تفسير قول الله تعالى : (( فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور )) حفظ
(( فَسُقْنَاهُ )) فيه التفاتٌ عن الغَيْبَة " إلى التَكَلُّم، طيب وفيه أيضًا التفاتٌ من المضارع إلى الماضِي انتبه! (( أرسل الرياح فتثير سحابًا فسُقْنَاه )) عَدَلَ عن المضارع إلى الماضي، لِاختلافِ الفاعِل في الفِعْلَيْن لِأن (( تُثِير )) الفاعِلُ فيها (الرِّيَاح)، و(( سُقْنَاهَ )) الفاعل فيها (الله) إذًا يحسُن أن تكون بلفْظ الماضي عطفًا على قوله: (( أَرْسَل ))، لأنَّ المرْسِل هو الله فلما اتَّحَدَ الفاعِل في الفِعْلَين (أرسل) و(سقنا) كان الأفصح أن يكونا جميعًا بلفظ الماضي لكن فيه عدول عن الغَيْبَة في قوله: (( والله الذي أرسل )) إلى التكلم في قوله: (( فسُقْنَاه )) لماذا؟ مَرَّ علينا أن الالتفات له فائِدة دائمة وهي يا عبد الرحمن؟
الطالب: التنبيه.
الشيخ : تَرْجِمْ عنه!
طالب آخر: التنبيه؟
الشيخ : التنبيه؟ التنبيه كيف التنبيه؟ لِأَنَّ سِيَاق الكلام على نسَق واحد يقتَضي أن الذهْنَ ينْسَابُ معه ولا يتَوَقَّف، لكن إذا اخْتَلَف السياق كأنَّه يَقِف الذهن لِينظُر ما الذي حدث وحينئذ يكون في تغييره تنبيهٌ لِمَن؟ للمُخاطَب، نعم فهذا واحد، لكن هنا أيضًا فيه فائِدَة ثانية وهي بَيَانُ قُدْرَةِ الله عز وجل، (( فسقْنَاه )) أي نحنُ فأضافَهُ إلى نفسِه، لأنه أدَلُّ على القُدْرَة، فإذا اجتَمَع (( الله الذي أرسل )) ثم هو الله سبحانه وتعالى ساقَه هذا السَحاب الذي أثارَتْه الرِّيح فهو أدَلُّ على القُدْرَة مما لو جاء على نَسَقٍ واحِد (( فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ )) بالتشديد والتخفيف، نعم.
الفائدة الثانية بيانُ تمامِ القُدْرة لأنَّه إذا كان بِالأول للغائب ثم جاء للمتكلم صار هذا أدَلَّ على القُدْرة وأعظَم.
الطالب: ....
الشيخ : لا، هذا مِن حيثُ الالتفات مِنَ الأصْل.
يقول: (( إلى بلد مَيِّت )) "
فيها قراءَتان " (( مَيّت )) و (( مَيْت )) وقد قيل إن الـمَيْت لمن ماتَ بالفعل، والميِّت لمن سيمُوت وجعلُوا على ذلك شاهدًا في قوله تعالى: (( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ))[الزمر:30] أي ستمُوت، وقوله: (( أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ))[الأنعام:122] ف(ميتًا) هنا لمن قد مَات، هكذا فرق بعضُهم، والظاهر أن اللغة العربية تأتي بالوجهين على المعنَيَيْن ومنها هذه الآية (ميتًا) سيمُوت ولَّا قد مات بالفعل؟ (( إلى بلد مَيِّت ))؟ قد مَات ومع هذا جاءَت بالتَّشْدِيد.
