شرح قول المصنف في كتاب الترغيب و الترهيب " وعن معاذ رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله أوصني قال ( اعبد الله كأنك تراه واعدد نفسك في الموتى واذكر الله عند كل حجر وعند كل شجر وإذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة السر بالسر والعلانية بالعلانية ).
رواه الطبراني بإسناد جيد إلا أن فيه انقطاعا بين أبي سلمة ومعاذ. حفظ
الشيخ : إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله (( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون )) (( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة و َخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا )) (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا )، أما بعد فيقول المصنف رحمه الله في الحديث الثامن عشر وعن معاذ قال " قلت يا رسول الله أوصني " قال ( اعبد الله كأنك تراه واعدد نفسك في الموتى واذكر الله عند كل حجر وعند كل شجر وإذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة ، السر بالسر والعلانية بالعلانية ) رواه الطبراني بسندٍ جيد إلا أن فيه انقطاعًا بين أبي سلمة ومعاذ هذا الحديث لا ينافي رمزنا له بالحسن، ما ذكره المصنف رحمه الله من الانقطاع في إسناده لأننا نعني أنه حسنٌ بغيره كالحديث السابق في الدرس الماضي من حديث ابن عمر . هنا يطلب معاذ رضي الله عنه من نبيه صلى الله عليه وسلم أن يوصيه فكان من وصيته إياه قوله عليه السلام ( اعبد الله كأنك تراه )، وهذا غاية المنزلة التي يستطيع العبد أن يذكر الله عز وجل وأن يراقبه، أن يذكر الله ويراقبه بحيث أنه دائمًا يلاحظ أنه يُرى، لأن الله عز وجل لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وهذا الحديث أو هذه القطعة من هذا الحديث هو مشهور بإسناد أصح من هذا في الحديث الثابت في الصحيحين من حديث أبي هريرة وفي صحيح مسلم وحده من حديث ابن عمر ذاك الحديث المعروف بحديث جبريل عليه السلام حينما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في سورة رجل لا يعرفه أحد من الصحابة مع أنه ليس عليه آثار السفر فإنه عليه ثياب بيض وليس بأشعث ولا أغبر ولكنهم قالوا لا يعرفه أيضًا منا أحد فقد جمع أوصافًا غريبة متناقضة، لأنه لو كان غريبًا لظهرت عليه آثار السفر من القتار والغبار والشعثة ونحو ذلك، ولو كان مقيمًا لعرفه الصحابة فهو رجل غريب . الشاهد أن في الحديث وهو حديث طويل ذكرناه أكثر من مرة لمّا سأله عليه الصلاة والسلام عن الإحسان قال ( الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) هذه المرتبة العليا من مراتب عبادة المسلم لربه عز وجل، ففي ذاك الحديث السؤال الأول من ذاك أنه رجل غريب وهو جبريل كما ذكرنا بناءًا على آخر الحديث ، سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإسلام هو العمل بالإسلام ظاهرًا، ولكن هذا الإسلام لا يفيد صاحبه إلا إذا اقترن معه الإيمان، وحينما أقول أنا وغيري لا يفيد صاحبه إلا إذا اقترن بالإيمان فنعني الإفادة في الآخرة، أي أن ينجو بإسلامه الذي اقترن به الإيمان فهو لا يستفيد بالإسلام إلا مقرونا بالإيمان، لكن لو لم يقترن بالإيمان فهل يفيد صاحبه إسلامه شيئًا ؟ الجواب في الدنيا قد يفيده، وهذا النوع يعتبر في لغة الشرع منافقًا، لأنه يُظهر الإسلام ولكنه يبطن الكفر لأنه لم يقترن مع إسلامه إيمانه، فماذا يستفيد ؟ أن ينجو بنفسه وماله كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح المتواتر ( أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم ) إذًا هذا الذي استفادوه، إذا لم يقترن مع إسلامهم الإيمان ( فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم وحسابهم على الله ) يا ترى قالوها بألسنتهم ولمّا يدخل الإيمان في قلوبهم أم قالوها مؤمنين بها في قلوبهم ؟ حسابهم في ذلك عند الله، لكنهم ماداموا أنهم قد نطقوا بكلمة التوحيد ترتب عليهم الحكم ، نقول في الحديث بقوله ( فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم وحسابهم على الله ) فالمرتبة الأولى في الدين هو الإسلام، وقد تفيد صاحبه في الدنيا ولا تفيده في الآخرة، أما الذي يستفيد من إسلامه في الآخرة فهو إذا اقترن معه المرتبة الثانية كما ذُكر في حديث جبريل حين قال له ( ما الإيمان ؟ قال الإيمان أن تؤمن بالله ... ) إلى آخره، ثم جاءت المرتبة الثالثة وليس بعدها مرتبة وهي مرتبة الإحسان ( أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) لا يمكن فيما يبدو من نصوص السنة لا يمكن للإنسان أن يرى ربه في هذه الدنيا الفانية، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الدجال الطويل أنه لمّا وصفه لأمته وذلك من نصحه عليه السلام لأمته كان من وصفه إياه أن قال ( إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور ) ثم قال عليه السلام ( وإن أحدكم لن يرى ربه حتى يموت ). فقد ذكر أوصافًا للدجال لكي يتيقن المسلم إذا ما ابتلي بخروجه في زمنه أن هذا هو دجال وليس هو الإله المعبود بحق فإن الله كامل الأوصاف كلها وهذا أعور، فهذه علامة، وعلامة أخرى أنتم ترونه، وأن أحدكم لن يرى ربه حتى يموت لذلك قال عليه السلام في بيان مرتبة الإحسان ( أن تعبد الله كأنك تراه ) لأنك لن تراه في الدنيا، وكلنا يعلم أن موسى عليه الصلاة والسلام وهو كليم الرحمن لمّا طلب من ربه عز وجل أن يراه قال (( لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني )) ولم يثبت حتى للنبي صلى الله عليه وسلم رؤيته لربه بعينه وهذه مسألة وإن كانت خلافية بين علماء التوحيد وعلماء الكلام فقد ذكر جمهورهم أن العقيدة لا تثبت إلا بنصٍ قطعي الثبوت قطعي الدلالة ونحن لا نجد النص الظني سواءً كان ثبوتًا أو دلالة يُثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلة أُسري به أو في غير تلك الليلة، ولذلك فلا يمكن للإنسان إذًا أن يرى ربه حتى يموت كما قال عليه الصلاة والسلام، وفي هذا الحديث ( وإن أحدكم لن يرى ربه حتى يموت ) تكلم العلماء في قاعدة أصولية وهي هل يدخل المتكلم في الخطاب الذي يوجهه إلى أمته أو إلى غيره، فهو عليه الصلاة والسلام يقول ( إن أحدكم لن يرى ربه حتى يموت ) تُرى هو داخلٌ في هذا الخطاب أم لا ؟ في المسألة خلاف بين علماء الأصول ونحن نقطع بأنه عليه الصلاة والسلام على الأقل داخل في هذا الخطاب بالذات، لأنه قد سُئل كما في صحيح مسلم من حديث أبي ذر " هلّا رأيت ربك ؟ " قال ( نورٌ أنّى أراه ) أي هناك حجاب، وكما جاء في حديث أبي موسى في صحيح مسلم ( حجابه النور ) فهو عليه الصلاة والسلام يشير في حديث أبي ذر السابق جوابًا عن سؤال السائل " هل رأيت ربك ؟ " قال ( نور أنّى أراه ) هناك نور يحجب ربنا عن أن يراه أحدٌ منا إذًا ( إن أحدكم لن يرى ربه حتى يموت ) يشمل أيضًا الرسول صلى الله عليه وسلم لا بدلالة هذا الحديث نفسه من الخلاف السابق ذكره، وإنما بدلالة حديث أبي ذر وغيره . إذ كان الأمر كذلك وهو أن أحدنا لا يرى ربه في هذه الدنيا فهو يجب أن يعبده مراقبًا ومتيقنًا أن ربه يراه ، فإذا كنت أنت لا تراه فهذا لا يحملك ما دمت مؤمنًا بأن الله يرى كل شيء و ... بكل شيء فلا يحملك أنك لا تراه على أن تعصيه وأن تخالفه في أوامره ونواهيه فإنه إن لم تكن تراه فإنه تبارك وتعالى يراك يقينًا. هذه المرتبة هي مرتبة الإحسان وهي كما سمعتم أعلى مراتب الإسلام والإيمان .