تفسير قول الله تعالى : (( الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب )) حفظ
(( الذي أحلنا دار المـُقامة من فضلِه )) قولُه: (الذي) هنا يجُوز أن تكون صفةً لما سَبقَ وهو (الله) (( الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن )) (( الذي أحلنا ))، ويحتمِل أن تكون استئنافًا يعني أنَّها في محل رفع على القطع لأنَّ المنعوت إذا عُلِم وتعدَّد النعْت له جازَ في النعت الثاني القطْعُ والإتمَام، كما قال ابن مالك:
وإن نعوتٌ كثُرَت وقد تَلَتْ مُفتقِرًا لِذكْرِهِنَّ أُتْبِعَتْ
وإن لم يكن مفتقِرًا جازَ القطْع (( الذي أحلَّنا )) أي أنزلنا (( دار المقامة من فضلِه )) دار المـُقامة، المقامَة هنا بمعنى الإقَامة فهي إذًا ظرف مكان، أو أنَّها مصدر مِيمِيّ دخلتْهُ التاء، ودارُ المقامة هي دارُ الجنة ووُصِفَت بذلك لأنَّ ساكنِيها مُقِيمُون فيها أبدًا، ولأنهم لا يريدون الإقامة في غيرها، كل واحد منهم لا يبغِي حِوَلًا عما هو فيه لأنَّه يرى أنَّه أكملُ أهل الجنة، نعم بل أن الله أقنَعهم بما هم عليه من النعيم حتى لا يتطلَّعوا إلى نعيمٍ أكبر فيحتقِرُوا ما هم فيه، بخلافِ أهل النار فإنّ أهلَ النار كلُّ واحد منهم يرى أنَّه أشدُّ أهل النار عذابًا لأنه لَو يرى أن غيرَه يماثلُه أو أنَّ غيره أشدُّ منه لهانَ عليه العذاب، (( الذي أحلَّنا دار المقامة مِن فضله )) (مِن) سببِيَّة هنا أي بسبب فضلِه أي تفضُّلِه عليهم لأنَّه لولا فضلُ الله عليهم ما وصلوا إلى هذا المقام العظيم فكلُّ ما في الإنسان مِن خير ونعمة فمِن الله سبحانه وتعالى كما قال تعالى: (( وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأَرون )) فإحلالُهم دارَ المقامة هو مِن فضلِ الله تعالى، وهذا مِن تمام شكرهم لله حيث اعترفُوا له بالفضل بخلاف الذي إذا أصابته النعماء قال: هذا لي أو هذا مِن عندي أو ما أشبهَ ذلك.
(( لا يمسُّنا فيها نصَب )) تعَب (( ولا يمسُّنا فيها لُغُوب )) إعياءٌ من التعب " لا يمسُّنا فيها نصَب أي تعب، ومعنى يمسُّنا أي يُصيبنا كما قال الله تعالى: (( إن تمسسْك حسنة تسؤهم وإن تصبْكَ مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرَنا من قبل )) فالمسّ بمعنى الإصابة، وقوله: (نصب) تعب (لُغوب) إعياء " لأنَّ هناك تعبًا مباشِرًا ينال الإنسان حين الفعل، وإعياءً يكون أثرًا للتعب أليس كذلك؟ أنت إذا مارست عملًا شاقًّا فإنك حين ممارستِه تتعَب، ثم بعد انتهائه تُعْيِي يعني تضعف وتخلُد إلى الراحة وإلى النَّوم، في الجنة ليس فيها نصَب يعني تعب بدني حين مزاولة الأعمال، ولا لُغوب أي إعياء وهو الناتج عن التعب، طيب قال: " إعياء مِن التعب لعدمِ التكليف فيها " هذا تعلِيلٌ عليل، لأنَّ التكليف حتى في الدنيا غالبُه ليس فيه تعب، بل إنَّ بعضه يكون راحةً للبدن وراحة للقلب وتنشيطًا للبدن وصِحَّةً له، وليس هذا هو المقصُود الأول في العبادات لكنُّه يحصُل مِن ممارسة العبادة يحصُل مِن ذلك النشاط والصِّحَّة كما هو موجود مثلًا في الصلاة موجُودٌ في الصيام موجود في الحج فليس هناك تعب في الأعمال الصالحة بل نقول: (لا يمسنا فيها نصب) هذا مِن باب الصفات السلْبِيَّة المتضمنة لكمال ضدِّها، فلا يمسنا فيها نصَب ولا يمسُّنا فيه لغوب لِكمال نعيمهم وراحتِهم وأُنسِهم وفرحِهم وما أشبه ذلك، طيب يقول: " لعدم التكليفِ فيها وذكرَ الثاني التابعَ للأوَّل للتصرِيحِ بنفيِه " ذكَر الثاني وهو (اللغوب) التابع للأول وهو (التعب) لأن اللغوب -كما قلنا قبل قليل- نتيجة التعب فكأنَّ المؤلف أجابَ عن سؤال كأنَّه قيل: إذا انتفى التعب انتفى اللغوب الذي هو نتيجتُه فلماذا لم يُقتصَر على نفيِ التعب، وقال لا يمسنا فيها نصب وإذا انتهى النصب انتهى اللغوب؟ واضح؟ أجابَ عن ذلك بأنَّه ذكر مِن أجل التصريح بنفيِه، هذا ما ذهب إليه المؤلف، ولا شكَّ أنه وجهٌ حسن لكن ربما نقول: إنَّ الإنسان أحيانا يجد إعياءً وكسلًا وموتَ قُوَى بدون عمل وبدون تعب، وهذا مشاهد، وعليه فيكون نفي اللغوب أمرًا ليس تأكيدًا وإنَّما هو أمر أساسي، كيف أمر أساسي؟ لأنَّ الإنسان قد يجد إعياءً أحيانا وهو ما اشتغل، ألم تجدوا ذلك؟ إذًا نقول: إن ذِكرَه أساسي وليس مِن باب التصريح بنفيِه الذي لا يُقصَد منه إلا مجرَّد التوكيد، المهم أنَّ أهل الجنة لكمالِ نعيمِهم لا يمسُّهم فيها نصَب ولا يمسُّهم فيها لغوب