قال الله تعالى : << أولم يكفهم أنآ أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون >> حفظ
ثم قال الله تعالى معارِضًا لطلبهم بما هو أولى منه فقال: (( أولم يكفِهم -فيما طلبوا- أنا أنزلنا عليك الكتاب -القرآن- يُتْلى عليهم )) (أولم يكفِهم) الضمير يعود على مَن؟ على الذين قالوا: لولا أنزل عليه آيات مِن ربه، والهمزة هنا للاستفهام، والواو عاطفة على أي شيء؟ على جملة مُقَدَّرة تُقَدَّر بحسب المقام هذا أحد الرأيين لأهل النحو، والرأي الثاني يقولون: إنَّ الواو عاطفة على الجملة السابقة ولا تحتَاجُ إلى تقْدِير وأنَّ ترتيبَ الهَمْزَةِ التَّأَخُّر وأنَّ التقدير: (وَألم يكْفِهِم) وهذا القول أسهَل لأَنَّ القولَ الأول وإن كان أنه مبني على أصل وهو أنَّ الأصل عدم التقدِيم والتأخير لكنَّ القول الأول أحيانًا يُعْيِيك أن تُقَدِّر المحذوف ما تستطيع أن تقدِّرَه، وأمَّا هذا القول فإنه لا يُعْيِيك ما دام إنّك تقول: هذا معطوف على ما سبق ما يكون فيه إشكَال أبدًا، وقوله: (أولم يكفهم) الكفاية بمعنى الغِنَى عن الشيء، ومنه ما هو معروف عند اهل الفقه يجِبُ عليه كِفَايةُ مِن يَمُونُه أي إغْنَاء مَن يمونُه عن غيره، فمعنى (يكفِهم) أي يُغْنِهم عن كل آية (أنَّا أنزلنا عليك)، (أنَّا) هذه تُؤَوَّل وما بعدها بالمصدر على أن يكون فاعل (يكفي) يعني: أولم يكفِهم تنزِيلُنا، عندكم إنزالنا أولم يكفهم إنزالُنا عليك الكتاب، وهذا الاستفهام هنا للتوبيخ يعني كان الذي يجِب أن يكفِيَهم هذا الإنْزَال ولهذا قال: (أنَّا أنزَلْنا عليك الكتاب) القرآن، وهو مكتوبٌ كما مرّ في اللوح المحفوظ والصَّحف التي بأيدي الملائكة والمصاحف التي بأيدِينا، (( يُتْلَى عليهم )) يُقْرأ ولا أحدَ يحولُ بينهم وبينه والذي يتلوه مَن؟ الرسول عليه الصلاة والسلام يتلُوه على الناس فيبَلِّغُهم إيَّاه فيتنَاقَلُونَه، وقوله: (يتلى عليهم) قال: " فهو آية مستمرة لا انقضاءَ لها بخلاف ما ذُكِر من الآيات " والحقيقة أنَّه كما قال المؤلف آيةٌ مستمرة إلى يوم القيامة لأنَّ الله تعالى يقول: (( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ))[الحجر:9] بخلاف الآيات السابقة، الآيات السابقة آيات مشهودة مَن الذي ينتفع بها؟ المشَاهِدُون لها أمَّا مَن بعدَهم فإنما تصِلُ إليهم عن طريق الأخبار وتعلمون أنَّه ليس الخبر كالعِيَان، أمَّا القرآن فإنَّه بيننا نشاهده ونسمَعُه ونتلُوه فليس هو مِن طريق الخبر عن شيء مضى فيكونُ أعظم آيةً من الآيات التي انقضَت وزالت، وهذا هو السرُّ في أنَّ هذا القرآن كان آيةً لكل الناس لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم مبعوثٌ إلى جميعِ البشر، ولكن لاحظوا أنَّ هذا القرآن آية لِمَن يُتْلَى عليه ولا يبعُدُ عن أذهانِكم ما سبق قبلَ قليل أنَّه آياتٌ بينات في صدورِ الذين أوتوا العلم، أمَّا المستكْبِرُون عنه فليس آيةً لهم الذي يقْرَأُ القرآن وهو مُعْرِض لا لِينتفعَ به فإنَّه لا تظهَرُ له الآيات فِيه، قال الله تعالى: (( وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ))[التوبة:125] وقال الله تعالى أيضًا في سورة القِتَال: (( وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا ))[مُحَمَّد:16] فلا ينتفعون ولا يحفظُون أيضًا فالقرآن آياتٌ لكن لِمَن أقبل عليه، ولهذا قال الله تعالى: (( كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ ))[ص:29]، ثم إنَّ هذا القرآن آية بنفسِهِ لا لِوجُودِ مانِع مِن معارضَتِه خلافًا لِمَن قال: إنَّ معارضَة القرآن ليس لِلقرآن نفسه ولكن لِصَرْفِ الناس عن معارضَتِه وإلَا فهم قادِرُون، هذا لا شكَّ أنَّه خطأ خطأٌ بيِّن ولو صحَّ لكان آية لكنَّه لم يصِحّ بل نقول: إنَّ القرآن نفسَه آيةٌ مِن آيات الله وكافٍ في الدلالة على صدقِ الرسول صلى الله عليه وسلم لكن لِمَن تدبَّرَه، وقوله: لِمَن تدبره واضِح لأنَّ العامِّي الآن قد لا يظْهَرُ له كونُه آيةً للرسولِ صلى الله عليه وسلم بيِّنَة لأنَّه ليس مِن أهل العلم، نعم العامي يشعُر بأن هذا القرآن كلامُ الله وكذلك أيضًا يشعُر بما فيه مِن التَّرغيب والتَّرهيب يشعُر بذلك ولهذا تجِدُه يسأل الله مِن فضله عند آية الترغيب ويستعِيذ بالله مِن النار أو مِن العذاب عند آية الترهيب، وإذا جاءت أسماءُ الله فإنه يشعُر بأنَّه يقشَعِرُّ جلده ثم يلِين لِذِكْر الله، لكن الآيات العظيمة التي يتضَمَّنها هذا القرآن لا يعرفها العامي، (( أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم )) وش تقول؟
الطالب: ...
الشيخ : أي لكن أوّل مَن تلاه الرسول عليه الصلاة والسلام فالذي بلغه أولًّا الرسول عليه الصلاة والسلام
الطالب: .....
الشيخ : يُتْلى عليهم لأنَّه أعم، لكن أول مَن تلاه الرسول عليه عليه الصلاة والسلام وهذا هو السبب أنَّه ما قال: تتلوه عليهم لأنَّه يتْلُوه على الناس ثم الناس يُعَلِّم بعضُهم بعضًا،
قال: (( يتلى عليهم إن في ذلك )) الكتاب (( لرحمة وذكرى )) عِظَةً (( لقوم يؤمنون )) " (إن في ذلك) قال المؤلف: " الكتاب " ويحتَمِل أنَّه إنزال الكتاب أننا أنزلنا عليك لأنَّ الذي ذكَرَ الله أنه يكفِيهم هو الكتاب ولَّا إنزالُه؟ إنزالُه فيكون الذي فيه الذكرى هو الإنزَال، ومعلومٌ أنَّه إنما تكون الذكرى بالإنزال باعتبَار المنَزَّل لكن إنزالُه مِن الله ذِكْرى فالقرآن في الحقيقة ذِكْرَى مِن الوجهين مِن جهة أنَّه نزَل مِن عند الله ومجَرَّد شعُور الإنسان بأنَّه نزَل مِن عند الله لا شك أنه يتذكَّر به ويعظِّمُه لأنَّه كلام ربه، وكذلك أيضًا ما فيه من المعاني العظيمة والآثار الحميدة هو أيضًا آية مِن آيات الله ولهذا قال: (( إن في ذلك لرحمة ))، وقولُه (لَرحمة) مِن أين الرحمة؟ مِن الله فالله أنزل القرآن رحمةً للناس وأيضًا ذكرى يعني عِظَة يَتَذَكَّر به الناس فبه يَتَرَاحَمُون ويُرحمون، وبه أيضًا يتذكرون ولكن لقوم يؤمِنُون أمَّا مَن لم يؤمِن فليس رحمةً في حقه ليش؟ نعم لأنَّه يزيده رِجْسًا إلى رِجْسِه فيَضِلّ أكثَر ويزداد كفرًا -والعياذ بالله-، فعلى هذا المؤمن هو الذي يكون القرآن رحمةً له وذكرى ينتفِعُ به، وما دام الأمر عُلِّق على الوصف في قوله: (لقوم يؤمنون) وكلما كان الإنسان أقْوى إيمانًا كان أكْثَر رحمَةً بهذا القرآن وتذَكُّرا، وكلما كان الإنسان أضعف إيمانًا كان القرآنُ أقَلَّ رحمةً له وتذَكُّرًا