تفسير قول الله تعالى : (( ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود )) حفظ
(( ألم ترَ أنَّ الله أنزَلَ مِن السَّماء ماءً )) إلى آخرِه، فيما سبَق: أنَّ الله أنزلَ مِن السماء ماءٍ فأخرجْنَا به إلى آخره، والاستفهام هنا للتقرير وهذا هو الغالب فيما إذا أَتى حرفُ النفي أو إذا أتَت أداة النفي بعد همزة الاستفهام أن يكونَ للتقرير مثل: (( ألم نشرح لك صدرَك )) (( أليس ذلك بقَادِر على أن يحيي الموتى )) (( أليس اللهُ بكافٍ عبده )) وأمثال ذلك، فإذا أتت أداةُ النفي بعد همزة الاستفهام فالغالِب أن يكون الاستفهام للتقرِير، وقوله: (( ألم تر )) حُذِفِت الألف للجَازِم، لأنَّ اللام تجزِم والفعْل المعتل يُجْزَم بحذف حرف العلة، وقوله: (( ومِن الجبال جُدَدٌ )) مبتدأ وخبر والخبرُ فيها مقدم، وهو قولُه (مِن الجبال)، وقوله: (( مختلفٌ ألوانها )) صفة لـ(جدد) وقوله: (( سُودٌ )) قيل: أنَّه على التقديم والتأخير أي وسُودٌ غَرَابِيب وقيل أنَّه على الأصل وأنَّ (سود) تقع موقِع التوكيد مما قبلَها لأنَّ الغِرْبِيب هو الشديد السواد، قوله: (( ألم تر )) قال المؤلف: " تعلم " فالرُؤْية هنا عِلْمِيَّة، وعُلِّقَتْ عن العمل بـ(أنَّ) وما دخلَتْ عليه فإنَّ (أنَّ) وما دخلَتْ عليه تُعَلِّق أفعال القلوب عن العمَل، ويحتمل أن تكون الرؤية هنا بَصَرِية يعني: ألم تَنْظُر وتُبْصِر لأنَّ ما ذُكِر يُرَى بالعين وما كان يُرَى بالعين فإنه يجوز أن يُرَاد به الرؤية بالعين، لكن إذا جعلناها عِلْمِيَّة كان ذلك أعمّ، لأن هذا الأمر قد لا تراه بعينك ولكن تسمعُه في بلاد أخرى غيرِ بلادِك، وقوله: (( أنَّ الله أنزل من المساء ماء )) المراد بالسماء هنا العُلُو والمراد بالماء المطَر، وليس المرادُ بالسماء الأجرام السمَاوية المعروفة، لأن الماء إنما ينزِل مِن السحاب، والسحاب عالٍ ولكنَّه بين السماء والأرض، وقوله: (( فأخرجْنا به )) قال: " فيه التفاتٌ عن الغَيْبة " ( أنزَل من السماء ماءً فأخرجنا به ) لو كان الكلام على نسقٍ واحد لقال: فأخرَجَ به بضمِير الغيبة، لكنه صارَ فيه التفات عن الغيبة إلى التكلم (فأخرجنا به) والالتفات فيه فائِدة بل فوائِد، فيه فائدة مشتركة في جميع موارِدِه ومواضِعِه وهي تنبيه المخاطَب، لأن الكلام إذا كان على نسقٍ واحد استمَرَّ الإنسان معه ولم يكن هناك شيءٌ يُوجِب أن ينتَبِه ويتفَطَّن، فإذا اختَلَفَ السياق مِن غيبَة إلى تكَلُّم أو إلى خِطَاب أو ما أشبه ذلك فإنَّ الإنسان ينتبه يعني كأنَّه يكون عَلَمًا على تغيُّر الأسلوب لِينْتَبِه المخاطَب، الفائدةُ الثانية هنا قوله: (( فأخرجنا به )) فإن (نا) هذه تُفِيد التعظيم لأنَّ الإخْرَاج أعظم مِن الإنزَال بالنسبة لِلنعْمَةِ علينا فإنَّه لو نزَلَ المطر ولم يخرُجِ النبات لم نَسْتَفِد مِن المطر كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم: ( ليست السَّنَة ألا تُمْطَرُوا إنَّما السَّنَة أن تمْطَرُوا فلا تُنْبِتُ الأرضُ شيئًا ) فلَمَّا كان إنعامُ الله تعالى بإخراجِ النبات أعظَم صارَ الالتفاتُ إلى التَكَلُّم أولى لِعِظَمِ المِنَّة فيه، قال: (( فأخرجنا به ثمراتٍ مختلف ألوانها ))، وهنا قال: (( أخرجنا به ثمرات )) ولم يقل: أخرجنا به نبات وقد قاله في آية أخرى: (( فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا ))[الأنعام:99] لكن هنا قال: (ثمرات)، لأن المقصود مِن هذا الخارج هو الثمرة فبيَّنَ الله سبحانه وتعالى الغاية المقصودة وهي الثَّمَرَات.