(( إلى بَلَدٍ ميّت )) بالتشديد والتخفيف لا نَبَاتَ بها "
هذا هو مَوْت البلد والمراد بالبلد هنا ليس المسْكُون مِن الأرض بل ما هو أعَمّ فيشمل المسْكُون وغير المسْكُون وتخصيصُ البلد بالمسْكُون تخصيصٌ عُرْفِي وإلا فكُلُّ الأرض بَلَد، لِانْبِلَادِهَا وتَسَطُّحِها، يقول الله عز وجل: (( إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ )) (( أحيَيْنَا به )) سُقْنَاه فأحيينا هنا الأفْعال والضمائر على نَسَقٍ واحد، وقوله: (( أحيينا به الأرض )) يقول: " مِن البَلَد " ويش معنى "مِن البلد"؟ يعني أرْضَ البَلَد هذه التي كانت مَيِّتَة أحيَاهَا الله عز وجل بِماذا أحياها؟ أحياها بالنبات ولهذا قال المؤلف: " (( بعد موتها )) يُبْسِهَا أي أنبَتْنَا به الزَّرْعَ والكَلَأ " وهذا أمْرٌ مُشَاهد تأتِي الأرض يابِسَة هامِدة عيدان تَتَكَسَّر فيُنْزِلُ الله المطَر عليها ثم تهتَزّ خَضْرَاء فيها مِن كُلِّ زوجٍ بهِيج مَنِ الذي أحيَاها؟ اللهُ عز وجل، لا يستطِيعُ الخلْق أن يُحْيُوها أبدًا مهما كان، حتى الكلأ الذي ينْبُت بالمطَر لا يُنْبِتُه الماء الجَاري كما هو مشاهد، يعني لو تسقي هذه الأرض مهما سقيتَها بالماء الجاري فإنَّ الكلَأَ الذي ينبُت مِن المطر لا ينبُتُ بِهذا الماء، إذًا فالله عز وجل هو الذي أحيَا هذه الأرض بَعْدَ موتِها أي بعد أن كانت يابِسَة هامِدة ليس فيها نَبَات أحياها اللهُ سبحانه وتعالى بِقُدْرَتِه
قال: (( كَذَلِكَ النُّشُورُ )) أيِ البَعْثُ والإحيَاء " (( كذلك )) الكاف هنا اسم بمعنى (مِثْل) وهي خَبَرٌ مُقَدَّم، و(( النشور )) مُبْتَدأ مُؤَخَّر أي النُّشُورُ مِثْلُ ذلك، ويجوز أن تقول: (( كذلك )) الكاف حرف جر ليست بمعنى (مثل) يعني ليست على ...اسم وتجعلها جَارًّا ومَجْرُورًا خَبَرًا مُقَدَّمًا، والنشور مبتدأ مُؤَخَّر، والتقدير: النُّشُور كَائِنٌ كذلك، والنُّشُور هو نَشْرُ الأموات على وَجْهِ الأرض وإحيائُهم بعد أن كانوا أمواتًا، والتشبيهُ هنا هل هو تشبيهٌ للسبب والنتيجة أو للنتيجةِ فقط؟ أي: هل المعنى أنَّ النُّشُورَ الذي يكون للأموات يكونُ بواسطة ماءٍ يُنْزِلُهُ الله عز وجل فَتَنْبُت هذه الأجسَام ثم تَحْيَا، أو أنَّ التشْبِيهَ للنتِيجَة فقط أي أنَّ إحياءَ الموتى كإحياءِ الأرض بقَطْع النظر عن السَّبْب نعم؟ الأوَّل، لأنَّه ورَدَ عن النبي عليه الصلاة والسلام أنَّ الله تعالى يُرْسِل على الأرض مَطَرًا مِن تحت العرش مطَرًا غليظًا حتى يصِل إلى الأجسام فتنْبُت في القُبُور كما تنْبَتُ الحبَّة في الأرْض، فإذا تكامَلَتِ الأجْسَام نُفِخَ في الصور فخرَجَتِ الأرواح إلى أجسامِها، وعلى هذا فيكونُ التشبيه هنا عائدًا إلى السبب والنتيجة أيضًا، هذا هو المشهُور عند أهل العلم، يقول: (( كذلك النشور )).