوا العهد )) (( وأوفوا الكيل إذا كلتم )) وما أشبه ذلك ، والعقود جمع عقد وهو ما أبرمه الإنسان مع غيره، وضد العقد الحل ، تقول: عقدت الحبل وحللت الحبل، فالعقود إذا ما أبرمه الإنسان مع غيره، وهي أنواع كثيرة منها: البيع، والإجارة والرهن، والوقف، والنكاح، وغير ذلك ، وقوله: (( أوفوا بالعقود )) هذا عام ، أي عقد فإنه يجب الوفاء به ، ولكن لابد أن يقيد بما جاءت به الشريعة وهو ألا يكون العقد محرما ، فإن كان العقد محرما فإن النصوص تدل على عدم الوفاء به بل على تحريم الوفاء به ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط ) . ثم قال: (( أحلت لكم بهيمة الأنعام )) (( أحلت )) هذا فعل مبني بأيش ؟ لما لم يسم فاعله ، وفاعله معلوم ليس مجهولا لأن الفاعل هنا هو الله عز وجل كما قال الله تبارك وتعالى: (( ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب )) فالمحل هنا هو الله . وقوله: (( بهيمة الأنعام )) البهيمة ما لا ينطق ، كل حيوان لا ينطق فهو بهيمة، وذلك لأن ما يتكلم به أو ما ينطق به يكون مبهما لا يعرف فهو بهيمة . وقوله: (( الأنعام )) المراد بها ثلاثة أنواع: الإبل ، والبقر ، والغنم ، فإضافة البهيمة إلى الأنعام من باب إضافة الشيء إلى جنسه كما تقول: خاتم حديد ، وباب خشب ، وما أشبه ذلك ، كأنه قال: البهيمة من الأنعام ، بهيمة الأنعام وهي الإبل عندما نقول وهي الإبل والبقر والغنم هل نحن نفسر البهيمة أو الأنعام ؟ الأنعام يعني الإبل والبقر والغنم . (( إلا ما يتلى عليكم )) هذا استثناء من قوله: (( بهيمة الأنعام )) لأن بهيمة الأنعام مفرد مضاف فهو عام لكل شيء ، (( من بهيمة الأنعام )) قال: (( إلا ما يتلى عليكم )) والمراد بذلك ما سيأتي في الآية التي بعدها في قوله تعالى: (( حرمت عليكم الميتة والدم ... )) هذا الذي يتلى عليهم . (( غير محلي الصيد )) هذه استثناء من قوله: (( أحلت لكم بهيمة الأنعام )) ويحتمل أن تكون حالا وهي الأقرب ، لأنه مضافة إلى اسم الفاعل يعني أحلت لكم حال كونكم غير محلي الصيد وأنتم حرم أي مستبيحين، وذلك بصيده ، (( وأنتم حرم )) جملة حالية ، و(( الحرم )) جمع حرام وهو من تلبس بالإحرام بحج أو عمرة أو دخل في الحرام ، من تلبس بالإحرام بحج أو عمرة أو دخل في حرم وإن لم يكن محرما ، والحرم في مكة معروف بحدوده وفي المدينة كذلك أيضا، ولكن المدينة ليست كمكة في التحريم بل هي أقل كما سيذكر إن شاء الله . (( إن الله يحكم ما يريد )) الجملة كالتعليل لما قبلها، لما ذكر الله عز وجل الإحلال والتحريم قال: (( إن الله يحكم ما يريد )) حكما شرعيا أو كونيا ؟ نعم يشمل الحكم الكوني والحكم الشرعي ، فكل ما يريده الله عز وجل فإنه يحكم به ، لأنه لا راد لحكمه ، إن شاء حلل هذا وحرم هذا، وإن شاء أوجب هذا ورخص في هذا ، وكذلك أيضا إن شاء حكم على عباده بالغناء والأمن وإن شاء حكم بضد ذلك ، فالأحكام الكونية والشرعية كلها بإرادة الله ولا أحد يعترض على حكم الله عز وجل كما قال الله تعالى: (( إن الحكم إلا لله )) يعني ما الحكم إلا لله (( أمر أن لا تعبدوا إلا إياه )) . وقوله: (( ما يريد )) أي الإرادتين ؟ نعم نقول هي الإرادة الكونية باعتبار كون الحكم كونيا ، والشرعية باعتبار كون الحكم شرعيا ، وحينئذ لابد أن نفرق ما بين الإرادتين الكونية والشرعية ، الفرق بينهما: أن الكونية بمعنى المشيئة ، الكونية بمعنى المشيئة فتتعلق فيما يحبه الله وما لا يحبه الله ويقع فيها ما أراد بكل حال ، وأما الشرعية فهي التي بمعنى المحبة ، فمعنى يريد أي يحب ، وتتعلق فيما يحبه الله فقط، وقد يقع فيها المراد وقد لا يقع ، فهذا هو الفرق بين الإرادتين الكونية والشرعية .