تتمة شرح قوله عليه الصلاة والسلام " ....يا عبادي كلكم ضالٌ إلا من هديته؛ فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائعٌ إلا من أطعمته؛ فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم....". حفظ
الشيخ : قال الله تبارك وتعالى ( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم ) هذا الحديث له علاقة بالقضاء والقدر الذي أساء فهمه كثير من المسلمين فكان فيهم من يقول بالجبر وبأن الإنسان لا يملك أن يكون سعيدا ولا يملك أن يكون شقيا وإنما هو القدر المحتوم فهذا الحديث يردّ على هؤلاء فيقول كلكم ضال إلا من هديته ...
إذًا مادام الله كما قال في القرآن الكريم (( يهدي من يشاء ويضل من يشاء )) نستسلم نحن لهذا الأمر الحقيقي الواقع أن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء فإن كنا من المهتدين فسنهتدي وإن كنا من الضالين فلا سبيل للهداية فلنقل هكذا يأتي تتمة الجملة هذه في الرد الصريح على مثل هذا الكلام المفضوح فيقول ( فاستهدوني أهدكم ) بعد أن يقرر كلكم ضال إلا من هديته يقول رب العالمين اطلبوا مني الهداية أجعلكم من المهتدين، إذًا هذا الحديث يقرر حقيقتين اثنتين، إحداهما تتعلق برب العالمين والأخرى تتعلق بالمكلفين أما القضية الأولى التي تتعلق برب العالمين هي أن الهداية هي من الله والضلال من الله (( يضل من يشاء ويهدي من يشاء )) بلا شك ولكن الناس في واقع أمرهم أو بعضهم على الأقل يؤمنون في عقيدتهم ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، صحيح ربنا يقول (( يضل من يشاء ويهدي من يشاء )) ولكن يأتي سؤال، من الذي أو الذين يضلهم الله ومن الذين يهديهم الله ؟ يأتي الجواب في القرآن وفي السنة، أما الذي يضلهم الله فقد قال الله عز وجل في حق القرآن (( يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين )) إذًا الله يضل الفاسقين أي الذين يتعمدون الخروج عن طاعة رب العالمين فهؤلاء الذين يضلهم ومن الذين يهديهم الله، تسمعون الجواب في هذا الحديث هم الذين يقبلون على الله بقلوبهم يطلبون منه أن يهديهم فإذًا الحديث يجمع بين حقيقتين اثنتين، إحداهما تتعلق بالله عز وجل وأنه فعال لما يريد يهدي من يشاء ويضل من يشاء، هذه حقيقة لا يجوز لأي مسلم أن يشك فيها أبدا لكن هذه الحقيقة تتعلق بالله عز وجل وباختصاصه ليس لنا نحن دخل في ذلك أما الحقيقة الأخرى فهي التي تتعلق بنا فهو تبارك وتعالى بعد أن يقول ( كلكم ضال إلا من هديته ) يأمرنا فيقول ( فاستهدوني أهدكم ) إذًا هذا الحديث يثبت لنا قاعدة، يؤسس لنا قاعدة وهي قاعدة الأخذ بالأسباب، قاعدة الأخذ بالأسباب حتى في الهداية وفي الضلال فهل الذي يطلب الهداية من الله فلا بد أن الله يهديه والذي يعرض عن الله عز وجل ولا يستهديه فسوف لا يهديه تبارك وتعالى وفي صدد بيان هذا جاء قوله تبارك وتعالى في سورة الليل (( فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى )) فهذه الآية أو هاتان الآيتان تفسران لنا مبدأ الأخذ بالأسباب كهذا الحديث ( فاستهدوني أهدكم ) خذوا بسبب الهداية وهو أن تطلبوا الهداية من الله دعاء وعملا لا يكفي أن تدعوه أن يهديك وأنت تعرض عنه وقد هداك كما قال تعالى (( وهديناه النجدين )) دلنا على الطريقين طريق الخير وطريق الشر ومن تمام دلالته تبارك وتعالى لنا على الطريقين أن قال لنا هذا طريق الخير فاسلكوه وهذا طريق الشر فاجتنبوه فكما أنه هذا الحديث يضع لنا سبب الهداية وذلك بأن نطلب من الله عز وجل بألسنتنا وقلوبنا أن يهدينا