قال المصنف رحمه الله تعالى : ونؤمن بالموازين توضع يوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا : << فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره >> [ الزلزلة : 7 _ 8 ] , << فمن ثقلت موازينه فأولآئك هم المفلحون * ومن خفت موازينه فأولآئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون * تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون >> [ المؤمنون : 102 _ 104 ] , << من جآء بالحسنة فله عشر أمثالها و من جأء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون >> [ الأنعام : 160 ] . حفظ
الشيخ : قال : " ونؤمن بالموازين توضع يوم القيامة (( فلا تظلم نفس شيئا )) ".
بالموازين جمع ميزان، والموازين ذكرت في الكتاب والسنة مرة بالجمع ومرة بالإفراد. فقال الله تعالى : (( ونضع الموازين القسط ليوم القيامة )) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( كلمتان حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان ). والجمع بينهما يسير جدا وهو أن الموازين جمعت إما لكثرة ما يوزن بها، وإما لكثرتها باعتبار الأشخاص، كل إنسان له ميزان، وإما باعتبار الأمم.
وأما الإفراد فهو مفرد يراد به العموم، لأنه للجنس.
ثم ما الذي يوزن؟ هل يوزن العمل أو يوزن العامل أو توزن الصحائف؟
كل هذا ورد، فورد ما يدل على أن الذي يوزن العامل، وذلك فيما صح في قصة ابن مسعود رضي الله عنه أنه خرج يمشي ذات يوم وكانت الريح شديدة فجعلت تكفؤه وكانت ساقاه دقيقتين، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم ( أنهما في الميزان مثل أحد ) وهذا يدل على أن الذي يوزن العامل.
وربما يستدل له بقوله تعالى : (( فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا )) على أن في الآية معنى آخر، وهو أن لا نقيم لهم وزنا يعني ليسوا عندنا بشيء، ولا نعتبرهم شيئا.
وأما أن الذي يوزن العمل ففي هذه الآية التي ساقها المؤلف (( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا )) إذن الذي يوزن هو العمل، وقال الرسول عليه الصلاة والسلام في سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم : ( إنهما ثقيلتان في الميزان ). فإذا كان الذي يوزن العمل فإن فيه إشكالا، وهو أن العمل معنى من المعاني وليس جسما يوزن، فكيف يكون؟
الجواب عن ذلك أن يقال: إن الله تعالى يجعل هذه المعاني أجساما، كما أنه تعالى يجعل الموت وهو معنى، يجعله بصورة كبش وهو جسم، والله على كل شيء قدير، قادر على أن يجعل هذه المعاني أجساما مشهودة مرئية.
أما القول الثالث الذي يوزن هو صحائف الأعمال، وذلك في حديث ( صاحب البطاقة الذي تمد له سجلات عظيمة كثيرة فيها ذنوب، فإذا رأى أنه قد هلك، قيل له إن لك عندنا حسنة ويؤتى بالبطاقة فيها لا إله إلا الله، فيقول: يا رب وما هذه البطاقة بالنسبة لهذه السجلات؟ فيقال: إنك لا تظلم ثم توضع البطاقة في كفة والسجلات في كفة، فتطيش السجلات وتثقل البطاقة )، فهذا يدل على أن الذي يوزن ايش؟ الصحائف.
فكيف الجمع؟ لأن هذه أخبارا ليست أحكاما حتى نقول يمكن أن ينسخ بعضها ببعض، هذه أخبار.
الجمع أن يقال: أما بالنسبة للصحائف والأعمال نفسها فلا منافاة، إذ يمكن أن تكون الأعمال توزن بالصحائف، فإذا ثقل العمل لزم من ذلك ثقل الصحيفة.
أما بالنسبة للعامل أنه هو الذي يوزن فربما نقول إن هذا يقع لبعض الناس دون بعض. وهذه مسألة ترجع إلى مشيئة الله، ليس للعقل فيها تدخل.
يقول : (( فلا تظلم نفس شيئا )) شيئا نكرة في سياق النفي فتعم أي شيء.
(( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره )). مثقال الذرة يضرب مثلا للقلة، كما في قوله صلى الله عليه وسلم : ( من اقتطع من الأرض شبرا ) طيب.
ومن يعمل دون الذرة؟ نعم؟ يره، ما دام ذكر الذرة هنا لبيان القلة فهو على سبيل المثال وليس على سبيل التحديد.
وقال تعالى : (( فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون * ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون )).
وفي هذه الآيات دليل على أن الميزان حسي، وهو كذلك. وقالت المعتزلة: إنه ليس حسيا، وليس هناك كفتان، وإنما المراد بالميزان إقامة العدل، فأنكروا ما جاء به القرآن صريحا، وجاءت به السنة صريحة أيضا بناء على ايش؟ بناء على أنهم يتلقون العقائد من عقولهم. وكل شيء استفادته عقولهم فإنهم ينكرونه. ولا شك أن هذا غلط وأنه يستلزم لوازم باطلة كتكذيب خبر الله، وخبر رسوله وتحريفهما إلى معاني بعيدة.
إذن الميزان على ما نعتقده ميزان ايش؟ حسي له كفتان توزن فيه الأعمال أو صحائف الأعمال أو العمال، حسب ما جات به النصوص.
قال : (( تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون )). هؤلاء الكفار تلفح وجوهم النار، وذكر الوجوه لأنها أشد ما يكون تأثرا،ـ ولأنها إذا عذبت الوجوه كان ذلك أذل بالنسبة للإنسان. يقول: (( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون )) هذا بيان كيف تكون الموازين؟ نقول: أما من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها. وهذا أدنى ما يثاب عليه المرء بالنسبة للحسنة، وإلا فإن الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، لكن أدنى ما يكون أن له عشرة أمثالها.
وعلم من قوله تعالى : (( من جاء بالحسنة )) (( ومن جاء بالسيئة )) أنه لو كان هناك ما يبطل الحسنات فإنها لا تنفعه، مثل: أن يرتد الإنسان والعياذ بالله فإنه لا تنفعه الحسنات ولو فعلها في الدنيا، لأن الله قال : (( من جاء )) فلا بد أن تكون الحسنات واصلة للإنسان يوم القيامة. وكذلك (( من جاء بالسيئة )) فإن الإنسان قد يعمل السيئة ثم ايش؟ يتوب منها فلا يكون أتى بها.
نقف على هذا. انتهى الوقت.