تفسير قول الله تعالى : (( وبث فيها من كل دابة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم )) حفظ
قال: (( وبث فيها من كل دابة )) (بَثَّ) بمعنى نَشَرَ ووَزَّع (فيها) أي في الأرض (مِن كل دابَّةٍ) الدَابَّة اسم فاعل أي مِن كُلِّ نفسٍ دابةٍ، فهي اسم فاعل من دَبَّ يَدُبّ إذا ضَرَبَ ونَشَر، والدابَّة يُطلَق عرفاً على ذاتِ الأربع، وتُطلَق أيضاً في عُرفٍ أخَصّ على الحمار فقط، أمَّا معناها في اللغة العربية فهي كل ما دَبَّ على الأرض سواءٌ يمشي على أربع أو على اثنين أو على أكثر أو على بطنِه أو على رجلين كُل ذلك يُسَمَّى دابة، نَشَرَ الله عز وجل في الأرض هذه الدوابّ لِحكمةٍ عظيمة، لأنَّ مِن هذه الدواب ما هو نافع وينتَفِعُ الناس به، ومنها ما هو ضار فيحترز الناس عنه، ومنها ما لا نفع فيه ولا ضرر فيعرفُه الناس بما جعل الله عز وجل فيه مِن الآيات يعرفون به كمالَ قدرةِ الله وحكمتِه ... فالأشياء الماضية ظاهرة حكمتُها؟ مثل ماذا؟ نفعُ العباد وقيامُ مصالح دينِهم ودُنيَاهُم بها مِثْل قولِه تعالى: (( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ * وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ )) هذا نَفْع، ومِنها ما هو ضارّ هذا الضارّ وش الفائدة مِن خلقِه؟ الفوائد مِن خلقه كثيرة مِنها بيانُ كَمالِ قدرةِ الله عز وجل حيث كان قادراً على أن يخلُقَ ما فيه منفعة ومصلَحَة، وما فيه مضرة، فالكلُّ خَلْقُ الله والكُلُّ دَابَّة والكلُّ مِن مَاء، ومع ذلك هذا نافع وهذا ضارّ، العقرب أيها أكبر هي ولّا البعير؟
الطالب: فرق كبير.
الشيخ : ما يحتاج أني أقول أن البعير أكبر .. لكن مع ذلك العقرب مؤذِيَة ضارَّة والبعِير بالعكس، تجد البعير يأتي الطفل الصغير يقوده لِما يريد فتمشي معه، هذه حكمة، الحكمة الثانية أنَّ الإنسان يعرِفُ بذلك قدْرَ نفسِه هذا الإنسان المتَمَرِّد المستكبر يعرف قدر نفسه في هذه المخلوقات الماضية، ولهذا يقال: إن مَلِكاً جباراً كان جالسًا وحولَه مِن أهل العلم مَن حولَه فكان يقول: ما هي الحكمة مِن خلْق هذه الذبابة؟ فقال له رجل: الحكمة مِن ذلك أن يُرغِمَ الله بها أنوف الجبابرة مثلك، نعم، .. هذه الذبابة تقَع على أنف أيِّ إنسان وتذرق عليه ، هذا من الحكمة أن يعرِف الإنسان قَدْر نفسِه، وأنَّك ضعيف بالنسبة إلى قُوَّةِ الله عز وجل، البعوضة ليست بشيء ضعيفة مَهِينَة ومع ذلك تُقِضُّ مَضْجِع الإنسان حتى لا ينام فهذا مِن الحكمة، الحكمة الثالثة في خلق هذه المؤذِيات أنَّ الإنسان يذوق الألم بها والعذاب حتى يعرف أنَّ العذاب غير ملائم له فيُوجِبُ له ذلك النفور مِن معصية الله إلى طاعة الله عز وجل، الحكمة الرابعة أنَّ الإنسان ربما يحمله .. على أن يقومَ بما ينبغي أن يقومَ به مِن الأوراد والأذكار أليس كذلك؟ كثيرٌ مِن الناس قد يورِد ويقرأ ما يعصمه مِن الأذى مو هو على شان شياطين الجِنّ ولكن خوفاً مما يؤذيه حسّاً وهذا شيء مُجرَّب ومُشاهد، حكى لي بعض الناس الثقات أنَّه كان مِن عادتِه أن يقرأ آية الكرسي كل ليلة يقول: فنسيتها ذات ليلة فلُدِغْتُ بعد النوم، نعم، لُدِغ لأنَّه ليس عنده مِن الله شيءٌ حافظ، ومَن قرأها في ليلة لم يزل عليه مِن الله حافظ ولا يقربُه شيطان حتى يصبح، هذه مِن الحكم أن الله سبحانه وتعالى بَثَّ في الأرض مِن هذه الدواب المؤذية، أمَّا ما لا نفعَ فيه ولا ضرر من الدواب فإنَّ الإنسان يستَدِلُّ به على حكمة الله عز وجل وأنه سبحانه وتعالى مُحيطٌ بكل شيء، تَجِد هذه الدواب على كثرة أنواعها ما تستطيع أن تحصي أنواعَها فضلاً عن أفرادِها، ما بالك قد أعطاها الله تعالى الهداية لما هو مِن مصالحها، قال موسى عليه الصلاة والسلام لَمَّا قال له فرعون: من ربكما يا موسى؟ (( قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى )) وأنت إذا رأيت هذه النملة الصغيرة كيف هداها الله عز وجل إلى مصلحتِها ومنفعتِها كيف تَدَّخِر القوت لها وكيف تجْلُبُه مِن بعيد وكيف تُكَسِّر أطراف الحبوب السر الذي مِنه تَنْبُت تُكَسِّرُه قبل أن تختِزِنه لماذا؟ حتى لا ينبُت، لأنَّه إذا جاءه المطر والندى فإنه ينْبُت لكن إذا كُسِّر أعلاه الذي هو السر سره الذي ينبُت مِنه فإنَّه لا ينبُت، مَن الذي ألهمَها ذلك؟ هو الله عز وجل، هي ما درست في مدارس ولا تخرَّجت مِن الثانوية ولا قرأت في كُلِّيَّة عُلوم لكنْ الله عز وجل هو الذي علَّمها ذلك، شاهدتُ أنا إذا جاء الندى حول بيوت الماء الذَرّ عندما تسقي النخلة وحولها ذَرّ ويجي الندى إلى أولادها أنا شاهدتُّها تأخذ في أولادها حاملةً لهم أولادها بِيض، نعم، ما بعد حَيَتْ إلى الآن تجد كل واحدة مِنها حاملة ولدها تخرج به عن هذا الماء، حتى لا يُصيبَه أو يُهلكَه، هذا مِن آيات الله عز وجلّ يَتَبَيَّن بِه الإنسان حكمة الله عز وجل وأنَّه واسع عليم وأنه بكل شيء مُحِيط وأنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في مفتاح دار السعادة مِن هذه الأمور أشياءَ عجيبة، وذَكَرَ أنه ذُكِرَ لِشيخ الإسلام ابن تيمية أنَّ رجلاً وَضَعَ شيء من الطُعْم لِذَرَّة مِن الذرَّات فلما رأتِ الطعْم هذا ما استطاعت أن تحمِلَه كبير، فذهبت إلى أخواتها فاستصرَخَتْهم، فجاءوا .. يقول: فلما أقبلوا نَزَعَ الطُعْم جعلوا يبحثون في مكان الذرَّة التي جلبتهم وهم ما وجدوا شيئا فرجعوا، فوضعه ثانِيةً فلما وجدته الذرة ذهبت إلى أخواتها فاستصرختهم فجاءوا ولكن لما أقبلوا رفعها فلَمَّا لم يجدوا شيئا رجعوا في المرة الثالثة فعل بهم كذلك يقول: فاجتمع الذَرُّ عليها فقتلوها، .. وقال شيخ الإسلام: هذا لأن جميع النفوس مجبولة على بُغْض الكذاب الظالم، أي نعم، وهذه كذبتْ عليهم ظلمتْهم أخذتهم من بيوتهم وتعب وعناء والنتيجة لا شيء، نعم، وهذا شيءٌ عظيم إذا تأمَّل الإنسان هذه الأمور يَجِد العجب العجاب سبحان الله، نعم، (( وبث فيها مِن كل دابة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها مِن كل زوج كريم )) (أنزلنا) يقول: " فيه التفات عن الغيبة " {يَهْدِيكُم الله ويصلح بالَكم} فيه التفات مِن الغيبة إلى المتكلم (أنزلنا) وقد سبقَ لنا أن الفائدة في الالتفات تنبيه المُخاطَب أو القارئ لأنَّه إذا تغير أسلوب الكلام لا بُدَّ أن ينتبه، وهنا الفائدة الثاني في هذا: بيان القُدرَة أنَّ الأرض مُفْتَقِرَة إلى السماء (وأنزلنا مِن السماء ماء فأنبتنا فيها مِن كل زوج كريم) أنزل مِن السماء ماءً وهو المطر والمُراد بالسماء هنا العُلُو وأن المطر ليس ينزل مِن السماء الذي هي السقف المحفُوظ وإنما يَنزِل مِن العُلُوّ.
(( فأنبتْنَا فيها )) في الأرض (( مِن كل زوج كريم )) (كريم) يقول المؤلف: " (مِن كل زوج كريم) صِنْف حَسَن" (صِنْف) تفسير لِـ(زوج)، و(حَسَن) تفسير لـ(كريم) وعِندي أن الكريم هو الحَسَن وزِيادة وهو ما ينتفِع الناس به مِن هذا النبات كأنَّه رجل مِعْطَاءٌ يُعطِي ويُغدِق على الخير فهو نَبَاتٌ حَسَن ومع ذلك نافع بسبب ما فيه، والزوج يأتي بمعنى الصِنْف ومنْه قوله تعالى: (( وآخَر من شكله أزواج )) وِمِنه قوله تعالى: (( احشروا الذين ظلموا وأزواجهم )) أي أصنافَهم وأشكالَهم والله أعلم .