شرح قوله عليه الصلاة والسلام( .. يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه...). حفظ
الشيخ : ( يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفّيكم إياها فمن وجد خيرًا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ) ، هذا الحديث أو خاتمة هذا الحديث في الواقع يربط سعادة الإنسان وشقاوته بعمله، فيقول ( يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم ) ، أسجِّلها عليكم فمن وجد في عمله خيرًا فليحمد الله عز وجل الذي وفّقه لهذا الخير، وإذا وجد غير ذلك يعني مما هو شرٌ فلا يلومن إلا نفسه، لا يلومن إلا نفسه حصرٌ واضح من حيث التعبير العربي أي لا يلوم القدر مثلاً لا يقول إنه الله هيك كتب لي السعادة الشقاوة التعاسة الفقر ال ال إلى أخره، إذا وجد من أعماله شيئًا لا يُعجبه لأنها لا ترضي الله تبارك وتعالى فبمن يتوجّه باللوم؟ على من يتوجّه باللوم؟ على نفسه لأنه كما قال تعالى (( ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ )) [أل عمران: 182]، فإذًا فيما يتعلق بسعادة الإنسان وشقاوته لا يجوز للمسلم أن يعود في ذلك بالنظر إلى قضاء الله وقدره، لأن قضاء الله وقدره إنما هو شأن من شؤون الله تبارك وتعالى، أما سعادتنا نحن وشقاوتنا فإنما كل ذلك عائد إلى أعمالنا، ولذلك قال تعالى ( إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم فمن وجد خيرًا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ) .
فالأعمال إذًا هي سبب السعادة وهي سبب الشقاوة ولذلك قال تعالى كما ذكرنا في درسٍ مضى (( ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ )) [النحل: 32]، (( وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِما كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ))[الزخرف: 72].
وهنا يرد حديث يتوهّم كثيرٌ من الناس أنه يعارض هاتين الأيتين الدالتين على أن دخول الجنة إنما هو بالعمل الصالح وأن السعادة هو بالعمل الصالح وضِدها الشقاوة بالعمل الطالح، ذلك الحديث الذي أشير إليه هو قوله عليه الصلاة والسلام ( لا يدخل الجنة أحدكم بعمله ولكن بفضل الله ورحمته ) ، قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ ( قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضله ورحمته ) ، فيبدوا لبعض الناس أن هذا الحديث يخالف الأيتين السابقتين فإنهما تصرّحان أن دخول الجنة بالأعمال، بينهما هذا الحديث يصرح بأن أحدًا منا لا يدخل الجنة بعمله، فكيف هذا؟ حتى الرسول عليه السلام لا يدخل الجنة بعمله، التوفيق بين الأية أو الأيتين وبين هذا الحديث هو أن نعلم تعبيرًا علميّا عند بعض العلماء المحققين، هذا التعبير العلمي هو أنهم سمّوْا الباء بالأية (( ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ )) ، باء السببية وسمّوْا الباء في الحديث النبوي ( لا يدخل الجنة أحدكم بعمله ) ، بالباء الثمنية وبملاحظة الفرق بين الباءين يزول الإشكال وتوضيح ذلك، ادخلوا الجنة بسبب عملكم هذا معنى الأية، لا يدخل أحدكم الجنة بعمله أي بثمن عمله، والنتيجة أن أعمالكم لا تصلح ثمنًا لدخول الجنة، معنى الحديث أن أعمالكم لا تصلح ثمنا لدخول الجنة، ولكن أعمالكم هي سببٌ لدخول الجنة، تقريب هذا لو أن رجلاً سليمًا فتيّا عنده جنة بستان عظيم جدًا يعلن أن من أراد أن يدخل هذه الجنة أي البستان وأن يأكل مما فيها من كل فاكهةٍ زوجان فليدفع فلس وليتمتع بدخول الجنة والبقاء فيها ما شاء، فهل هذا الفلس يكون ثمن دخول الجنة؟ لا، ولكن صاحب الجنة ... السبب المصوِّغ للناس، أن يدخلوا الجنة هو هذا الفلس الواحد، فهذا معنى قول العلماء أن الباء في الأية هي باء السببية والباء في الحديث هي باء الثمنية، فبناء على الباء السببية قال ادخلوا الجنة وبناء على الباء الثمنية قال ( لا يدخل أحدكم الجنة بعمله ولكن بفضل الله ورحمته ) ، هذا التفصيل أمر واضح وبيّن باء الثمنية، وهناك معنى ثاني وبه أيضًا يُوفَّق بين الأية والحديث.
