معلوم النهي عن الابتداع في الدين فلماذا تعتمد المصالح المرسلة؟ حفظ
السائل : ... هل للمصالح المرسلة هل هي من الابتداع أم هي شيءٌ آخر ؟
الشيخ : المصالح المرسلة أولاً ليس لها علاقة بموضوع الابتداع في الدين وهذه نقطة مهمة جداً ذلك لأن الابتداع في الدين إنما يقصده المبتدع بتلك البدعة زيادة التقرب إلى الله تبارك وتعالى ، المبتدع في الدين إنما يريد من بدعته أن يزداد بها تقرباً إلى الله تبارك وتعالى هذا هو قصد المبتدع ولذلك تأتي عليه كل النصوص التي تحرم الإبتداع في الدين أول ذلك الآية الكريمة ((اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا )) ، تمّت النعمة عليكم فلم يبق هناك مجال لأحدٍ أن يتبع عبادة يزداد بها تقرباً إلى الله كيف وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ما تركت شيئاً يقربكم إلى الله إلا وأمرتكم به ) فأنت تأتي بعبادة تدّعي أنها تقربك إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لم يأت بها ، هذا مما يلزم أن يتبع في الدين وليس كذلك بالنسبة للذي جاء بأمر جديد لكن لا بقصد زيادة التقرب إلى الله وإنما بقصد أن هذا الأمر الذي حدث يؤدّي إلى أمر مشروع للنفس ، وأنا كنت ذكرت في أيام قليلة الفرق بين البدعة وبين المصلحة المرسلة ، ذكرت هذا الفرق ليس بهذه الصراحة لكن لتوضيح أن ليس كل ما يحدث بعد الرسول عليه الصلاة والسلام يحكم عليه بالبدعة المذمومة في الإسلام ، وإنما الذي يحدث بعد الرسول بقصد زيادة التقرب إلى الله عز وجل فهو الذي ينطبق عليه كل النصوص السابقة المشار إليها ومنها قوله عليه الصلاة والسلام ( كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ) .
ذكرت من الأمثلة إخراج عمر بن الخطاب اليهود من خيبر ، لا شك أن هذا الإخراج حدث بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام وبعد وفاة أبي بكر رضي الله عنه وبعد مدة من خلافة عمر بن الخطاب فهل هذه بدعة في الدين ؟ الجواب لا ، لأن البدعة في الدين هو أمر محدث بقصد الزيادة في التقرب إلى الله تبارك وتعالى ، أما شيء حدث لا يقصد به زيادة التقرب إلى الله وإنما يقصد به تنفيذ حكم من أحكام الله منصوص على هذا الحكم في كتاب الله ، فهنا تجدون أن عمر بن الخطاب لما أخرج اليهود من خيبر إنما نفّذ شرطاً من شروط النبي صلى الله عليه وسلم حينما صالح اليهود على ألا يخرجوا من خيبر وأن يظلوا فيها ... ويعملوا فيها ولهم الشطر مما تنبته الأرض وللرسول عليه الصلاة والسلام الشطر الأخر ،كان مما شرط الرسول عليهم قال ( إنما نقرّكم فيها ما نشاء )، هذا الشرط ما هو أبدي وإنما بما يبدو لنا نحن المسلمين، نقرّكم فيها ما نشاء، فلما بدا لعمر بن الخطاب أن المسلمين لم يعودوا بحاجة إلى استغلال علم اليهود في الحرث والزرع والضرع استغنى عنهم ... تماماً كما هو واقع في كثير من البلاد الإسلامية اليوم يضطرون إلى أن يستجلبوا موظفين أجانب وقد يكونوا كفاراً لكي يستفيدوا منهم في إدارة شؤون البلاد والتوسع في خيراتها والنواحي الزراعية والاقتصادية وغير ذلك ،فإذا ما صار أهل البلاد أنفسهم على علم بذلك استغنوا عن هؤلاء وقيل لهم ارجعوا من حيث أتيتم .الشاهد أنه لما عمر أخرج اليهود من خيبر هذا أمر جديد ما وقع في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام ، لكن هذا الأمر الجديد له أصل أصيل في الشرع وهو الشرط الذي ذكرناه آنفاً لما شرطه الرسول عليه الصلاة والسلام على اليهود ، فالمصلحة المرسلة هي صحيح سبب حادث جديد ولكن يؤدي إلى تحقيق مصلحة مشروعة بالنص ، ومع ذلك فهنا تفصيل دقيق وهو ما ينبغي أن يعرفه طلاب العلم .