لما أنزل علينا من الحق من القرآن الكريم وأن نستجيب نحن بدعوته وأن نعمل بهدايته تبارك وتعالى فكما أن هذا الحديث يثبت هذا المبدأ، مبدأ الأخذ بالأسباب كذلك الآيات السابقات (( فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى )) فهؤلاء هم الذين يهديهم الله عز وجل لا العكس (( وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى )) إذا عرفنا هذه الحقيقة وهي تتلخص بأن الله يهدي من توجه إليه وطلب الهداية منه ويضل المعرضين عنه إذا عرفنا هذه الحقيقة سهل علينا أن نفهم كثيرا من الآيات وكثيرا من الأحاديث النبوية التي أحسن ما يقال بالنسبة لبعض الناس أنهم لم يحسنوا فهمها والواقع أنهم أساؤوا فهمها أشد الإساءة، من ذلك مثلا الحديث المشهور ذلك الحديث المشهور الذي يقول إن الله عز وجل لما خلق الخلق في عالم الذر قبض قبضة بيمينه فقال هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي وقبض قبضة بشماله وكما في بعض الأحاديث ( وكلتا يدي ربي يمين ) وقبض قبضة بشماله فقال هؤلاء للنار ولا أبالي يقول بعض الناس من أولئك الجبرية إذًا القضية منتهية فأنا إما من هذه القبضة قبضة اليمين أي هو من أهل اليمين من الجنة وإما من هذه القبضة الأخرى فإن كنت من أهل القبضة الأخرى فما يفيدني العمل الصالح شيئا أبدا وإن كنت من أهل القبضة الأولى فلا يضرني العمل الصالح أبدا فلماذا نعمل؟ جاء الجواب في الحديث ( اعملوا فكل ميسر لما خلق له فمن كان من أهل الجنة فسيعمل بعمل أهل الجنة ومن كان من أهل النار فسيعمل بعمل أهل النار ) إذًا أهل الجنة يدخلون الجنة بأعمالهم وأهل النار يدخلون النار بأعمالهم، وقد صرح ربنا عز وجل بشيء من هذا فقال (( ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون )) والآية الأخرى (( وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون )) ما قال بما كتب عليكم أو بمن كان من قبضة اليمين فهو من أهل الجنة ومن كان من قبضة الشمال فهو من أهل النار .
ومن باب التوضيح لهذا الحديث حديث القبضتين يوجب علينا التذكير بأن الله عز وجل (( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير )) فكثير من الناس بسبب غفلتهم أو جهلهم أو ضلالتهم يتوهم أن قبضة الله هي كقبضة عبده من عباد الله فأي إنسان اليوم من العلافين أو بياعين الحمّص فهؤلاء مثلا بيجعلوا مثلا الحمص قسمين الحمص الفحل والحمص الصغير فكيف يميزونه، كما تعلمون يضعونه في المنخل وبيتموا رايحين جايين فهالي بيسقط فيكون دليل على أنه صغير الحجم فيباع بثمن والي يبقى فايش على المنخل فهو فحل هذا من عجز الإنسان أما الإنسان لو كان أعطي صفة الله عزّ وجل ما في حاجة لها الغلبة كلها كان بيقبض قبضة من الكوم الذي فيه مثلا الحمص هذا فتخرج في قبضته هالي بدو إياها شو بدو؟ الفحلة تخرج بقبضته اليمنى شو بدو الصغيرة أو المسوسة بتطلع بيده اليسرى لكن الإنسان عاجر غير قادر أما رب العالمين فليس كذلك فقبضته صاحبها صفات الله كلها مثلا القدرة مثلا الخبرة مثلا الحكمة العدالة فالله عز وجل ذات متصف بكل صفات الكمال لا تنفصل هذه الصفات عن ذاته تبارك وتعالى في أي فعل يصدر منه عز وجل من هذه الأفعال التي صدرت منه هاتان القبضتان، فترى لما قبض من ذلك العالم الذي بيعد الملايين بلايين ملايين إلخ البشر من يوم قدّر آدم إلى قيام الساعة هذا العدد الضخم حينما قبض الله قبضة بيمينه لا شك يجب أن نتصور أن هذه القبضة مقرون بها القدرة والعلم والخبرة والعدل والحكمة وكل صفات الكمال .
