إذا كان النسخ لا يصح إلا من قبل الشارع نفسه فهل يصح في الاجتهاد تغيير ما لم ينسخه الشارع من الأحكام ومتى يكون ذلك؟ حفظ
الشيخ : يقول في السؤال الثاني يقول السائل الأول إذا كان النسخ لا يصح إلا من قبل الشارع نفسه فهل يصح في الاجتهاد تغيير ما لم ينسخه الشارع من الحكام ومتى يكون ذلك ؟
مما هو مجمع عليه عند علماء المسلمين أن النسخ لا يمكن أن يقع بعد استقرار الأحكام الشرعية وذلك لا يظهر يقيناً إلا بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام ، فأي حكم انتقل الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى واستقر ذلك الحكم على وجه فلا يمكن أن ينسخ هذا الحكم بعده عليه الصلاة والسلام بوجه من الوجوه ولعلنا نذكر جميعا أن معنى النسخ هو إبطال الحكم وإلغاؤه من أصله ، وليس من هذا القبيل ما قد يشير إليه السائل في قوله فهل يصح في الاجتهاد تغيير ما لم ينسخه الشارع من الأحكام ومتى يكون ذلك ؟
لا يمكن أن يكون نسخ حكم استقر أنه حكم ثابت كما ذكرنا واستمر ذلك إلى آخر رمق في حياته الرسول عليه الصلاة والسلام ، لا يمكن لمثل هذا الحكم أن ينسخ بأي وجه من الوجوه ، لكن الذي يمكن أن يقع في ظروف وملابسات خاصة توقيف حكم من الأحكام الثابتة غير المنسوخة توقيفه إلى أمد معين بسبب ظروف أحاطت بالناس فأوجبت تأخير ذلك الحكم إلى زمن معين . مثلا جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه الطلاق الثلاث الذي كان في عهد الرسول عليه السلام طلقة واحدة وكذلك في عهد أبي بكر الصديق وكذلك في شطر من خلافة عمر نفسه بعد ذلك جعل عمر رضي الله عنه هذا الطلاق ثلاثا فمن طلق ثلاثا في عدة واحدة اعتبره نافذا ثلاثا على خلاف ما كان الأمر عليه في عهد الرسول عليه السلام وفي عهد أبي بكر وفي شطر من خلافة عمر نفسه كما ذكرنا .
يذهب بعض الفقهاء المتأخرين الذين رأوا جمهور علماء المسلمين تبنوا هذا الحكم وكأنه حكم لازم وثابت إلى يوم الدين ، ورغم أن توقيع عمر للطلاق بلفظ ثلاثاً ثلاثا لا يمكن أن يكون إلا ولديه ناسخ ، يقولون هذا لأنه لا يجدون في نصوص السنة فضلا عن نصوص الكتاب ما يمكنهم أن يجعلوا ما فعله عمر هو حكم ثابت قبل الرسول عليه الصلاة والسلام ، لا يجدون إلا أن يقولوا أن عمر ما صار إلى هذا إلا ولديه نص ناسخ للحكم السابق مع أن الطلاق بلفظ الثلاث يعتبر طلقة ، ولعل الحاضرين يفقهون ما معنى طلاق بلفظ الثلاث وأنه يعتبر ثلاثا في زمن عمر ولم يكن كذلك في زمن الرسول عليه السلام وأبي بكر وشطر من خلافة عمر . كأني أرى من الضروري أن أقف قليلا هنا لأبين الفرق الذي يخفى على كثير من الناس اليوم .
الأصل في الطلاق الشرعي أن من يريد أن يطلق زوجته طلاقا شرعيا يُشترط في هذا الطلاق أن تتوفر فيه شروط عديدة ولسنا الآن بصددها وإنما أذكر هذا الشرط الواحد وهو ألا يجمع الطلاقات الثلاث التي قال الله فيها (( الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ )) الطلاق مرتان : في كل مرة ، إمساك بمعروف يعني بعد ما طلق أو تسريح بإحسان ، فإن طلقها في الثالثة فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره . هذا من شروط الطلاق الشرعي أن يطلق ثم يفكر هل يمسكها يرجعها إلى نفسه أم يخلي سبيلها والله يعوضه خيرا منها ويعوضها خيرا منه .
