تتمة الفوائد السابقة . حفظ
(( لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ))[النمل:40] إذا قال قائل: كيف يقول سليمان أم أكفر، فالكفر كلمةٌ نابية تنفر منه النفس، فلما لم يقل: أأشكر أم لا أشكر، مع أن المعنى واحد لكن هذه أهون؟
نقول: لأجل ردع نفسه عن المخالفة وعدم الشكر، حتى يبيّن لنفسه أنه إذا لم يشكر فمعناه هو الكفر، فلكل مقام مقال.
قد تخاطب إنسان ترى أنه لم يشكر نعمة الله عليه فتخشى إذا قلت: أنت كافرٌ بالنعمة، أن ينفر منك ويزداد نفوراً حتى من النعمة، وإذا قلت: أنت لم تشكر تمام الشكر أو حق الشكر ... أو ما أشبه ذلك، وجدت أنه أهون، والأساليب تؤثر.
يقال: أن ملكاً من الملوك رأى رؤية فأفزعته فقال: عليَّ بالمعبّرين أو بالعابرين، فأحضروا له العابرين وقال لهم: إني رأيت أن أسناني قد سقطت فما ترون؟ فقام كبيرهم فقال: أرى أن أهلك سيموتون. انزعج الملك فقال: أوجعوه ضرباً، فأوجعوه ضرباً وقال: اصرفوهم هؤلاء ما هم معبّرين.
ثم جاء بمعبّرين آخرين وقال لهم: إني رأيت أن أسناني قد سقطت فقام كبيرهم وقال: الملك أطول أهله عمراً، وقال: هؤلاء أجلدوهم. مع أن المعنى واحد، لأن أهله لو ماتوا صار هو أطولهم عمراً.
فالحاصل أن التعبير له دخل في قبول الحق والنفور منه، وقد مر علينا قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام حيث قال لأبيه: (( إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ ))[مريم:43] ما قال: أنت جاهل ولا تدري ولا تعرف.
(( قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا ))[مريم:43] وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، بعض الناس يهبه الله سبحانه وتعالى قدرة على التعبير حتى إن العبارات تكون بيده كالعجينة، يلان له القول في كل ما يريد، فتجده يستطيع حتى لو أراد أن يخرج من لسانه كلمة لا يريدها على طول يجد بدلها، وبعض الناس ما يستطيع، فالله سبحانه وتعالى يهبه لمن يشاء.
إذاً: (( وَمَنْ كَفَرَ ))[النمل:40] نقول: عبّر بهذا التعبير لأجل أن يردع نفسه عن المخالفة وعدم القيام بالشكر.
" (( فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ )) عن شكره (( كَرِيمٌ ))[النمل:40] بالإفضال على من يكفرها ".
يعني: من كفر فإن ربي غني.. غني عن شكره صحيح، أو غنيٌ مطلقاً ومن جملة ما هو غنيٌ عنه شكر هذا الإنسان على نعمة الله، فإن الله تعالى ما أنعم على العباد لحاجته إلى أن يشكروه، بل لفضله عليهم وظهور آثار أوصافه.. ظهور آثار صفاته العظيمة ما يكون إلا بأفعاله التي من جملتها النعم.
أو النقم أيضاً ليظهر بذلك صفات الانتقام والغضب.
وقوله: (( كَرِيمٌ ))[النمل:40] أي: أنه سبحانه وتعالى قد يبقي النعمة على من كفرها تكرماً منه أحياناً، وأحياناً استدراجاً، والله تبارك وتعالى حكيم يهب فضله من يشاء، قد يبق الله النعمة على الكافر بها استدراجاً، لقوله تعالى:وإلا لا؟ (( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا ))[آل عمران:178]، (( فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ ))[القلم:44 - 45].
وقد يبقي الله تعالى النعم مع الكفر تربية، بحيث أن الإنسان يفتح الله عليه في التأمل فيخجل من الله عز وجل، أن يكون هو يبادر الله تعالى بالمعاصي والله تبارك وتعالى يدر عليه النعم فيرتدع.
وهذا هو ظاهر قوله: (( كَرِيمٌ ))[النمل:40] لأن الكرم في مقابل الكفر ما يكون إلا حيث يكون ذلك الكرم من مصلحة الكافر بها، وإلا ما ظهر آثار الكرم بل ظهر آثار الكفر، لو قال: حكيم صار هذا يشمل من تدرج الله به حتى أهلكه، لكن كريم ما يتم الكرم للكافر بالنعمة إلا حيث كان إبقاء النعمة عليه مصلحة له، لأجل أن يعود.