خطبة جمعة عن ماذا بعد شهر رمضان. حفظ
الشيخ : الحمد لله. الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيِّئات أعمالنا. من يهده الله فلا مُضِلَّ له. ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمداً عبده وخليله، وأمينه على وحيه. أرسله الله تعالى بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا. فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده. فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد : فيا عباد الله! إننا نهنئ أنفسنا وإياكم بإتمام شهر الصيام. ونسأل الله تعالى أن يقبل منا ومنكم الأعمال المقربة إليه. ونسأله أن يتجاوز عن تقصيرنا في هذا الشهر المبارك وفي غيره من الشهور. ولقد كنا نرتقب، نرتقب مجيء هذا الشهر المبارك، شهر رمضان، فجاء شهر رمضان ثم خلفناه وراء ظهورنا. وهكذا أيها الناس، هكذا كل مستقبل للمرء يرتقبه وكأنه بعيد وإذا به يمر قريبا سريعا. ثم يخلفه وراء ظهره حتى يأتيه الموت. أيها الإخوة لقد حل بنا شهر رمضان ضيفا كريما فأودعناه ما شاء الله من الأعمال. ثم فارقنا شاهدا لنا أو علينا بما أودعناه. ولقد فرح قوم بفراقه ، لأنهم تخلصوا منه، تخلصوا من الصيام والعبادات التي كانت ثقيلة عليهم. وفرح آخرون بتمامه ، لأنهم تخلصوا به من الذنوب والآثام ، بما قاموا به من عمل صالح استحقوا به وعد الله بالمغفرة. ف( للصائم فرحتان : فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه ). والفرق بين فرح قوم فرحوا. والفرق بين فرح قوم فرحوا بفراقه لأنه تخلصوا منه وفرح قوم فرحوا بفراقه لأنهم تخلصوا به من الذنوب. وإن علامة الفرحين بفراقه، إن علامة الفرحين بفراقه أن يعاود الإنسان المعاصي بعده. فيتهاون بالواجبات، ويتجرأ على المحرمات، وتظهر آثار ذلك في المجتمع فيقل المصلون في المساجد، وينقصون نقصا ملحوظا. ومن ضيع صلاته فهو لما سواها أضيع ، لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر. والمعاصي بعد الطاعات ربما تحيط بها فلا يكون للعامل سوى التعب. أيها الإخوة : وأما من فرح بتمامه لأنه تخلص به من الذنوب فإنه لا يزداد بعد رمضان إلا نشاطا في الخير ومحبة له ، لأن من علامات قبول الحسنة، لأن من علامات قبول الحسنة أن يتبعها الإنسان بحسنة أخرى. ومن علامات ردها أن يتبعها بالسيئات. يقول الله عز وجل : (( فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ )).
أيها الإخوة المؤمنون : إنه وإن انقضى شهر رمضان، وهو شهر موسم للأعمال الصالحة فإن عمل المؤمن لا ينقضي بانقضاء مواسم العمل. إن عمل المؤمن عمل دائم لا ينقضي إلا بالموت. قال الله تعالى : (( واعبد ربك حتى يأتيك اليقين )). وقال تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )). فلقد انقضى شهر الصيام وهو موسم عمل. ولكن هل انقضى موسم الصيام؟ هل انقطعت مشروعية الصيام؟ إن الصيام ولله الحمد لا يزال مشروعا. فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن ( من صام رمضان وأتبعه بستة أيام من شوال كان كصيام الدهر ). وسنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم صيام الاثنين والخميس. وقال : ( إن الأعمال تعرض فيهما على الله فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم ). وأوصى ثلاثة من أصحابه أن يصوموا ثلاثة أيام من كل شهر. أوصى أبا هريرة وأبا ذر وأبا الدرداء رضي الله عنهم وقال : ( صوم ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر كله ). وحث صلى الله عليه وعلى آله وسلم على العمل الصالح في عشر ذي الحجة ومنه الصيام. وروي عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه كان لا يدع صيامها. وقال في صوم يوم عرفة : ( يكفر سنتين ماضية ومستقبلة ) يعني لغير الحاج. أما الحاج فلا يصوم بعرفة. وقال : صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ( أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم ). وقال في صوم يوم العاشر منه : ( يكفر سنة ماضية ). وقالت عائشة رضي الله عنها : ( ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم في شهر - تعني تطوعا - ما كان يصوم في شعبان، كان يصومه إلا قليلا ). فالصيام ولله الحمد لا يزال مشروعا. وقد قال النبي صلى الله عليه و وسلم : ( أحب الصيام إلى الله صيام داوود.كان يصوم يوما ويفطر يوما ). ولقد انقضى قيام رمضان. ولكن هل انقضى، هل انقضى القيام؟ إن القيام لا يزال مشروعا كل ليلة من ليالي السنة. حث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على قيام الليل ورغب فيه وقال : ( أفضل الصلاة بعد المكتوبة الصلاة في جوف الليل ). وصح عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ( أن الله عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول : من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له). ولئن انقضى رمضان وهو شهر الجود والصدقات. فإن الصدقات لا تزال مشروعة كل وقت، وكل امرء في ظل صدقته يوم القيامة. ومن تصدق، ومن تصدق بما يعادل تمرة من طيب ولا يقبل الله إلا الطيب، فإن الله تعالى يأخذها بيمينه. فإن الله تعالى يأخذها بيمينه ويربيها له كما يربي أحدكم فلوه - أي حصانه الصغير - حتى تكون مثل الجبل.
