تفسير قول الله تعالى : (( جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير )) حفظ
قال الله تعالى: (( جنات عدن يدخلونها )) هذا بيانٌ لثوابِ هؤلاء الأصناف الثلاثة (( جنات عدن )) إقامَة (( يدخلونَها )) عند الثلاثةِ بالبناء للفاعل والمفعُول خبر (جنات) المبتدأ " طيب بالبِناء للفاعل يَدْخُلُونَها، وبالبناء للمفعول يُدْخَلُونَها، وهم إذا أُدْخِلُوا فقد دَخَلُوا ولَّا لا؟ فكأَنَّ القراءَتَيْن واحِد لكن يستفاد مِن كلمة يُدخَلُونها بيان أنهم يُعْطَوْنَهَا كرامَةً فتُقَدَّم إليهم حتى يدخلُوها لكن يدخُلُونَها بدون أن يُقال: يُدخَلوُنها فإنَّ الداخل قد يدخُل كرامة وقد يدخل مِن ذات نفسِه، لكن إذا أُدخِلَها كأنها قُدِّمَتْ لهم على سبيل الكرامَة حتى يدخلوها، وقوله: (جنات عَدْن) جَنَّات جمع ايش؟ جمع جَنَّة قال العلماء: والجنَّةُ البستانُ الكثيرُ الأشجار وسُمِّيَ بذلك لأنَّه يستُرُ مَن كان داخله والله أعلم.
(( جنات عدن يدخلونها )) عَدْن بمعنى إقَامَة يعني أنَّ هذه الجنات جنَّاتُ إقامَة لا ظَعْنَ فيها، بل هم خالِدُون فيها أبدًا، ومع ذلك ليس واحدٌ منهم يتمنَّى أن يتحوَّل عمَّا قال الله تعالى: (( لا يبغُون عنها حِوَلًا )) بخلاف الجنَّة فإنَّ الإنسان لو كان في أحسَن ما يكون مِن البساتين لتَمَنَّى أن يتحَوَّل إلى ما هو أحسَن منه وأفضَل منه لكن في الآخرة كلّ واحد مِنهم يرى أنَّه في مكانِ إقامَةٍ لا يريد أن يتحول عنه، وهذا لا شك أنَّه مِن كمالِ النعيم أن يستقِرَّ الإنسان وأن يرَى أنَّه في أكمَل ما يكون حتى لا تتَشَوَّف نفسُه إلى نعيمٍ أعلى فيتنَغَّصُ نعيمُه، لأنه من المعلوم أنَّ الإنسان إذا رأى أنَّه دون غيره وإن كان في مَقامٍ أمين وإن كانَ في مقام مُنَعَّمٍ فيه لكن يتنَغَّصُ عليه ذلك لكونِه يرى أنَّ غيرَه أفضلُ منهم.
طيب قال: (( يدخلونها )) بالبناء للفاعِل وللمفعُول خبرُ (جنات) "
جناتٌ مُبتدأ وجملَة (يَدْخُلُونها) أو (يُدْخَلُونها) خبر، (يُحَلَّوْن) خبرٌ ثان ولا تصِحُّ أن تكونَ حالًا مِن الفاعل، وذلك لأنَّ تحليتَهم بذلك بعد الدخول ولو قلنا: (يدخلونها) حال َكونِهم يُحَلَّوْن لَلِزِم مِن ذلك أن تَكُونَ التحْلِية حين الدخول أو قبلَه، طيب (يُحَلَّوْن) خبرٌ ثاني وهل يجُوز أن يتعَدَّد الخبر؟ الجواب: نعَم، وهذا في القرآن كثير قال الله تعالى: (( وهو الغفور الودود * ذو العرش المجيد )) الخبر العام كم؟ أربعة: الغفورُ، والودود، وذو العرش، والمجيد فتعَدُّد الأخبَار جائِز في اللغة العربية (يحلون فيها) أي في هذه الجَنَّات مِن قال المؤلف: " بعض "فأفادَنا أنَّ (مِن) هذا ليست بيانِيَّة بل هي تبعِيضِيَّة ولو قيل: إنها بيانِيَّة لكان له وجهٌ جيد، لأنَّ التحلِيَة لا تتعَيَّن في الأَسَاوِر إذا قد يُحَلَّى الإنسان بالخُلُوف مثلا أو بالقَلَائِد أو ما أشبه ذلك، فجعلُها بيانِيَّة أولى مِن جعلِها تبعِيضِيَّة لأنَّك إذا قلت: يحلونَ بعضَ أساوِر لم تَكُن التحلية بالأَسَاور وإنما يحلَّونَ بعضَها إلَّا إذا قلت: نعم أقول إنها تبعيضية لأنَّ الأساور المذكُورة هنا نوعان فقط: ذهَب ولؤلؤ مع أنَّ لهم حلية أخرى وهي الفِضَّة كما قال الله تعالى: (( وحُلُّوا أساور من فضل وسقاهم ربهم شرابا طهورا )) فإذا جعلْتَها تبعيضِيَّة باعتِبَار أنَّ الأساوِرَ المذكورة مِن نوعين وبقي نوعٌ ثالث لم يُذْكَر صارَ القول بأنَّها للتبعيض له وجْه، وقد ذكرْنا مِرارًا كثيرة أنَّه إذا احتَمَل اللفظ معنيَيْن لا يتنافيان فإنه يُحمَل عليهما فيمكن أن نجعل (مِن) هنا مشتركة بين كونِها بيانيَّة وبين كونِها تبعيضِيَّة، بين كونها بيانية لأنَّ التحلية تكون مِن الأساور وغيرها فتكون (من) هنا مُبَيِّنَةً ما يتحلَّون به، وتبعيضية لأنَّه ذُكِر مِن الأساور هنا نوعَان وبقي نوع ثالث لم يُذْكَر، (( يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤًا )) وش عندكم؟ مُرَصَّعٍ بالذهب " مرصع .. عندكم ... مِن ذهب ولؤلؤ، أما (من ذهب) فهي مجرُورة لا شكَّ فيها لأنَّها دخلت عليها (مِن)، وأما (لؤلؤ) فهي عندي منصوبَة هي عندكم كذلك؟ ولكنَّ قولَه (مرصَّع) يدلُّ على أنَّها مجرورة كما هي القراءَةُ الثانية، ولهذا ينبغي أن نُصَحِّح (لؤلؤًا) ونجعلها بالجَر بنَاءً على تفسيرِ الجَلَال، ... (مِن ذهبٍ) مجرورة عندكم، ولؤلؤٍ ... في القرءان ولؤلؤٍ أي نعم في المصحَف المفسَّر ما هو المصحف اللي في الأصل، طيب و(لؤلؤٍ) ما الدليل على أنَّه ولؤلُؤٍ لأنَّه قال: مرصَّعٍ، لو أنَّه أراد قراءَة النَّصْب لقال: مرصعًا، إذًا نقول: (لؤلؤ) فيها قراءَتان سبعِيَّتَان إحداهُما بالنصب (ولؤلؤًا) وعلى هذا تكونُ معطوفَة على محَلّ (أساوِر) يعي يحلَّوْن فيها أساوِرَ ولؤلؤًا أساورَ مِن ذهب ويحلَّون لؤلؤًا أيضًا، وأمَّا بالجر و(لؤلؤٍ) فهي معطوفَة على (مِن ذهب) يعني يحلَّون فيها أساور مِن نوعين مِن ذهب ولؤلؤ، أضِف إليها حُلُّوا أسَاوِر مِن فضة تكونُ أساورُهم مِن ثلاثةِ أنواع: مِن الذهب واللؤلؤ والفِضَّة، ولا نشُكّ أنَّ السِّوَار مِن الذهب مُجَمِّل وفيه جمَال لذاتِه وكذلك السِّوَار مِن الفضة، وكذلك السُّوار من اللُّؤْلُؤ، فكُلُّ واحِدٍ منها على حِدَة فيه جمَال وتجمِيل فإذا اجتمعَت الثلاثة وصُفَّ بعضُها إلى بعض تولَّد مِن ذلك تجمِيلٌ أكبَر، ولا أحدَ يتصَوَّر كيف