تفسير قول الله تعالى : (( لله ما في السماوات والأرض إن الله هو الغني الحميد )) حفظ
قالَ اللهُ تعالى: (( للهِ مَا فَي السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدِ )) الجُمْلَةُ هنا خَبَرِيَّة (لله ما في السماوات والأرض) وفيها حَصْر وطَرِيقُه تقْدِيمُ الخَبَر، لأنَّ تقديمَ ما حقُّه التَّأْخِير يُفِيد الحَصْر، فـ(للهِ ما في السماوَات) يعني: لا لِغيرِه بل هو لَه وَحدَه سبحانَه وتعالَى، وقولُه: (( ما في السماواتِ )) أي مَا كان فيها (( والأرْضِ )) كذلك، وأتى بـ(مَا) التي لِغيرِ العاقل، لأنه يُرَادُ بها تمليك الذَّوَات والصِّفَات، وإذا أُرِيدَ بها ملْك الذوات والصِّفات أُتِيَ بـ(ما)، لأنَّها أكثر فإنَّ كل ذَاتٍ لها صِفَة، وأيضًا ليس كُلُّ الذَّوَات عَاقِلة بل الذَّوات مِن البهائم وصِنْوَها مِن قِسْم غَير العَاقِل.
وقوله: (( لله ما في السموات )) قال المؤلف: " مُلْكًا وخَلْقًا وعَبِيدًا " مُلْكًا وخَلْقًا والـمُلْك يَشْمَل مُلْك الدَّوَابّ والتَصَرُّف في هذه الدَّوَابّ، ولهذا قال: " وعَبِيدًا " والـمُرَاد بالعُبُودِيَّة هنا: العُبُودِيَّة العَامَّة دُونَ الخَاصَّة، لأَنّ العُبُودِيّة الخَاصَّة تَخْتَصُّ بالطَّائِعِين الذِين تذلَّلوا لله سُبْحانَه وتعالَى طَاعَةً بالمعْنَى الشَّرْعي، وأما العِبَادَة العَامَّة فهي تَشْمَل كُلَّ الخَلْق، لأَنَّ جَمِيعَ الخَلْق مُتَذَلِّلٌ لله عز وجل باعتِبَارِ الخَلْق والتقْدِير، ما أَحَد يستطيع أن يُعارِضَ قَضَاءَ اللهِ وقَدَرَه لكِنَّ الكُفَّار يسْتَطِيعُون أن يُعَارِضُوا شَرْعَ الله ولهذا عارَضُوا وأنكَرُوا الشَّرْع واستَكْبرُوا عنه عنِ الحَقّ، قال: " وَعَبِيدًا فَلا يسْتَحِقُّ العِبَادَةَ فيهما غَيْرُه " في السَّماوات والأَرْض ما يستَحِقُّ العبادَةَ إلَّا الله، لأنَّه بمُقْتَضى العَقْل والفِطْرَة أَنَّ الـمَالِك الخَالِق الـمُدَبِّر يجِب أن يكُونَ هو الـمعْبُود، ولهذا يَسْتَدِلُّ اللهُ عزَّ وجَلّ على وُجُوب العِبَادَة بِمَاذَا؟ بالرُّبُوبِيَّة (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الذِّي خَلَقَكُمْ )) ومَرَّ علينا (( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ))[لقمان:25] وهذا ظَاهِر أنَّ مَن له الخَلْق يجِب أن تَكُونَ لَه العِبَادَةُ وَحْدَه.
(( إِنَّ اللهَ هُو الغَنِيُّ )) عن خَلقِه (( الحَمِيد )) الـمَحْمُودُ فِي صُنْعِهِ " الجُمْلة هنا استِئْنَافِيَّة، لِبَيَان ما للهِ عَزَّ وَجَلّ مِن هذَيْنِ الاسْمَيْن وما تَضَمَّنَاه مِن الصِّفَة (إِنّ اللهَ هُو) الضمِير ضَمِيرُ فَصْل، ولِضَمِيرِ الفَصْل ثَلَاثُ فَوائِد: الفائدة الأُولى: التَّوْكِيد، الثَانِية: الحَصْر، والثَّالِثَة: التَّمْيِيزُ بَيْنَ الخَبَرِ والصِّفَة فإذا قُلت: زَيْدٌ الفَاضِلٌ فَـ(زَيْدٌ) مبتدأ والفَاعِل [يقصد الفاضِل] يحسُن أن تَكُونَ صِفَةً لِـ(زيد) وأَنَّ الخبَر لم يِأْتِ بعد وأنَّ التقْدِير: (زَيْدٌ الفَاضِلُ مَحْبُوبٌ) مَثَلًا، فإذا قُلْتَ زَيْدٌ هو الفَاضِل احْتَمَل أن يَكُون صِفَة ولَّا لا؟ لا، تَكُون خَبَرًا، ولهذا سُمِّيَ ضَمِيرَ فَصْل، (( إن الله هو الغنيُّ )) قال المؤلِف: " عن خَلْقِه " وهو كذلك: غَنِيٌّ في نفسِه غَنِيٌّ عَن غَيْرِه، غنِيٌّ في نفسِه لِكَثْرَةِ ما عندَه، لأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ فهو لله عزَّ وجلَّ وهذا تَمَامُ الغِنَى، وغَنِيٌّ عَن خَلْقِه فَلَا يَحْتَاجُ إِلى أَحَد والدَّلِيلُ قوله تعالى: (( فِإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِين )) أَمَّا مَن سِوَاهُ فإنَّه مُفْتَقِر مُفْتَقِرٌ إلى مَن؟ إِلى الله عز وجل قبْلَ كُلِّ شَيْء، ثُمَّ إِنَّ الناس بَعْضُهُم مُفْتَقِرٌ إِلى بَعْض كما قال تعالى: (( نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيَّا ))[الزخرف:32] فالنَّاس بعضُهم إلى بعضٍ في حاجَة بل في ضَرُورَة أحيانًا، والجَمِيعُ إلى الله في حَاجَةٍ وَضَرُورَة، أمَّا الربُّ عَزَّ وَجَلّ فإِنَّه في غِنًى عن غَيْرِه كما أَنَّه غَنِيٌّ بنفْسِه أيضًا إذًا غِنَاه يَتَضَمَّن شيْئَيْن الغِنَى الذَّاتِي بمعنى كَثْرَة ما يملِكُه سبحانه وتعالى إذ كُلُّ شَيْءٍ فهو مَذْكُور، الثاني: الغِنَى عَن الغَيْر بحيثُ لا يحتاجُ إلى أَحَد وغيرُه مُحتَاجٌ إليه، وقوله: (( حَمِيد )) قالَ المؤلف رحِمه الله: " الـمَحْمُودُ في صُنْعِه " فَقَصَّرَ في التفْسِير من وَجْهَيْن: أَوَّلها قال: (الحميد) بمعنى المحمود والصَّحِيح أنها بمعنى المحمُود والحَامِد، فهو سبحانه وتعالى حَامِدٌ مَن يَسْتَحِقُّ الحَمْد، وما أكثَرَ الثَّنَاء على مَن يَسْتَحِقُّون الثَّنَاء في كتابِ الله عزّ وجل، وهو كذلك محْمُود على كَمَالِ صفَاتِه وتَمَامِ إِنْعَامِه، يُحْمَدُ على أمرَيْن على كمَالِ صِفَاتِه وعلى تمَامِ إِنْعَامِه، الوجهُ الثاني مِمَّا قصَّر فيه المؤلف أنَّه قال: المحمُود في صنعِه والصَّواب أنه محمُودٌ في صُنْعِه وفي شَرْعِه أيضًا، فإِنَّ شرعَه عزَّ وجَل أَكْمَلُ الشَّرَائِع وأنْفَعُهِا لِلعِبَاد، ومَن سَنَّ للخَلْق طريقًا تسْتَقِيمُ به أمورُهم فهو أهْلٌ للحَمْد، الآن لو أنَّ أحدًا دلَّك على طريق بلدٍ في سَفْرَة واحِدَة مِن سَفَرَاتك تحمَدُه ولَّا لا؟ تحمَدُه فكَيفَ بِمَن دَلَّك على طَرِيقِ الآخِرَة في كُلِّ ما تَحْتاَجُ إليه، فالصواب أنَّ (حميد) بمعنى حامِد ومحْمُود وحَمِيد في صُنْعِه وفي شرْعِه، فصُنْعُه الذِي هو الخَلْق يُحْمَدُ عليه سبحانه وتعالى على إيجادِه وعلى إِعْدَادِه وعلى إمْدَادِه، وهو أيضًا حَمِيدٌ في شَرْعِه يُحْمَدُ علَيه لِمَا في شرْعِه مِن العَدْل والحِكْمَة والرَّحْمَة التي لا نَظِيرَ لها، وما أعْظَمَ الفَائِدة في اقْتِرَان الحَمِيد بالغِنَي، لأَنَّه -كما مَرَّ علينا- أسماءُ الله تعالى كُلُّها حُسْنَى وتَدُلُّ على مَعْنًى حَسَن، لكن قد يَدُلُّ الاسْمَان على صِفَةٍ ثَالِثَة حصَلَت بماذا؟ بِاقْتِرَانِهِمَا، فالغِنَى مع الحَمْد يَزْدَادُ كَمَالًا، لأنه قد يكونُ الغَنِيُّ غَنِيًّا ولكِنْ غِنًى لا يُحْمَدُ عليه مِثْل؟
الطالب: البخيل.
الشيخ : مثل البخيل، البَخِيلُ الغَنِيّ غَنِيّ لكِن لا يُحْمَدُ على غِنَاه، لأنَّه لا يُسْتَفَادُ مِن مَالِه، نعم، وقد حَرَمَ نفسَه مِن مَصْلَحَةِ مالِه، لكِنِ اللهُ عز وجل له الغِنَى الـمُقْتَرِن بالحَمْد لِكَمَالِ إِحْسَانِه على خَلْقِه مِن هَذا الغِنَى (( إنَّ الله هو الغَنِيُّ الحَمِيد ))