أيها المسلمون : اتقوا الله تعالى. أيها المسلمون : اتقوا الله تعالى، وبادروا أعماركم بأعمالكم. فما أسرع الآخرة من الدنيا، إن العمر ليس ينقضي بالأعوام والشهور ولا بالأيام، ولكنه ينقضي باللحظات. فكل لحظة تمر بكم فإنها تبعدكم من الدنيا وتقربكم من الآخرة. وإن حقيقة عمر الإنسان ما أمضاه في طاعة الله. وإن الكيس من دان نفسه، - أي حاسبها، أي حاسبها -، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
أيها المسلمون : لقد يسر الله لكم سبل الخيرات، وفتح لكم أبوابها، ودعاكم لدخولها وبين لكم ثوابها. فهذه الصلوات الخمس التي تأدونها كل يوم وليلة هي آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين، وهي خمس في الفعل ولكنها خمسون في الميزان. من أقامها كانت كفارة له ونجاة يوم القيامة شرعها الله تعالى لكم فرضا واجبا حتما وأكملها بالرواتب التابعة لها، وهي اثنتا عشرة ركعة : أربع قبل الظهر بسلامين، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر. من صلاهن بنى الله له بيتا في الجنة. وقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في سنة الفجر : ( ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها ). ليس المراد بالدنيا ما أنت عايش فيها. ولكنها الدنيا كلها، من أولها إلى آخرها. فسنة الفجر خير من الدنيا وما فيها. ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يحافظ عليها حضرا وسفرا. وهذا الوتر سنة مؤكدة سنه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بقوله وفعله. وقال : ( من خاف أن لايقوم من آخر الليل فليوتر أوله. ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخر الليل، فإن صلاة آخر الليل مشهودة ). وذلك أفضل. فالوتر سنة مؤكدة. لا ينبغي للإنسان أن يدعه، حتى قال بعض أهل العلم : إن الوتر واجب يأثم الإنسان بتركه. وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله : " من ترك الوتر فهو رجل سوء لا ينبغي أن تقبل له شهادة ". فوصف الإمام أحمد رحمه الله تارك الوتر بأنه رجل سوء. وحكم أنه، وحكم أنه ينبغي أن لا تقبل له شهادة. والوتر ليس بالعدد الكثير أقله ركعة واحدة، وأكثره إحدى عشرة ركعة. ووقته من صلاة العشاء الآخرة إلى طلوع الفجر حتى لو جمعت العشاء الآخرة إلى المغرب جمع تقديم فإنه يدخل وقت الوتر. ومن فاته في الليل قضاه في النهار. ولكنه يقضيه شفعا لا وترا. فإذا كانت عادته أن يوتر بثلاث فنسيه في الليل أو نام عنه صلاه في النهار أربع ركعات. ومن كان من عادته أن يوتر بركعة واحدة صلى ركعتين. ومن كان من عادته أن يوتر بخمس صلى ستا. وهكذا. ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ( كان إذا غلبه نوم أو وجع عن قيام الليل صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة ). وهذه الأذكار المشروعة خلف الصلوات المكتوبة كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا سلم استغفر ثلاثا. فقال : أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله. وقال : ( اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام ). ومن سبح الله دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين، وحمد الله ثلاثا وثلاثين، وكبر الله ثلاثا وثلاثين، فهذه تسع وتسعون. فإذا قال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، أتم بذلك المائة. وغفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر. والوضوء من المشروعات التي أوجبها الله على من أراد الصلاة. فمن توضأ فأسبغ الوضوء ثم قال : ( أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين، فإنها تفتح له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء ). أما النفقات، أما النفقات المالية من الزكوات والصدقات والمصروفات على الأهل والأولاد، حتى على نفس الإنسان، فإنه ما من مؤمن ينفق نفقة يبتغي بها وجه الله إلا أثيب عليها حتى ما يجعله في فم امرأته، مع أنه أمر واجب عليه. لكنه إذا ابتغى بذلك وجه الله أثابه الله على ذلك. وإن الله عز وجل ( ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها ). ( وإن الساعي على الأرملة والمساكين كالمجاهد في سبيل الله، أو كالصائم لا يفطر، والقائم لا يفتر ). والساعي على الأرملة والمساكين هو الذي يسعى بطلب رزقهم، ويقوم بحاجتهم، والعائلة، والعائلة الصغار والضعفاء الذين لا يستطيعون القيام بأنفسهم هم من المساكين. فإذا سعيت على أولادك وطلبت لهم الرزق، وأنفقت عليهم فإنك في الحقيقة ساع على، على أرامل ومساكين.