قال: (( مختلفًا ألوانها )) كأخضر وأحمر وأصفر وغيرِها " وهذا يدُلُّ على قُدْرة الله هذه الثمرات مختلفٌ ألوانُها، وكلمة ألوان يحتمِل أن يكون المراد ما ذكره المؤلف وهو اللَّون المخْتَلِف للحمرة والصفْرة والخُضْرة وما أشبه ذلك ويحتمل أنَّ المراد بالألوان الأصناف فإنَّ الألوان تُطْلَق على الأصناف كما قال الإمام أحمد رحمه الله في صلاة الليل في قيامِ رمضان قال: "رُوِيَ في ذلك ألوان " أي أنواع وأصناف، وإذا نظرتَ إلى الخارج من الأرض وجدت أنَّه ذو ألوان في شكْلِه وذو ألوان في أنواعِه وأصنافِه ما بين حُلْو ومُرّ ومتوسط وحامِض وغير ذلك مما هو معلوم، وهذا الأخير إذا قلنا: إنَّ المراد بالألوان .. الأنواع أشمَل مِمَّا إذا قلنا: إنَّ المراد بالألوان اختلاف الشكل، وقد مرَّ علينا قاعدة بأنَّه كلَّما كان المعنى أشمَل في بابِ التفسير كان أولى، لأنَّ الأشمل يعُمّ الأخص وغيرَه بخلافِ الأخَصّ. قال: (( مختلفًا ألوانها ومِن الجبالِ جُدَدٌ )) هذه جملة استئنافية يُبَيِّن الله عز وجل فيها كمالَ قدرته أيضًا بالنسبةِ للأرْض وطبقاتِها، قال: (( ومن الجبال جُدَد )) جمعُ جُدَّة طَرِيقٌ في الجبَلِ وغيرِه " مِن الجبال جُدَد يعني الطُّرق يعني شيْء يشبِه الطُّرُق لاختلافِه عن بقِيَّةِ الجبَل وهو مختَلِفٌ في اللون ومختلف في الماهِيَّة أيضًا، نحن نرى بعض الجبال الآن ولاسِيَّمَا إذا فُتِح الجبل نرى في أثنائِه خُطوطًا قد تكون سوداء وقد تكون حمراء وقد تكون بُنِّيَّة وقد تكون بيْضَاء المهِم أننا نجد فيه خطوطًا تخالِف بقِيَّة الجبل، هذه الجُدَد التي ذكرَها الله عز وجل هنا، فالجبال تختلف أيضا ألوانُها وهذه الاختلاف في اللون يعني الاختلاف في الماهِيَّة والحقيقة، ليس الحصَاةُ السوداء كالحصاة البيضاء أو الحمراء أو ما أشبهَها مما يخالفها في اللون بل لا بُدَّ أن يكون هناك اختلافٌ في طبِيعَة هذه الحصاة كما كان اختلافُ الثَّمَرَات في ألوانِها يدل على اختلافِها في طعومِها وفي ماهِيَّتِها، قال: جُدَدٌ بِيضٌ وحُمْرٌ ذكَرَ الله عز وجل (بيض وحمر) وكان من المتوقع أن يقول: بيضٌ وسود، لأن هذا هو المعروف في مُقَابَلَةِ البياض أن يُقَابَل بالسَّوَاد، لكنه قال: وحُمْر، لأنَّ الحمرَ أقربُ إلى البياض مِن السُّود، وستُذْكَر في قولِه: (وغرابيب سود) هذه الجُدَد بيض وحُمْر قال المؤلف: وصفر " ونحن ربما نقول أيضًا: وزُرق وغيرِ ذلك مِن الألوان فاللهُ عز وجل لم يذْكُرْ هذين اللونين للحَصْر وإنما هو على سبيل التمْثِيل، قال: (( جدد ))
(( مختلفٌ ألوانها )) بالشِّدَّة والضَّعْف "
هنا فسَّرَ المؤلف الألوان بماذا؟ بالماهِيَّة ولَّا الأشكال؟ بالماهِيَّة، لأنه قال:" الشدة والضعف: ولم يقُلْ باللون اللي هو أحمر وأبيض، على كل حال الألوان كما قلنا آنفًا تُطْلَق على الأنواع أحيانًا، طيب هذا الاختِلاف في ألْوَان أحجَار الجِبَال كالاخْتِلَاف في ألوَان الثِّمَار.
(( وغرابِيبٌ سود )) عَطْفٌ على جُدَد أي صُخورٌ شديدة السَّواد يقال كثيرًا: أسْوَدُ غربِيب ويُقَالُ قليلًا: غربِيبٌ أسوَد "
الغَرَابِيب جمع غربيب، والغربيب شديدُ السواد وكان مُقتضَى الترتِيب أن يُقَال: وسُودٌّ غرابيب ولكنَّ الله تعالى قدَّم قال: غرابِيبُ سُود، فعلى هذا زَعَم بعضُهم أنَّ في الكلام تقديمًا وتأخيرًا، وقال بعضُهم: بل هو على ترتِيبه ليس فيه تقدِيم وتأخير ولكن الله سبحانه وتعالى بيَّن الأسود الشَّدِيد السَّواد قبل بَيَان مُطْلَق السواد، هذا أيضًا مُشَاهَد ولَّا غير مُشَاهَد؟ نجِد في الجبال طُرُق يعني كالطَّرِيق أو كالخَطّ أسْوَد خالِصًا وإلى جانبِه طريقٌ أبيَض أو أحمر أو ما أشبَه ذلك كلُّ هذا دليلٌ على قُدْرَة الله عز وجل، (( وغرابيب سود )) نعم، فنجِد نحنُ أنَّ هذا الاختلاف في الجبال هو كالاختِلاف في الثمرات