المصلحة التي جدّت وتحقق فائدة شرعية منصوص عليها في الشرع ، مثلاً الطائرة هذه والسيارة هذه أشياء لم تكن في الزمن السابق فإذا استعملها المسلم في تحقيق هدف شرعي إسلامي فهذا يدخل في باب المصالح المرسلة ، يعني المصالح المتروكة للزمن ولكل زمن مبتكراته ومخترعاته ، فإذا المسلمون اليوم حرصوا على اقتناء السيارات والطائرات لا أقول فقط لقضاء الحاجات الضرورية والكمالية لكن أقول للتقوّي ليتمكن المسلمون على صد عدوان الكفار ، فهل حينئذٍ نقاتل الكفار بالآلات القديمة التي ورثناها عن آبائنا وأجدادنا بدعوى أن هذه الوسائل الجديدة هي من محدثات الأمور ؟ الجواب لا ، هذه الوسائل الجديدة لا تدخل في محدثات الأمور ، لأن محدثات الأمور المذمومة شرعاً هي التي تكن في الدين ، أما هذه الوسائل فهي أمور دنيوية ولكن نحن نأخذ بها خاصة في موضوع التمكن على أعداء الله في كل بلاد الله، وحينذاك يدخل هذا النص لتحقيق أمر من أوامر الله ألا وهو قوله تبارك وتعالى (( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ )). إذن إذا أخذنا بهذه الأمور المحدثة اليوم والوسائل تقرّبنا ضد خصومنا وأعدائنا نكون أخذنا بمصالح مرسلة لأنها تحقق أمراً مشروعاً وهو التقوّي على أعداء الله .
ننزل درجة ، الآن نحن مع الأسف الشديد متأخرين جداً في هذا المجال من حيث الاستعداد للقوة المعروفة اليوم لملاقاة ومجابهة أعداء الله ، يجوز لنا أن نأخذ بهذه الوسائل من باب أن الله عزوجل أنعم على عباده حين قال (( وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ )) فالدّواب كانت معروفة لكن خلق لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ فهي حينئذٍ السفن في البحار كأنها الجبال الشامخة تمشي في البحار وتخوض فيها، واليوم ما شاء الله تجد الباخرة كأنها بلدة وسط البحر وتجد الطائرة كأنها قصر يطير في السماء وهكذا
هذه الوسائل أشار الله عز وجل إليها أنها من فضل الله تبارك وتعالى على عباده بها ولذلك منّ عليهم بقوله (( وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ )) وفي آية أخرى تتميماً للتذكير بالنعمة (( ويخلق ما لا تعلمون )) فهذه الطائرة التي نراها اليوم بل السيارة هي مما خلق الله عز وجل مما لا يعلمها أسلافنا الأوَل .
إذن من جملة اتخاذ أي وسيلة وليس قصداً لزيادة التقرب إلى الله ، أي وسيلة حدثت يجوز أن نأخذ بها وأن نتبناها لنا كأمر جائز في شريعتنا ما دامت تحقق أمراً مشروعاً للناس، لكن مع ذلك هذه الوسائل إذا حدثت فيما بعد لا يجوز اتخاذها ولا إدخالها في باب المصالح المرسلة إلا بشرطين اثنين :
أولاً : ألا يكون ... من هذه الوسيلة كان ممكن الأخذ بها في عهد الرسول ومع ذلك فالرسول عليه الصلاة والسلام ما أخذ بها ولا تبنّاها ، مثاله : اليوم هناك ضرائب في كل البلاد الإسلامية مع الأسف تفرض على الشعوب المسلمة بحكم أن مصلحة الدولة تقتضي فرض هذه الضرائب التي تسمى بلغة الشرع بالمكوس ومنها الجمارك، يقال هذه وسيلة حدثت بعد الرسول عليه الصلاة والسلام ولا يبرر التمسك بها أن المقصود بها تحقيق هدف لصالح الأمة لأننا نقول هذه الوسيلة كان من الممكن أن يأخذ الرسول صلواته الله عليه وسلامه بها لما كانت الشريعة تنزل عليه تترا ومع ذلك اكتفى بفرض الزكاة لإنماء بيت مال المسلمين واكتفى بأسباب أخرى منها المغانم التي يغنمها المسلمون بحروبهم للكفار وغير ذلك من الأشياء التي تفصّل في كتب الحديث وكتب الفقه .
فاتخاذ وسيلة اليوم لنفس تحقيق الغرض وهو مصارف الدولة لإنماء خزينتها بالمال مادامت الوسيلة كان من الممكن اتخاذها في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام ولم يتخذها فيكون اتخاذها لنفس الغرض إحداثاً في الدين .