المعنى الثاني وهو الذي يذكره جُل الشرّاح للحديث ( لا يدخل أحدكم الجنة بعمله ولكن بفضل الله ورحمته ) أي أنه لولا فضل الله ورحمته لما كان عملكم الصالح الذي أدخلكم الجنة، هذا تفسير أخر في سبيل التوفيق بين الأية والحديث، الله يقول (( وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِن اللَّهِ )) [النحل: 53]، وأي نعمة أعظم من إيمان العبد بربه وإطاعته له، لا شك فإذا كان الله يقول (( وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِن اللَّهِ )) ، ومن أعظم النعم من الله على عباده عمله الصالح الذي به يدخل الجنة، إذًا دخول الجنة كان أصله فضل الله ورحمته بعباده لذلك لا يستعجلن أحدٌ فيقول إن الحديث يُعارض الأية أبدًا، (يرد الشيخ السلام) دائمًا الحديث لا يعارض الأية إطلاقًا وإنما يأتي بشيء جديد وبشيء إضافي عما تضمنته الأية، كما ترون ها هنا فالأية أسّست أن دخول الجنة بالأعمال الصالحة والغرض من ذلك هو إبطال الجبرية، والغرض من الأية هو الرد على المتواكلين على ما قدّر الله في السابق من سعادة أو شقاوة فقد يقول القائل هما أمران اثنان لا ثالث لهما إما السعادة وإما الشقاوة ومادام أن السعادة فُرِغَ ومادام أن الشقاوة فرغ منها فلماذا نعمل؟ نتكل على القدر، فتأتي هذه الأية في جملة النصوص الكثيرة لإبطال هذا الاتكال الباطل على القضاء من سعادة أو من شقاوة فتقول (( وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ )) ، فإذًا العمل الصالح هو سبب دخول الجنة فمن أراد أن يدخل الجنة لابد من أن يأتي بهذا السبب فإذا أمن الإنسان بهذه الأية أولًا وفهِم معناها ثانيًا بطل تواكله على القضاء والقدر على السعادة أو الشقاوة لأنه إن كان يريد أن يدخل الجنة فيجب أن يُقدِّم السبب الذي ربط الله به دخول الجنة في هذه الأية، فهذا هو الغرض من الأية الكريمة التي تقول إن دخول الجنة بالأعمال الصالحة.
أما غرض الحديث فهو شيء أخر، غرض الحديث الذي يقول ( لا يدخل الجنة أحدكم بعمله ) يريد التفات نظر العبد إلى حقيقةٌ أخرى هي غير الحقيقة الأولى، الحقيقة الأولى تقول لابد من العمل الصالح لدخول الجنة، إذًا لا تواكل على ما قد كُتِب للإنسان من سعادة أو شقاوة، لأنه إن كان كُتِبت عليه السعادة فالسعادة المقصود بها العمل الصالح، ولذلك قال عليه السلام ( اعملوا فكلاً ميسرٌ لما خلق له ) ، فإن كان من أهل السعادة فسيعمل بعمل أهل السعادة وإن كان من أهل الشقاوة فسيعمل بعمل أهل الشقاوة فإذا عمل الإنسان بعمل أهل الشقاوة عَرَف أنه سوف لا ينال الجنة لأن الجنة لها سبب في الدخول إليها وهو العمل الصالح، فهذه الحقيقة التي تحدّث عنها القرأن كفى وشفى من هذه الحيثية، حيثية إدخال التواكل على القضاء والقدر.
أما الحديث فيعالج القضية الأخرى، قضية مستقلة منفردة تمامًا عن القضية الأولى، الحديث يُلفت النظر إلى أن هذا العمل الصالح الذي به ستدخل الجنة إذا حُكِم به لك هو من فضل الله عز وجل فلا تغتر بنفسك " لا تقل أنا وأنا " أنا أعمل وأنا مؤمن وأنا فعلت، فإنه كما قال تعالى (( وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِن اللَّهِ ))[النحل: 53].