تتمة التعليق على قوله في شرح الطحاوية : " ... وأيضا: فإنه قد يعفى لصاحب الإحسان العظيم ما لا يعفى لغيره، فإن فاعل السيئات يسقط عنه عقوبة جهنم بنحو عشرة أسباب، عرفت بالاستقراء من الكتاب والسنة:
السبب الأول: التوبة، قال تعالى: (( إلا من تاب )) . (( إلا الذين تابوا )) .
والتوبة النصوح، وهي الخالصة، لا يختص بها ذنب دون ذنب، لكن هل تتوقف صحتها على أن تكون عامة ؟ حتى لو تاب من ذنب وأصر على آخر لا تقبل ؟ والصحيح أنها تقبل. وهل يجب الإسلام ما قبله من الشرك وغيره من الذنوب وإن لم يتب منها ؟ أم لا بد مع الإسلام من التوبة من غير الشرك ؟ حتى لو أسلم وهو مصر على الزنا وشرب الخمر مثلا، هل يؤاخذ بما كان منه في كفره من الزنا وشرب الخمر ؟ أم لا بد أن يتوب من ذلك الذنب مع إسلامه ؟ أو يتوب توبة عامة من كل ذنب ؟ وهذا هو الأصح: أنه لا بد من التوبة مع الإسلام، وكون التوبة سببا لغفران الذنوب وعدم المؤاخذة بها - مما لا خلاف فيه بين الأمة، وليس شيء يكون سببا لغفران جميع الذنوب إلا التوبة، قال تعالى: (( قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم ))، وهذا لمن تاب، ولهذا قال: (( لا تقنطوا ))، وقال بعدها: (( وأنيبوا إلى ربكم )) ، الآية.
السبب الثاني: الاستغفار، قال تعالى: (( وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون )). لكن الاستغفار تارة يذكر وحده، وتارة يقرن بالتوبة، فإن ذكر وحده دخل معه التوبة، كما إذا ذكرت التوبة وحدها شملت الاستغفار. فالتوبة تتضمن الاستغفار، والاستغفار يتضمن التوبة، وكل واحد منهما يدخل في مسمى الآخر عند الإطلاق، وأما عند اقتران إحدى اللفظتين بالأخرى، فالاستغفار: طلب وقاية شر ما مضى، والتوبة: الرجوع وطلب وقاية شر ما يخافه في المستقبل من سيئات أعماله.
ونظير هذا: الفقير والمسكين، إذا ذكر أحد اللفظين شمل الآخر، وإذا ذكرا معا كان لكل منهما معنى. قال تعالى: (( إطعام عشرة مساكين )). ((فإطعام ستين مسكينا )). (( وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم )). لا خلاف أن كل واحد من الاسمين في هذه الآيات لما أفرد شمل المقل والمعدم، ولما قرن أحدهما بالآخر في قوله تعالى: (( إنما الصدقات للفقراء والمساكين )) الآية - كان المراد بأحدهما المقل، والآخر المعدم، على خلاف فيه.
وكذلك: الإثم والعدوان، والبر والتقوى، والفسوق والعصيان.
ويقرب من هذا المعنى: الكفر والنفاق، فإن الكفر أعم، فإذا ذكر الكفر شمل النفاق، وإن ذكرا معا كان لكل منهما معنى. وكذلك الإيمان والإسلام، على ما يأتي الكلام فيه، إن شاء الله تعالى ...".
حفظ