ومثال أقرب وأقرب من هذا بكثير ولعل كثير من الحاضرين لم يسمعوا به :
كلنا يعلم أن الزكاة المفروضة كانت تجمع في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام بموظفين يعرفون بالسُّعاة ويعرفون اليوم بالجبُاة أما قديماً فيسمى من يجبي الأموال الساعي وجمعهم سعاة يطوفون على أصحاب البقر والمواشي وأصحاب الأراضي التمر والقمح والشعير فيجمعون كل شيء من هذه الأجناس في الموسم ويسوقونها إلى بيت مال المسلمين وهناك نظام دقيق جداً مفصل كل التفصيل في كتب السنة وكتب الحديث ، لكن لعل الكثير من الحاضرين لا يتنبهون أن هؤلاء السعاة ما كانوا يجمعون زكاة النقدين وما كانوا يفحصون خزائن الأغنياء ، ... هذا لم يكن في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام بخلاف زكاة المواشي والزروع فكان لها موظفون مختصّون في جمعها من الذين وجبت الزكاة عليهم فيها ، أما زكاة النقدين زكاة الذهب والفضة فهذا قد وكل الشارع الحكيم أمرها إلى المسلم الغني فهو الذي يكلف بإخراج هذه الزكاة دون أن يكون عليه مطالب أو رقيب أو حسيب ، فلو أن دولة ما اليوم أرادت أن تجمع زكاة الأموال زكاة النقدين كما كانوا من قبل في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام يجمعون زكاة المواشي والزروع بواسطة السعاة يكون هذا ابتداع في الدين لأن النبي صلى الله عليه وسلم الذي شرع للمسلمين أن يعطي زكاة للسعاة الموظفين الذين يذهبون إلى أصحاب تلك الأموال فيجمعون منهم، هذا الرسول عليه السلام الذي شرع من الله تبارك وتعالى هذا الجمع بهذه الطريقة ما شرع لهؤلاء السعاة أن يجمعوا زكاة النقدين ، فالذي شرع ذاك ما شرع هذا فإذ جئنا نحن وشرعنا من عندنا وسيلة جديدة كان المقتضي قائم لتشريعها في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام ومع ذلك ما شرعه يكون هذا من الابتداع في الدين .
ومثال أخير وبذلك أظن نوفي مصطلح المرسلة أنها كل وسيلة تؤدي إلى تحقيق أمر شرعي لكن بشرط أن هذه الوسيلة تكون حدثت فيما بعد ولم يكن المقتضي للأخذ بمقتضاها قائم في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام .
ومثل أخير ذكرته بمناسبة قريبة ... بهذا السبب وهو الأذان لصلاة الاستسقاء أو لصلاة الكسوف هذا لا يشرع لأن الرسول عليه الصلاة والسلام صلى صلاة الكسوف وما أذّن ، كان المقتضي لجمع الناس بطريقة الأذان موجوداً في عهد الرسول ومع ذلك ما شرع لهم هذه الوسيلة مع أنها مشروعة بالنسبة للصلوات الخمس ، وبالتالي فلا يشرع لها أي وسيلة أخرى كما وقع لي حينما كنت في الشارقة يوم خسف القمر ، ونحن غرباء عن تلك البلدة في نصف الليل تقريباً نسمع ضوضاء وغوغاء حولنا وما نفهم لغتهم جيداً، بعد ذلك أحد عائلتي لفت نظري ونحن كنا في الغرفة أن القمر قد انخسف حينئذٍ تنبهنا بأن الأمر عبارة عن تكبير وتهليل من مختلف النواحي فقلنا في أنفسنا أن هذا طبعاً لم يكن في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام وإنما كان يجمع الناس لمثل هذه الصلاة بمثل قول المؤذن " الصلاة جامعة الصلاة جامعة "، مع ذلك قلت هذه الوسيلة التي رأيناها هناك في الإمارات خير من الوسيلة التي نعرفها في بلادنا السورية هناك تسمع ضجيجاً عجيباً والضرب أي الطرق على الأواني النحاسية الأواني التي يطبخون عليها يضربون عليها ضربا ... جدا فتسمع ضججي في البلد كله هذا أثر من آثار التقاليد الخرافية المحضة لأنه من السائد عندنا هناك أن الكسوف سببه قالوا إن الحوت يفتح فاه فيحاول أن يبتلع القمر وبذلك فهم يخوفون هذا الحوت المزعوم بمثل ذلك الضرب المزعج.
فقلت أنا على كل حال لا يشرع لصلاة الكسوف الأذان الذي لا يوجد أحسن منه والرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعله .
فإذن المصلحة المرسلة هي كل سبب يؤدي إلى تحقيق أمر شرعي منصوص عليه في الكتاب والسنة لكن هذا السبب لم يكن المقتضي للأخذ به قائما في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام ،فإذا كان قائماً والرسول لم يتبنّه فحينئذٍ لا يجوز لنا أن نتبنّاه .