جعل الله عز وجل له ساحة تفكير وهي العدة ، فالمرأة بعد أن طلقها زوجة فعدتها ثلاثة قروء أي ثلاثة أشهر وعشرة أيام تقريبا فيفكر الرجل في هذه المرأة يعيدها أم لا يعيدها فإذا انتهت العدة أصبحت المرأة حرة وليس له سبيل على إرجاعها و قبل العدة فيستطيع أن يعيدها إليه بدون نكاح ولكن تحسب عليه طلقة .
ثم أعاد النظر فرأى أن هذه المرأة لا تستقيم معه فطلقها طلقة أخرى ثانية بعد أن أعادها إليه وحسبت عليه الطلقة الثانية ، وهكذا كل طلقة فيها عدة فإما يخلي سبيلها فتصبح حرة وإما أن يعيدها إليه في أثناء العدة فتحسب عليه الطلقة الأولى والثانية وهكذا ، فإذا استعجل الزوج الأمر فقال لزوجته طلقتك ثلاثا ، روحي أنت طالق أنت طالق أنت طالق ، هنا نقطة الخلاف هل هذا الطلاق بمعنى حرمت عليه وبانت منه بينونة كبرى فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره أم هذا يعتبر طلقة واحدة لأنه عدة واحدة وليس ثلاث عدات فكل طلقة لا بد أن يكون لها عدة في الطلاق الشرعي ، كان الأمر في عهد الرسول عليه السلام وفي عهد أبي بكر وفي شطر من خلافة عمر أن من قال لزوجته أنت طالق ثلاثا كأنه قال لها أنت طالق أي طلقة واحدة أي أن لفظة الثلاث تعتبر لفظة واحدة لأن الطلاق الشرعي مقرون بعدة ، لما قال أنت طالق ثلاثا كم عدة ؟ واحدة إذا هذه طلقة واحدة . ويضرب لهذا مثلا ابن تيمية مثلا جميلا فيقول مثل الذي يقول لزوجته أنت طالق ثلاثا من الناحية الشرعية كمثل الذي يقول سبحان الله ثلاثا وثلاثين ، هل سجلت عليه ثلاثا وثلاثين تسبيحة أم تسبيحة واحدة ؟ فالجواب تسبيحة واحدة لماذا ؟ لأنه لم يقل سبحان الله سبحان الله سبحان الله حتى وصل إلى ثلاثا وثلاثين وإنما قال سبحان الله ثلاثا وثلاثين . إذن ثلاثا وثلاثين كلمة لغو هنا لأنها ليست كالذي عدّ فعلا وقال سبحان الله سبحان الله سبحان الله حتى وصل إلى ثلاثا وثلاثين .
الخلاصة : الأمر كان في عهد الرسول عليه السلام أن من قال لزوجته أنت طالق ثلاثا فهي طلقة واحدة ، كذلك في عهد أبي بكر كذلك في شطر من عهد عمر ثم بدا لعمر رأيٌ وهو أنه قال إن الناس قد استعجلوا أمرا كانت لهم فيه أناة ، يعني صبر وطول بال فأرى أن أجعلها عليهم ثلاثا ، هذا الحكم اجتهاد من عمر بن الخطاب صدر منه لأمر عرض وهو ما أشار إليه بالقول إن الناس قد استعجلوا أمرا كانت لهم فيه أناة ، هذا الاستعجال لم يكن في زمن الرسول ولم يكن في زمن أبي بكر ولم يكن في الشطر الأول من خلافة عمر أو كان وما تنبه له عمر فحين تنبه قال أرى أن أجعلها عليهم ثلاثا فجعلها ثلاثا ، هذا الحكم من عمر لا ينسخ الحكم السابق والذي حكم به عمر نفسه ، كيف يحكم عمر في الشطر الأول من خلافته بأن من قال لزوجته أنت طالق ثلاثا هو طلقة واحدة لا بد أنه حكم بذلك بمثل ما حكم سلفه الخليفة الأول أبو بكر الصديق ، وأبو بكر ما حكم بذلك إلا لأنه تلقى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم . إذن يستحيل أن يقال عمر نسخ هذا الحكم بل يستحيل أن يقال أن عمر كان عنده دليل ينسخ هذا الحكم لأنه لو كان عنده لماذا حكم قبل ذلك بخلافه ، وإذا افترضنا أنه كان غافلا عنه كيف نفترض أنه غفل عنه هو والصحابة جميعا في خلافته الأولى ثم كيف غفل عن ذلك أبو بكر الصديق ثم كيف فارق الرسول عليه السلام الصحابة جميعا وهذا الطلاق إنما هو طلقة واحدة .
