فوائد قول الله تعالى : (( إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور )) حفظ
(( إنَّ الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة )) إلى آخره يستفاد مِن هذه الآية فوائِد منها فضْلُ تلاوة كتاب الله عز وجل لقوله: (( يرجون تجارة لن تبور )).
ومنها أنَّ الرَّجَاء ينبغي أن يَكون في محلِّه بحيث يكون الإنسان قد عَمِلَ عملًا يرجُو الثواب عليه أمَّا الرجاء بدون عمل فهو مِن التمَنِّي الذي لا ينفَعُ العبد وفي الحديث: ( الكَيِّسُ من دانَ نفسَه وعَمِلَ لِمَا بعد الموت، والعاجِزُ مَن أتبَعَ نفسَه هواها وتَمَنَّى على الله الأماني ) فلا رجاءَ إلا بعَمَل، وفي الحديث الصحيح أيضًا: ( لا يموتَنَّ أحدُكم إلا وهو يحسن الظن بالله )، وفي الحديث الصحيح: ( أنا عند ظنِّ عبدِي بي ) وكلُّ هذه النصوص وما أشبهها إنَّما تكون فيمن يعمَل ما يمكن أن يرجُوَ به ذلك، وأن يُحْسِنَ به الظن، لو أنَّ أحدًا أساء واستكْبَرَ عن عبادَةِ الله وقال: أنا أحسنُ الظن بالله. لكان هذا ظَنَّ وهْم لا بُد مِن شيء يبنِي عليه هذا الظن، لو قال: أنا أرجو رحمة الله. قلنا: هذا وهم حتى تعْمَل، ولهذا قال تعالى في سورة البقرة: (( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ))[البقرة:218] هؤلاء هم الذين يرجون، وهنا أيضًا مثلُه.
مِن فوائد الآية الكريمة أنَّ الثوابَ في الآخرة لا ينقَطِع، لقولِه: (( لن تبور )) بل ربما نقُول: إنَّ هذا أعَمّ بحيث يُثَابُ الإنسان في الدنيا ثوابًا مُسْتَمِرًّا إلى الآخرة لأَن الحسنات قد يرَى الإنسان ثوابَها في الدنيا، وثوابُها في الدنيا يستمِرّ إلى ثواب في الآخرة كما قال الله تعالى: (( كذلك يجزي الله المتقين * الذين تتوفاهم الملائكة طَيِّبِين يقولون سلام عليكم ادخُلوا الجنة )) طيب
ومِن فوائد الآية الكريمة فضْلُ إقامةِ الصلاة لقولِه: (( وأقاموا الصلاة )) وهو شامِل -كما قلنا في التفسير- شاملٌ لفرضِ الصلاة ونفلِها فما تُقامُ به الفريضة تقام به النافلة وما تقامُ به النافلة تقام به الفريضة إلا بدليل يدُلُّ على الفرق بينهما، وأظنُّنَا قد جمعْنَا الفُرُوق بين فرضِ الصلاة ونفلِها فبلغَت ثمانيةً وعشرين فرقًا منها ما هو واضِح دلَّتْ عليه السُّنَّة ومنها ما هو دون ذلك، فالمهم أنَّ الأصل أنَّ إقامةَ الفريضة إقامةٌ للنافلة وإقامةَ النافلة إقامةٌ لِلفريضة هذا الأصل، فما ثبَتَ في إحداهما ثبتَ في الثاني إلا بدَلِيل.
ومن فوائد الآية الكريمة أيضًا فضيلةُ الإنفاق نعم لأنَّه أعْقَبَ الصلاةَ به: أقاموا الصلاة وأنفقوا، وهو يدل على أنَّ هذا الانفاق يشمَل الزكاة وغيرَ الزكاة، لأنَّ الله تعالى يقرِنُ دائما في الذكر بين الصلاة والزكاة.
