تفسير قول الله تعالى : (( والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا )) حفظ
ثُمَّ قالَ عز وجل: (( وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ )) وفي قراءَةٍ (( الريح )) " (( وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ )) الله وحدَه هو الذي يُرْسِل هذه الرِّيَاح دُون غيرِه فلن يستطِيعَ أحدٌ أن يُرسِلَ شَيْئًا مِن هذه الرياح، حتى الخلقُ كلهم لو اجْتَمَعُوا على أن يُرْسِلوا الرِّيح ما استطاعوا، لو اجتمعوا على أن يُهَوِّنُوا عَصْفَها ما استطاعوا، ولكنَّ بذلك بيَدِ اللهِ عز وجل، فاللهُ وحده الذي يُرْسِل الرياح، وتَأَمَّل قولَه: (( يرسل )) حيث جعلَها رسولًا أو (( أَرْسَل )) حيث جعلَها رسولًا كأنها تُبَلِّغ أو كأنَّها تفْعَل ما أُمِرَتْ به كما أَنَّ الرسول يُبَلِّغ ما أُرْسِلَ به فهي مُرْسَلَة، ولهذا ثبَت عن النبي عليه الصلاة والسلام النَهْيُ عن سَبِّ الريح، لأَنَّ سَبَّ الريح حَقِيقَةً يعُودُ إلى اللهِ عَزَّ وجل فَإِنَّه هو الذي أرسلَها فهي مُدَبَّرَة مُسَخَّرَة، وقولُه: (( الرياح )) وفي قِراءةٍ: (( الرِّيح )) والقِراءة هنا سَبْعِيَّة، والفرق بينهما أنَّ الرياح جَمْع، والريح مُفْرَد لكنَّ هذا المفرَد في معنى الجمْع، لأنَّه مُحَلًّى ب(أل) وهي للاسْتِغْرَاق فيشمَل كُلَّ الرياح سواءٌ أتَتْ مِن الشِّمَال أو الجَنُوب أو الشَّرْق أو الغَرْب، والله تعالى هو الذي أرسلَها، واعْلَم أنَّ الغالب أنَّ الرياحَ مجمُوعَةً تكونُ في الخير، والريحَ مُفْرَدة تكون في ضِدَّه، هذا الغالب ولهذا يُروى عن النبي عليه الصلاة والسلام في دعاء الريح: ( اللهم اجعلْهَا رياحًا ولا تجعلْها رِيحًا ) ولكن معَ ذلك تأتي هذه مَحَلَّ هذه ويكون هناك قرينَة، ففي قولِه تعالى: (( وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ))[الذاريات:41] هذه في الشَرّ، (( حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ ))[يونس:22]هذه للخَيْر لأنها وُصِفَت، (( وَهْوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ))[الأعراف:57] هذه في الخير، وهنا تكون في الخير أيضًا (( يُرْسِلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا )) (( تُثِيرُ )) عطَفَ المضَارِع على الماضِي وكان مُقْتَضَى النَسَق أن يعطِفَ على الماضي ماضِيًا مثلَه فيقول: واللهُ الذي أَرسَل الرياح فأثارَتْ، لكن لِمَاذَا عَدَل عن الماضِي للمضَارِع؟ بيَّنَه المؤلِّف قال رحمه الله: " المضَارِعُ لِحِكَايَةِ الحَالِ الماضِية " يعني عَبَّر بالمضَارِع عن الماضِي حِكَايَةً للحَال حين إرسَالِها، لأنَّه أبلغُ في التَصَوُّر كأنَّها الآن أمامَك تُثِير هذه السَّحَاب، وهذا أبْلَغ في تَصَوُّرِ الإنسان، لأنَّه يسْتَحْضِرُ الحَال الماضِية كأنَّها الآن، إذ أنَّ المضارع كما نعرف جَمِيعًا يصلُح للحَال وللاستِقْبَال ولكنَّه قد يقتَرِن به ما يُعَيِّنُه للحال، ويقتَرِن به ما يعَيِّنُه للاستِقْبَال، ويقتَرنُ به ما يُعَيِّنُه للمَاضي، إنما الأصْل فيه أنه للحَاضِر والمسْتَقْبَل ولا يكونُ الماضي إلا بقَرِينة، فعليه نقول: عُدِلَ عن التعبِير بالماضِي هنا، لِحِكَاية الحَال الماضِيَة حتى كأنَّك تُشاهِدُها الآن وهي تُثِيرُ هذا السحاب، وقال المؤلِّف في معنى (( تثير )): " أي تُزْعِج " وهذا معنًى قد يُنَاقَش فيه، لأَنَّ الإزعاج أخَصّ مِن الإثارة، وإنَّما الإثارة بمعنى الإنهاض إنهَاض الشيء كما يُقَال: أثَرْتُ البعير أي أنهضتُّه حتى صارَ قائمًا بعد أن كان بارِكًا، نعم وقوله: (( تُثِير سحابًا )) كأنَّ هذا السحاب في الأصْل في الأرض ثم أثارَتْه هذه الرياح، ومعلومٌ أنَّ السَّحاب يكونُ من بُخَار البَحْر ويكونُ أحيانًا من الجَوّ الـمُتَلَبِّد بالرُّطُوبة حَسَب ما تَقْتَضِيهِ حِكْمةُ اللهِ عز وجل، وهذا أمرٌ يَرْجِع إلى مَعْرِفَةِ العلوم الطبيعية، وقولُه: (( فتثِيرُ سحابًا )) السَّحاب هو هذا الغَيْم المعرُوف .. يَنْسَحِبُ في الجو كما تُشَاهِدُونَه فلذلك سُمِّيَ سحابًا؟ لانسِحَابِه في الجو، (( فتثير سحابًا ))