لا يمكن إذن أن يلغى حكم محكم ثابت عند وفاة الرسول عليه السلام باجتهاد مجتهد مهما كان هذا المجتهد عالما كعمر وإنما قد يرى هذا المجتهد أن يوقف الحكم السابق لأنه عرض لم يكن عارضا في السابق وقد عرفتم ماذا عرض وهو قول عمر قد لهم فيه أناة فاستعجلوا الأمر أي ما صبروا فأصبح الشخص يطلق ويجمع الطلاق الثلاث وهذا خلاف السنة فتأديبا لهم وحملا لهم على اتباع السنة رأى أن يجعل الطلاق بلفظ ثلاثاً ثلاثا .
من هذا القبيل تماما وبعض الكتاب المعاصرين اليوم ممن عندهم الفقه المسمى بالفقه المقارن وليس عندهم الفقه الذي ذكره الرسول عليه السلام في الحديث الصحيح ( من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ) لأن هذا الفقه هو التفهم للكتاب والسنة وجل إن لم نقل كل الذين يدرسون اليوم الفقه المقارن مع الأسف الشديد لا يدرسونه استنادا على الكتاب والسنة لأن باب الاجتهاد مغلق عندهم وإنما يدرسون على ضوء ما جاءهم من أقاويل ثم يكون المرجح عندهم ما يسمونه بمراعاة المصلحة بمراعاة ما يلائم الناس اليوم بسبب ما يعيشون فيه من أجواء لم يكن من قبلهم يعيشونها فهم يأخذون من الأحكام ما يناسب هذا الزمان ولا يأخذون من تلك الأحكام التي اختلف فيها العلماء ما قام الدليل الصحيح من الكتاب والسنة على ترجيحه . من هذا القبيل تمسك البعض في سبيل تأييد القاعدة التي أيضا يساء استعمالها أشد الإساءة وهي قاعدة أن الأحكام تتغير بتغير الزمان والمكان .
يحتجون على هذه القاعدة برفع عمر بن الخطاب لمصرف المؤلفة قلوبهم من الزكاة يحتجون على ذلك بفعل عمر وعمر أوقف هذا المصرف وقال بأن الله عز وجل لما فرض للمؤلفة قلوبهم نصيبا من الزكاة إنما كان ذلك والإسلام بحاجة إلى دعم ونصرة وتأييد أمّا وقد نصر الله الإسلام في الأرض فلسنا بحاجة إلى هؤلاء المؤلفة قلوبهم ، كأن عمر رضي الله عنه يفهم أن نصرة المؤلفة قلوبهم كانت العلة فقط هو حاجة الإسلام إلى دعم وإلى دفع أذى بعض الناس ممن لا يزالون بين الإسلام وبين الكفر وهم المؤلفة قلوبهم ، ولكن الحق كما تدل عليه السيرة النبوية وكما ذهب إلى ذلك كثير من المفسرين أمثال الحافظ ابن كثير أن مصرف المؤلفة قلوبهم ليس لهذه الغاية فقط بل استجلاب أيضا قلوب الناس للإيمان والإسلام ولو لم نكن نحن نخشى الضرر منهم والتأثير على ضعفاء القلوب من المسلمين فهم أعني بعض الكتاب أو المتفقهة في العصر الحاضر يحتجزن بفعل عمر هذا بأن الزمان تتطلب تغيير هذا الحكم ، ولذلك فهذا رأي لعمر ونحن إن جاز لنا أن نخطّئ عمر فإنما نقول أنه فهم الآية في فهم محدود ولا يجوز أن نقول أنه نسخ الحكم الذي كان مستقرا- حاشا - أما أن مصرف زكاة المؤلفة قلوبهم فهذا في منتهى حكمة التشريع للمسلمين، ونحن الآن نشعر تماما بحاجة الدولة المسلمة لو وجدت إلى صرف نسبة معينة من أموال الزكاة إلى ناس كفار لم يسلموا بعد أن تصرف إليهم أموال لإستجلاب قلوبهم إلينا كما قال الشاعر :
أحسن للناس تستعبد قلوبهم *** فطالما استعبد الإنسان إحسان.
نحن بحاجة من باب أولى أن ننفق على ناس أسلموا في بلاد الغربة في بلاد الكفر فنقويهم ونأخذ بعددهم بهذه الأموال، فكيف يقال الإسلام ليس بحاجة الإسلام دائما بحاجة لتكثير سواده بكل طريق مشروع لا سيما ما نص عليه ربنا عز وجل في القرآن الكريم هذاما يتيسر من الجواب على هذا السؤال .