طيب ومِن فوائدِ الآية الكريمة أنَّ المنْفِق ليس مانًّا على الله عز وجل لأنَّه إنما يُنْفِق مما رزقَه الله، فمهما بلَغَتْ بك نفسُك من الإعجاب والكبرياء على إنفاقِك فاذكُر قولَه: (( مما رزَقْناهم )) كُلُّ شيء تنفقُه فليس لك فيه مِنَّة على الله عز وجل بل للهِ المنةُ عليك به في إيجادِه وفي إنفاقِه: في إيجادِه، لأنَّه لولا أن الله رزقَك ما حصل لك، وفي إنفاقِه لأنَّ كثيرًا مِن الناس يبخَلُون بما آتاهم الله مِن فضلِه (( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ ))[آل عمران:180]، فمِن نعمةِ الله عليك أن يَمُنَّ عليك بالإنفاق بعد أن مَنَّ عليك بالرزق والعطاء.
ومن فوائد الآية الكريمة أيضًا أنَّ الإنفاق لا نَقُول: إنَّ الإسرارَ فيه أفضَل، ولا إنَّ الإعلان فيه أفضَل بل هو بحسَب الحال، فتارةً يكون الإنفاقُ سرًّا أفضل وتارة يكون الإنفاق علنًا أفضل، حسَب ما تقتضيه الحالن بخلاف الصَّدقَة فالأصلُ فيه السِرّ قال اللهُ تعالى: (( إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ))[البقرة:271] لأنَّ الصدقة فيها نوعُ مِنَّةٍ على المعْطَى فربما ينكَسِر أمامِ الناس إذا أُعْلِنَتِ الصَّدَقَةُ له فصَارَ إخفائُها أفضَل، وفي الحديث الصحيح في الذين يُظِلُّهم الله في ظِلِّه: ( رجلٌ تصدَّقَ بصدَقَةٍ فأخفَاها ) أمَّا الأشياء العامَّة والمعْلَنَة كما لو أردنا أن نُنْفِقَ في مشروع خيرِيٍّ عام لا يظهَر فيه مِنَّة على شخصٍ مُعَيَّن فهنا قد يكونُ الإعلان فيه أفضَل، وكذلك لو أنَّ شخصا جاء إلينا وقال: أرجو أن تجمعوا لي مِن الناس فهنا ربما يكون الإعلان أفضَل مِن أجلِ أن يَقْتَدِي بك غيرُك، وهذا الرجل الذي طَلب مِنَّا أن نجمَعَ له لا يَهُمُّه أن يعلمَ الناس بأنَّه يُتَصَدَّقُ عليه أو لا يُتَصَدَّق، المهم أن نقول: إنَّ السرّ والإعلان في الإنفاق كلُّه خير لكنِ الصدقة الأفضل فيها السِّرّ لما في إظهارِها مِن كسر قلب الـمُعْطَى، نعم، وأمَّا الأشياء العامة أو الصَّدقة على شخصٍ معين هو الذي طلبَ منَّا أن نجمَعَ له مثلًا فهذا قد يكونُ الإعلان فيه أفضل.
ومِن فوائد الآية الكريمة التنْبِيه على الإخلاص لقولِه: (( يرجُون تجارة )) لا يُريدون تجارَةً تبور وتهلِك يعني لا يريدونها سُمْعَة، لأنَّ السمعة والجَاه بين الناس لا شكَّ أنه كَسبٌ للمرء ويعتَبَرُ تجارَة لكن هذه تجارَة هالِكة تَزُول بزوالِ الشخص أو تزُول بزوال ما اشتهَرَ به، لأن مَن حُمِدَ على شيء ذُمَّ على فقدِه، لكن الذي يرجُو ثواب الله ويُحسِن النية والقَصْد هذا هو الذي حصَلَ على تجارة لن تَبُور، ففيه التنبيه على ايش؟ على الإخلاص وأنه ينبغي للإنسان أن يكُون مخلصًا لله تعالى في عَملِه اللازِم أو القاصِر والمـُتَعَدِّي، القاصِر كالصلاة، والمتعدي كالصدقة