قال الله تعالى : << وإبراهيم إذقال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون >> حفظ
مفعولٌ لفعل محذوف تقديره (اذكر) والفائدة مِن حذف العامل هو الاختصار وبيان الاهتمام بالمعمول، فهنا حُذِفَت (اذكر) اختصارًا واهتمام بالمعمول وهو إبراهيم لِيُبدَأَ به أولًّا، وإبراهيم عليه الصلاة والسلام كلنا يعرف أنه ثانِي أولي العزم مِن الرسل وأولُهم مَن؟ مُحَمَّدٌ صَلَّي اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ إبراهيم ثم موسى ثم نُوح وعِيسى اختلفوا أيُّهما أفضل والأولى أن يقال لِكُلٍّ مِنْهُما مَزِيَّة أمَّا الثلاثة محمد ثم إبراهيم ثم موسى فهذا مُتَّفَقٌ عَليه الترتِيب، وقد ابتلَاه الله تعالى بأمرين أحدُهما في الدعوة إلى الله والثاني في أعَزِّ محبوب إليه، أمَّا في الدعوة إلى الله فإنَّ الله ابتلاه بأن سَلَّط عليه قومَه لِيُحْرِقُوه والنَّتِيجَة أنْجَاه الله مِن النار وقال للنار: كوني بردًا وسلامًا على إبراهيم، وأما الأمر الثاني فهو في أعزِّ الأشياء إليه وهو ابنُه حين بلغَ معه السعي وهو وحيدُه وأوَّلُ أولاده وهو إسماعيل على القول الصحيح ابتلاه الله تعالى بأن أمرَه بذبحِه أمرَه بأن يذْبَحَه هو واستَسْلَم ووافق ... واسْتَسْلم لِهذا الأمر والقصة معروفة وأنجَاه الله سبحانه وتعالى منه حين قال لَه: (( وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ )) [الصافات :106] وسُمِّي خليلًا اتخذه الله خليلًا بسبب هذا الأمر حيث قدَّمَ على محبَّةِ الله تعالى أحبَّ شيء إليه [كذا ويقصِدُ العكس] وقد نبَّهْنا مِن قبل على أنَّ بعض الناس الجهَّال في الواقع يصِفُون النبي صلى الله عليه وسلم بأنه حبيبُ الله وأنَّ إبراهيم خليل الله وهذا خطأ فإن محمدًا صلى الله عليه وسلم خليلُ الله أيضًا كما ثبتَ ذلك عنه، والذي يقول إنَّ محمدًا حبيب وإبراهيم خليل قد تنقَّصَ النبي صلى الله عليه وسلم لأنَّ درجة المحبة أدنى مِن درجة الخُلَّة (( إذ قَالَ لِقَوْمِهِ )) (إذْ) هذه ظرف وهي في موضع نصب على الحال أي حالَ كونِه قائلًا لقومه، وقوله: (( لقومه )) مَن القوم؟ القوم هم الجماعة الذين ينتسب إليهم الإنسان بنسب أو هدَف، كلُّ مَن ينتسب إليه الإنسان بنسب فهم قومه أو بهدف بأن يكون دعواهم واحدة وطريقُهم واحدة يسمى أيضًا قومًا، والمراد بقومه هنا مَن ينتسب إليهم قرابة (( لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ )) قال المؤلف: " خافُوا عقابه " (( اعبدوا الله )) أصل العبادة مأخُوذَة مِن الذُّلّ، ومنه قولُهم طريقٌ مُعَبَّد أي مُذَلَّل لأنَّ العبد يذل لمعبوده فالعبادة إذًا التذلل لله عز وجل بفعلِ أوامره واجتِنَاب نواهيه، وقد حدَّها شيخ الإسلام ابن تيمية بأنَّها " اسم جامِع لكل ما يحبه الله ويرضَاه مِن الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة "وهذا حدٌّ لها في الواقع باعتِبَار مَيدَان العبادة أمَّا أصلها فإنها الذُّلّ لأن هذا مقتضَاها في اللغة أن يتذَلَّل الإنسان لله سبحانه وتعالى بطاعَتِه فِعْلًا للأوامر وتركًا للنواهي، واعلم أنَّ العبادة تنقسم إلى قسمين :
أولًا: الخضوع للأمْرِ الكوني وهذه عَامَّة لِكُلِّ أحد كما في قوله تعالى: (( إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ))[مريم :93] كُلُّ مَن في السماوات والأرض مِن مؤمن وكافر وبَرّ وفاجِر كلهم يأتون الله تعالى في هذا الوصف (( إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ))، وهل مِن ذلك قوله تعالى (( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ )) ؟
الطالب: إن قلنا إن الاستثناء متصل فهو منه، وإن قلنا منقطع فليس منه.
