تابع لتفسير قول الله تعالى : (( يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور )) حفظ
والنهي هنا مُؤَكَّدٌ بالنون (( تَغُرَّنَّكُم )) وهذا تأكِيد ثقِيل (فلا تَغُرَّكم ) أي تَخْدَعَنَّكم، وهذا مُفَرَّعٌ على ما قبلَه، لأنَّ الإنسان الذي تخدَعُه الدنيا يكُونُ إيمانُه بوعْدِ الله تعالى ضَعِيفا، {تعال هنا فيه مكان يا أخ حسين}، يكونُ إيمانُه بالله تعالى ضعِيفًا إذْ أَنَّ الدُّنيا تُلْهِيه وتَخْدَعُه حتى يَنْجَرِفَ وَرَائَها، وقولُه: (( الحياةُ الدنيا )) لاشكَّ أنّ ما فيه للآن حياة وضدُّه الموْت، وهي (دُنْيا) اسم تفضِيل مُذَكَّرَهُ
الطالب: دَنِي
الشيخ : لا.
الطالب: أدنى.
الشيخ : أَدْنَى مثل: (عُلْيَا) و(أَعْلَى)، سُمِّيَت دُنْيا لِوَجْهَين: الأول: أنها مُتَقَدِّمَة عن الآخِرَة فهي أَدْنى إلى الناس مِنَ الآخرة ولهذا سُمِّيَت الحياة الأُولى، وسُمِّيَت دنيا أيضًا مِن دُنُوِّ مَرْتَبَتِها، فهي دَانِيةٌ بمعنى قريبة لأنَّها هي الأولى، وهي دانية بمعنى دُنُوّ المرْتَبَة لأنَّ ما فيها مِنَ النَّعِيم إن قُدِّر فإنه مُنَغَّصٌ تَنْغِيصًا مُسْتَقْبَلًا أو تنغيصًا حاضِرًا: تنغِيصًا حاضِرًا لأنَّ نفس النَّعِيم الذي تنْعَمُ به في الدنيا لا بُدَّ أن يُشَابَ بِكَدَر كما قال الشاعر:
فيومٌ علينا ويومٌ لنا ويومٌ نُسَاءُ ويَوْمٌ نُسَرّ
وهذا لو تأمَّلْتَهُ لوَجَدتَّه كذلك، كل يوم في الأسبوع ناظِر نفسك يومٌ تكون مستانس مُنْبَسِط ومسْرُور، ويوم تغْتَمّ، ويوم يجيك أشياء خارِجِيَّة تُفَرِّحُك، ويوم آخر بالعكس، ثم لو قُدِّر أنَّ صفْوَها خَلَا مِن ذلك يعني لم يُشَب بأذى فإنَّ المستقبل ينغِّص عليك هذا الصَفَاء كما قال الشاعر:
لا طِيبَ للعَيْشِ ما دَامَتْ مُنَغَّصَةً لَـــــذَّاتُهُ بِادِّكَــــارِ الـمَــــوْتِ والْهَـــــــــرْم
فلابُدَّ مِن أحدِ أمْرَيْن إمَّا مَوْتٌ عاجِل وإمَّا هَرَمٌ مُجْهِد فالإنسان إذا كَبِر إذا قُدِّر أنَّ الله تعالى مَدَّ له في العُمُر فإنَّه يرجِع إلى حالِه الأولى (( وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ))[النحل:70] يرجِع إلى حالِه الأولى يَسْقُط تَمْيِيزُه ويكون أشَدّ مِن الصَبِيّ، يعني كونُه عالَة على غيرِه أشَدّ مِن كَوْنِ الصَبِيّ عالَةً على غيرِه، لِأَنَّ الصَبِيّ ما عنده عَقْل وتَمْيِيز، وغاية مهما يَكُون يصيح نعم يُدَلَّه بِشَيْءٍ يلعَب به ويسْكُت، لكن هذا الهَرِم عنده الشَيء مِن التَّمْيِيز تَجِدُه يصرخ على أهله مثلًا يصرخ عليهم يزَعِّق عليهم ويصيح ويقول: كيف تنسون .... شابّ وأكِدّ عليكم وأجيب لكم الطَّعَام والشَّرَاب واليوم تنْسُونِ، و.. أكثر، نعم ثم هو أيضًا ثقيل، الصَبِي يقدَر الواحِد يحمِلُه على يدِه ويمشِي به يمين ويسار حتى يسكُت لكن هذا مُشكِل، لذلك إذَا تَذَكَّر الإِنسَان أنَّه إمَّا أن يموت أو يصِل إلى هذه الحال فمهما كان عيشُه فسوف يَتَنَغَّص، ولهذا نقول: هذه الحياة دنيا مَأْخُوذَة مِن أين؟ مِن دُنُوِّ الزَّمَن ودُنُوّ الـمَرْتَبَة والقَدْر.
