تفسير قول الله تعالى : (( ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير )) حفظ
ثم قال عز وجل{في درس جديد الآن}: (( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ ))[لقمان:20] (مِن الناس) هذه (مِن) للتبعيض وقد اخْتَلف الـمُعْرِبُون في (مِن) التَّبْعِيضِيَّة هل هي اسْمٌ؟ - يعني بمعنى (بَعْض)- أو أنَّها حَرْفٌ دَالٌّ على هذا المعْنَى، وعلى هذا الاخْتِلَاف يَنْبَنِي الاخْتِلَاف في الإعْرَاب، فإذا قُلْنا: (مِن) اسم بمعنى (بعض) فإننا نقول: (مِن) مُبْتَدَأ و(مَن يُجَادِلُ) خَبَرُه، وإذا قلنا: إنَّها حَرْف فإننا نقول: (مِن) حَرْفُ جَرّ، والجارّ والمجْرُور مُتَعَلِّق بِمَحْذُوف خَبَرٌ مُقَدَّم، و(مَن يُجَادِلُ) مُبْتَدَأ مُؤَخَّر.
(( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ )) (وَمِن الناس) قال المؤَلِّف: " أي أَهْل مَكَّة " بِنَاءً على قاعدَتِه -رحِمَه الله- أن كُل آية كُل السُوَر المَكِّية يَحْمِل فيها العُمُوم في مِثْل هذا السِّيَاق على مَن؟ على الخُصُوص وهم أَهْلُ مَكَّة، والصوابُ أنَّ ذلك عامّ يعني: (( مِن الناس )) مِن أهل مكة وغيرِهم (( مَن يُجادِلُ في اللهِ بغَيْرِ عِلْمٍ )) الـمُجَادَلة مَأْخُوذَة مِن الجَدْلِ وهو فَتْلُ الحَبْل لِإِحْكَامِه، ومنه ما يُسَمَّى الجدايل جدَايِل المرأة أي فَتْلُ رأسِها وإِحْكَامُه، هذا معناها في اللغة لكنَّها في الاصطلاح الـمُجَادَلَة هي الـمُمَانَعَة بمعنى أن كُلَّ واحِدٍ مِن الـمُتَنَاظِرَيْن يُحْكِمُ الحُجَّةَ مِن أَجْل إِفْحَامِ خَصْمِه، فهي إذًا إِحْكَامُ الحُجَّة لِإِفْحَامِ الخَصْم، هذه الـمُجَادلة، إِحْكَامُ الحُجَّةِ لِإِفْحَامِ الخَصْم وتَعْجِيزِهِ، والـمُجَادَلة إن كانت بِعِلْم وحِكْمَة فهي مَمْدُوح بِلَا شَكّ وقد تكونُ وَاجِبَة أحيانًا كما في قولِه تعالى: (( وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن ))، وإن كانت بغير عِلْم فإنَّها مَذْمُومَة كَمَن يُجَادِل في إِيرَاد الحُجَج والعِلَل الوَاقِعَة لِإِفْحَام خَصْمِه ونَصْرِ قَوْلِه ولو بالبَاطِل فهذا مِن المـُنْكَراتِ الـمُحَرَّمَة (( وَجَادَلُوا بِالبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِه الحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ )).
(( مِن النَّاس مَن يُجَادِلُ فِي اللهِ )) يقُول: " أَيْ أهْل مكة " (مَن يُجَادِلُ في اللهِ) (في الله) هل المـُراد في ذاتِه سُبْحَانه وتعالى أو الـْمُرَاد في رُبُوبِيَّتِه أَو أُلوهِيَّتِه أو أَسْمَائِه وصِفَاتِه أو أَحْكَامِه وأَفْعَالِه؟ الجواب: تَشْمَلُ كُلَّ هذا فَمِنَ النَّاس مَن يُجَادِل في ذَاتِ الله فَيُنْكِر وُجُود الله أَصْلًا، ويجادل في ذاتِه، ومِن الناس مَن يُجَادِلُ في وَحْدَانِيَّتِه يُقِرُّ بِه لكن يُنْكِر الوَحْدَانِيَّة، ومِن الناس مَن يُجادِلُ في أُلُوهِيَّتِه أي في تَفَرُّدِهِ بِالأُلُوهِيَّة، ومِن الناس مَن يجادِلُ في أسمائِه وصفاتِه، وأكثَرُ ما وقع فيه الجَدَل بين المسلمين في بابِ الأسماء والصفات، بين المسلمين ما هو بين المسلمين والكافرين لكن المسلمون الذين ينْتَسِبُون إلى الإسلام ويُسَمَّوْنَ أهْلَ القِبْلَة، هؤلاء كَثُرَ الجَدَلُ بينهم في بابِ أسماءِ الله وصفاتِه، كذلك مِن الناس مَن يُجادِل في أحْكَامِ الله وما أَكْثَرَ الـمُجَادِلين في أحْكَامِ الله، تَجِدُه يُجَادِل تقول: هذا الشَيْء حَرَام، ثم يأتِي ويُجادِلُك: وش اللِّي يحَرَّمُه؟ وش الفرق بينه وبين كذا، وهاتِ الدَّلِيل، وهذا الدليل مَنْقُوض وهذا التَّعْلِيل بَاطِل وهكذا. بغير عِلْم، أمَّا إذا كانَ بِعِلْم فليس فيه ذَمّ، لكن بِغَيْرِ عِلْمٍ، كذلك مِن الناس مَن يجادِلُ في أفعالِ الله -والعياذُ بالله- فيقول: لِمَاذا أنْعَمَ الله على هؤلاء الكافرين بالنِّعَمِ الكَثِيرة؟ ومِن المسْلِمِين مَنْ هُو في جُهْدٍ شَدِيد ومَرَض وفَقْر وجَهْل وما أشْبَه ذلك. هذا يجادِل في أفعال الله، كذلك يُجَادِل في أفعَال الله في مَسْأَلَةِ القَدَر فيقُول مثلًا: إمَّا أن يكون الله قد قَدَّرَ على الإنْسَانِ عَمَلَهُ أو لا، فإن كان قَدَّر عليه عملَه فكَيفَ يُعَاقِبُه، وإن لم يُقَدِّرْ عليه عمَلَه فمعنى ذلك أنَّ الإنسان مُسْتَقِلٌّ به فيَكُون مُنْفَرِدًا في الحَوَادِث ومُشَارِكًا لله فيها، وما أشْبَهَ هذا مِن الجدل الذي يَكُونُ بغَيْرِ عِلْم ولهذا ينبغي لِلإِنسان في مَسَائِلِ الشرع وفي مَسَائِل القَدَر أن يَسْتَسْلِمَ لِمَا دَلَّ عليه الكِتَاب والسُنَّة وألَّا يُجَادِل، لأنَّه إن فَتَحَ على نَفْسِه بابَ الجَدَل ما يَسْتَقِرُّ له قَدَمٌ أَبَدًا، ولهذا قالَ ابنُ حَجَر رَحِمَه الله: إنَّ المَسَائل العَقْلِيَّة ما لها دَخْل في الأمُور القدرية، لأننا لو أردْنَا أن نُ.. هذه الأُمُور على العَقْل فإنَّ العَقْل قد يُجَوِّزُ ما كان مُمْتَنِعًا شرعًا غَايَةَ الامْتِنَاع، كما أنَّه قد يَمْنَع ما هو جَائِز، والمُرَادُ بالعَقْلِ مَا ادَّعَى صاحِبُه أنَّه عَقْل، أمَّا العَقْل الصَّحِيح الصَّرِيح فإنه لا بُدَّ أن يُوافِقَ النقل الصَّحِيح، وإذا شِئْتُم أن يَتَبَيَّنَ لكم هذا فاقرَءُوا كِتَابَ شَيْخِ الإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّة -إن أَطَقْتُمُوهُ- المُسَمَّى بِكِتَاب العَقْل والنَّقْل، أو: مُوَافَقَة صَرِيح الـمَعْقُول لِصَحِيحِ الـمَنْقُول، نعم، الـمُهِمّ أنَّ الجَدَل بابُه وَاسِع والكَلام هنا في الـمُجَادَلَة الـمَذْمُومَة وهي الـمُجَادَلَة بِغَيْرِ عِلْم، إذًا (في الله) في ذَاتِه، ايش بعد؟ رُبُوبِيَّتِه، أُلُوهِيَّتِه، أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، أَحْكَامِهِ، أَفْعَالِهِ، نعم.
(( بِغَيْرِ عِلْمٍ )) يعني ما عِنْدَه عِلْم ذَاتِي ولكنَّه مُكَابِرة ومُعَانَدَة " (( وَلَا هُدًى )) مِن رَسُول " يعني ولا عنده اقْتِدَاءٌ بغيرِه، فهو ليس عنده عِلْمٌ في نفسِه يَهْتَدِي به، وليس عنده عِلْمٌ مِن غيرِه يَهْتَدِي به، (( وَلَا هُدًى )).
(( وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ )) أَنْزَلَه اللهُ تعالى بل بِالتَّقْلِيد " هو ما عنده عِلْم ولا اهْتِدَاء بِهَدْيِ رَسُول ولا كِتَابٍ أَنْزَلَهُ الله فَيَهْتَدِي بِه، إِذًا لِمَاذا يُجَادِل؟ يُجَادِلُ بالباطِل