الشيخ : صح؟ فاهمين يا جماعة؟ ذكرْنا أن العبودية تنقسم إلى قسمين عامَّة وهي الخضُوع للأمر الكوني وهذه لا يُسْتَثْنَى منها أحد كُلُ الناس كل الخلق خاضع لأمر الله الكوني أليس كذلك؟ هل أحد يقدر يرفع المرض أو الموت عن نفسه؟ لا، مثاله قوله تعالى: (( إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ))، هل مِن هذا قوله تعالى: (( إِنَّ عِبَادِي )) يُخَاطِب إبليس (( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ )) الجواب كما قال محمد يقول: إن جعلْنا الاستثناءَ متصلًا فالمراد بالعبودية: العامة، وإن جعلناه منقطعًا فالمراد بالعبودية: الخاصة.
العبودية الخاصة: هي التذلل للأمر الشرعي التذلُّل لأمر الله الشرعي ومنها قوله تعالى: (( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا ))[الفرقان :63] هؤلاء تذللَّوا بأي شيء؟ بالأمر الشرعي، هنا في الآية الكريمة قال إبراهيم: (( اعبدوا الله )) أيُّ الأمرين يريد؟
الطالب: الشرعي.
الشيخ : التعبُّد لله بالعبادة الشرعية، وقوله: (( واتقوه )) عطفٌ على قوله: (( اعبدوا الله )) والعطف كما قيل يقتضِي المغايرة، ونحن ذكرنا أنَّ العبادَة التذُلَّل سبحانه وتعالى بالطاعة، والتقوى اتخاذ وقايةٍ من عذابه بطاعتِه هذه التقوى، أصلها مِن الوقاية فيَتَّقِي الإنسان عذابَ الله بطاعتِه، على هذين التفسيرين يكونُ عطف التقوى على العبادَة مِن باب عطفِ الشيءِ على نفسِه والمعروف أنَّ بلاغة القرآن تأبى ذلك يعني تأبى أن يُعْطَفَ الشيء على نفسه، لأنَّ ذلك مِن باب التكرار، نعم، فما هو الفرق الذي يكون به العطفُ مقتضيًا للمغايرة؟ فاهمين معي هذا؟ يعني إذا قلنا التقوى اتخاذُ وقايةٍ مِن عذاب الله بطاعته، والعبادة التذلل لله تعالى بطاعته صار معناهما واحدًا والعطفُ يقتضِي المغايَرَة فكيف يمكن أن نُفَسِّر العبادة بمعنًى يُغَايِر معنى التقوى؟ نقول: هذا الجواب على هذا مِن أحد وجهين: إمَّا أن يُراد بالعبادة هنا في هذه الآية بالعبادة فعل الأوامر وبالتقوى تركُ النواهي، يعني أن تَتَّقِيَ المعاصي وأن تفعلَ الطاعات، وهذا الوجه أعني أنَّه إذا كانت الكلمتان كل واحدة منهما تشمل معنى الأخرى عند الانفراد وتُغَايِرُها عند الاجتماع هذا له أمثلة كثيرة مثل الفقير والمسكين هما شيء واحد عند الانفراد ويختلفان عند الاجتماع، البِرّ والتقوى هما شيءٌ واحد عند الانفراد وشيئَانِ عند الاجتماع، هنا نقول العبادة والتقوى هما شيء واحد عند الانفراد وعند الاجتماع تُفَسَّرُ العبادة بإيش؟ بفعل الأوامر، والتقوى باجتناب النواهي هذه واحدة، أو نقول الوجه الثاني: أن يُرادُ بالعبادة مطلَق الالتزام والتذلل والتقوى المـُراد بها اتقاء العمل المعيَّن لأنَّه ليس كل مَن قام بمطلق العبادة يقوم بالتقوى، كثير من المسلمين الآن يعبدون الله لكن هل يتَّقُونه في كل شيء؟ يفعلون أشيا كثيرة، هذا الصوم عندنا الآن نصُوم لكن هل الصائم يتَّقِي الله عز وجل في كلِّ شيء بحيث يترك الكذب والغيبة والشتم والمحرَّم وقول الزور والعمل به؟ الجواب: ليس كلُّ صائم هكذا، وعلى هذا فنقول المراد بالعبادة مطلق الالتزام والتذلل، وبالتقوى أن يتقِي الإنسان ربه في كل فرد أوفي كل جنس مِن جنس المعاصي وأفرادها، (( واتقوه )) يقول المؤلف: " خافوا عقابه " ولو أنَّ المؤلف فسر الآية فيما يطابق اللفظ لكان أولى لو قال (( اتقوا عقابَهُ )) لكان أولى، (( ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ )) مما أنتم عليه مِن عبادة الأصنام " قال: (( ذلكم )) المشار إليه العبادة والتقوى