طيب الحياة الدنيا (( فلا تَغُرَّنَّكُم الحياةُ الدنيا )) عن الإيمانِ بذلك " أي بوعْدِ الله، وما أكْثَرَ الذين غَفَلوا عن وعدِ الله، وما أكثرَ الذين اعْتَمَدُوا على الأسْبَابِ الظَّاهِرَة فَنَسُوا الأسباب التي ورائَها، كثِير مِن الناس يقول: (( وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ ))[الحج:40] كيف إنّ الله ينصُر المسلمين وهم هذا القِلَّة على أعدائِهم الكُفَّار وهم بهذِه الكَثْرَة وبهذه القُوَّة كيف هذا يكون؟ فيعْتَمِد على الحياةِ الدنيا وعلى الأَسْبَابِ المادِّيَّة دون ما ورائَها، والوَاجِب علينا أن نُؤْمِن بوعدِ الله، فاللهُ جَعَل الوَعْد أن ينْصُر مَن يَنْصُرُهُ، (( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا استَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ))[النور:55] يقول قائل: كيف إن الله يستَخْلِفْني في الأرْض وعندنا الرُّوس وعندنا الأَمْرِيكَان وعندنا الإِنجِلِيز وغيرُهم مِنَ الأُمَم القَوِيَّة الكَثِيرَة؟ اش معنى هذا؟ وش الجوَاب على ذلك؟ الجواب: (( إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا )) لا تَغُرَّك الدنيا حتى في النَّصْر، أسْبَابُ النَّصْر ليسَتْ هي الـمَادَّة فقط بل هناك شَيْءٌ ورائَها وهو قُوَّةُ العَزِيز عَزَّ وجَل (( إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيز )) نعم.
طيب (( فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ )) في حِلْمِهِ وإِمْهَالِه (( الْغَرُورُ )) الشَّيْطَان "
يعني لا يخدعْكُم أيضًا مَن وَصْفُه الخِداَع، ولهذا جاء بِوَصْف الغَرُور، و(غَرُور) فَعُول صِفَة مُشَبَّهَة لِأَنَّ غُرُورَه كان وصفًا لَازِمًا له لُزُومَ الوُجُوب، و(الغَرُور) غير (الغُرُور) بالضَمّ، (الغُرُور) بالضَمّ مَصْدَر و(الغَرور) صِفَة مُشَبَّهَة دَالَّةٌ على المعنى و.. به المعنى، فالغَرُور إذًا هو الشيطان، أي الشياطين الإِنس ولّا الجِن؟
الطالب: كلهم.
الشيخ : كلُّهم نعم، كلهم جميع مِن شياطِينِ الجِنّ مَن يَغُرّ وهو معروف هو الشَّيْطان الذي يُلْقِي في قَلْبِك ما يحتال، ومِن شياطين الإنس أيضًا مَن يَغُرّ وهم جُلَسَاء السَّوْء الذين يَأْتُون الإنسان فيدخُلُون فيه كما يدْخُل الماء في الـمَدَر أو النَّار في الفَحْم، مَا يدْرِي يدخُلون دُخول بحيث يكُون كالنّائِم أو كالـمَيِّت بين يَدَي الغاسل، فالله عز وجل حَذَّرَنا مِن هؤلاء (( وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ))، طَيِّب (( بالله )) قال المؤلف: " في حِلْمِه وإِمْهَالِه " صحيح إنَّ الإنسان قد يَغْتَرّ بالله في حِلْمِه وإمْهَالِه فيقول لِنفسِه: لو كُنتِ على خَطأ لعاقبَنِي الله، وما دام الله عز وجل يرزقُني يعافيني فهذا دليل على أنِّي على حق. لكن هذا مِن الأمَاني البَاطِلة التي حَذَّر عنها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( الكَيِّسُ مَن دَانَ نفسَه وعَمِلَ لِمَا بعْد المَوْت، والعَاجِز مَن أتْبَعَ نفسَه هَواها، وتَمَنَّى على اللهِ الأَمَانِي ) وهذا الحديث وإن كان فيه ما فيه مِن حيث الصِّحَّة لكن معناه صحيح لاشك ، فإنَّ الكَيِّس الحازِم هو الذي يعمَل لِمَا بعْد الـمَوْت، قال: (( ولا يغرُّنَّكُم بالله الغَرور )) أي لا يخدَعَنَّكم بالله في حلْمِه وإمهالِه وغيرِ ذلك مما يتَعَلَّقُ بأفعالِه وأحكَامِه (( لا يغرُّنَّكم بالله الغرور )) أي الخادِع وهو الشيطان.