تُجْمَع هذه الثلاثة هل يكونُ اللؤلؤ بين الذهَب والفضة أو الذهَب بين اللؤلؤِ والفضة أو اللؤلؤ بينهُما المهِم أنَّ ترتيبَها هذا لا أحد يتصوَرَّه الآن لكن الذي نؤمِنُ به أنَّ هذه الثلاثة تُجمَع أمَّا كيف تجمَع فاللهُ أعلم به، لكنَّنا أيضا نعلم بأنَّ جمعَها أي الثلاثة له زيادةٌ في التجمِيل، طيب واعلَم أن الذَّهب الذي يُذكَر في نعيم الجنة والفضة واللؤلؤ ليستْ كالذهب الذي نشاهدُه الآن أو الفضة أو اللؤلؤ بل هو ذهبٌ أعظَم ذهبٌ يليقُ بنعيمِ الجنَّة كما أنَّ النخل والرمان والفاكهة والعسل واللبن والخمْر وما أشبهَ ذلك ليس كالذي يوجَدُ في الدنيا لِماذا؟ لأنَّ النعيم يناسِبُ الدار فإذا كانت دارُ الدنيا لا تُشابِه دارَ الآخرة فالنعيمُ الذي في الآخرة لا يُساويه النعيمُ الذي في الدنيا، هذا مِن حيث المعقول أمَّا من حيث المنقول فقد قال الله تعالى: (( فلا تعلم نفسٌ ما أُخْفِيَ لهم مِن قرة أعين )) وفي الحديث القدسي: ( أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأَتْ ولا أذنٌ سمعَتْ ولا خطَر على قلب بشر ) واضح وأنتم تشاهدون الآن أنَّه لو جاءَكم رجُلٌ فقير وصنَع لكم أعلى ما يمكنه مِن الطعام الذي هو أحسَنُ شيء عنده ودعاكم رجلٌ غني وصنعَ لكم أعلى ما يجد مِن الطعام عنده لعرفْتُم الفرقَ العظيم بين هذا وهذا مع أنَّ كل واحد منهم أتَى بكلِّ ما يستطيع، كذلك الفرق بين نعيم الآخرة ونعيم الدنيا، فالذهبُ إذًا يوافقُ الذهب في الدنيا في الاسم ولا يوافقُه في الحقيقة قال ابن عباس رضي الله عنهما: " ليس في الآخرة مما في الدنيا إلا الأسماء " فقط أمَّا الحقائق فتختلِف، طيب يقول: (( من ذهب ولؤلؤ )) مرصَّع بالذهب" وقولُه (مرصع بالذهب) قد يعارَضُ المؤلف في ذلك إذ قد يُقال: إنَّ اللؤلؤ مُستَقِلّ حِلْيَة مستقلة نعم، ويدُلُّ لذلك قراءة النصب ولؤلؤا يعني يحلَّون لؤلؤًا، أمَّا على قراءة الجَرّ فما ذهب إليه المؤلف محتَمِل غير مُتَعَيِّن أنتم معنا الآن؟ طيب هو يرى رحمه الله أنَّ اللؤلؤ ليس مستقلًّا بل هو مُرَصَّع بالذهب كما يوجد في حليّ الدنيا، ولكنَّنا لا نُسَلِّم ما قال، بل ظاهرُ الآية الكريمة أنَّ اللؤلؤ سوارٌ مستقِلّ، ويبيِّنُ هذا قراءةُ النصْب ( يحلون فيها أساور من ذهب ولؤلؤا )) يعني يحلَّون لؤلؤًا فجل حلية اللؤلؤ حليةً مستقِلَّة طيب، (( ولباسُهم فيها حرير )) لَمَّا ذكرَ ما يُلْبَسُ في اليد ذكرَ اللباس العام على جمِيعِ البدن فقال: حرير لباسُهم في الجنَّة حرير، وحريرُ الجنة ليس كحريرِ الدنيا الذي تفرزه أو تصنَعُه دودَةُ القَز هو وقابل لكل آفَة بل حرير الآخرة حريرٌ لا يماثِلُ شيئًا مِن حرير الدنيا أبدًا