إذًا لما قبض الله القبضة الأولى إنما قبض من علم الله أنه حينما يبعث في الدنيا وحينما يكون بشرا سويا وتأتيه النذر والأنبياء والرسل ويدعونه إلى طاعة الله يستجيب فهذه القبضة إنما أحاطت بهؤلاء الذين سبق في علم الله عز وجل أنهم سيستجيبون لطاعته فهذه القبضة بحكمة وبعلم وبعدالة والعكس بالعكس القبضة الأخرى إنما أحاطت بالذين سبق في علم الله عز وجل أنهم سيعصونه تبارك وتعالى فإذًا هذه القبضة ليست قضية فوضى يعني خبط عشواء كما يقال صدفة حظ نصيب هالي طلع باليمين فهو من أهل الجنة وهالي طلع بالشمال فهو من أهل النار حاشا لله عز وجل أن يكون كذلك، (( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير )) إذا كل حديث وكل آية يجب أن تفسر على ضوء الأخذ بمبدأ الأسباب، الله عزّ وجل جعل لكل شيء سببا، فلكل مسبب سبب فسبب دخول الجنة الإيمان ولذلك قال عليه الصلاة والسلام لما أرسل أبا بكر الصديق قبل حجة الوداع إلى الموسم وأمره أن ينادي بكلمات كان من هذه الكلمات وأنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة أو مؤمنة فإذًا الجنة بالسبب وهو الإيمان والعمل الصالح والنار بالسبب وهو الكفر والعمل الطالح فهنا يقول الله عزّ وجل منبها عباده بأننا فقراء وهو الغني بأننا ضعفاء وهو القوي بأننا ضالون فيجب علينا أن نطلب الهداية من الله فهو يهدينا ( يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم ) أما الإنسان يعيش الأبد الجهر كله ولا ينتصب إلى الله ولا يطلب منه هدايته ثم يقول إن كان كتب بي ... السعادة فأنا من أهل السّعادة وإن كان كتب لي ... الشقاوة فأنا من أهل الشقاوة، فهذا ضلال ليس بعده ضلال فهو ينكر مبدأ الأخذ بالأسباب ومن عجائب الناس اليوم أنهم فيما يتعلق بأمور الإيمان والإسلام هم جبريون وفيما يتعلق بمسائل الحياة والمعيشة فهم معتزلة لا يؤمنون بالقدر فهم يسعون في الأرض سعيا حثيثا ليش؟ لأنهم بيعرفوا بالتجربة أنه إذا ما خرجوا من بيته وركض وراء رزقه ما بيجيه الرزق لكن هل من هذا الرزق ورزق الجنة هذا يأتيه بخبط عشواء كما يظن إن كان من القبضة اليمنى فهو من أهل الجنة وإلا فهو من أهل النار.
هذه العقائد هي في الواقع من أعظم الأسباب التي أودت بالمسلمين إلى هذا الحضيض الذي هوو فيه، لأنه عكسوا الأمور فيما يجب الأخذ فيه بالأسباب تركوا فيه العمل كأن يقول الإنسان اليوم وهذا موجود أيضا إذا كان الله بينصرنا على اليهود بينصرنا، ما في حاجة نتخذ الوسائل الوسائل التي أمر الله بها في العديد من الآيات كمثل الأية المشهورة (( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة )) إلى آخر الآية.
وهذا ما وقع فيه كثير من المتأخرين ما في خلاص الأمة الإسلامية كل ما لها في تأخر حتى ينزل عيسى عليه السلام من السماء ويلتقي مع المهدي عليه السلام فيقتل الدجال ويخرجون اليهود من بيت المقدس فحكموا على نفسهم بالموت وأنهم لا يحييون إلا بنزول عيسى، من أين جاءهم هذا ؟ من ترك الأخذ بوسائل الحياة بوسائل العزة والسعادة في الدنيا قبل الآخرة أما السّعادة التي لارتباط لها بالحياة الآخروية فهم كما سمعتم معتزلة يأخذون بكل الأسباب أما الأسباب التي تعزهم في الدنيا قبل الأخرة فهم في ذلك موتى فعلينا أن نتعظ بهذا الحديث خاصة في قوله تبارك وتعالى ( يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم ) إذًا فنصيحتي إياكم أن لا تنسوا هذه القاعدة، قاعدة الأخذ بالأسباب أسباب الحياة سواء كانت دنيوية أو كانت أخروية ومن ذلك من هذه الأسباب أن نطلب من الله تبارك وتعالى خاشعين ضارعين أن يجعلنا من عباده المهتدين ومن تمام ذلك أن ندرس شرعه كتابه وحديث نبيه صلى الله عليه وسلم لأنه بذلك هدانا كما قال عليه الصلاة والسّلام وبذلك أختم هذا الدرس في الحديث الصحيح المشهور ( تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما كتاب الله وسنتي لن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض ) وبهذا القدر كفاية والحمد لله رب العالمين، ولعلنا غدا إن شاء الله نتمم هذا الحديث الشريف بيانا وتوضيحا .