تفسير قول الله تعالى : (( وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير )) حفظ
(( ربنا أخرجنا نعمَل صالحًا غير الذي كنا نعمَل )) قال المؤلف: (( يصطرِخون فيها )) يستغِيثُون بشِدَّة وعوِيل " قوله: (يصطرخون فيها) هذه مِن الصراخ والصراخُ معروف وهو رَفْعُ الإنسان صوتَه أشدَّ ما يكون، وقيل: (يصطرخون) فأُتِيَ بالتاء للمبالغَة في الصراخ كما يقال خَضَب واختضَب أيها أبلغ؟ (اختضَب) أبلَغ مِن (خضب)، صرخ واصطرخ (اصطرخ) أبلغ مِن (صرخ)، وقد ذكروا قاعدةً أغلبِيَّة في هذا المقام فقالوا: إنَّ زيادة المبنى تدل على زيادةِ المعنى، لكن هذه القاعدة أغلبية لأنها تنتقِض بشجَرَة وشجَر، وبقرة وبقَر فإنَّ (شجرة) زائدة المبنى على (شجر)، ناقصة المعنى، يعني الشجرة تدل على واحدة، وشجَر على جمع، لكن ما الغالب؟ أنَّ ما زاد في المبنى زاد في المعنى، فـ(اصطرخ) لاشك أنَّها أبلَغ مِن (صرخ)، فهم والعياذُ بالله يصطرِخُون هذا الاصْطِرَاخ العظِيم في النار يصطرِخُون فيها يقولون: (( ربَّنا أخرِجْنا نعمَل صالِحًا غيرَ الذي كنا نعمل )) (ربَّنا) الآن يُقِرُّونَ بالربُوبِيَّة وأنَّه لا يُغِيثُهم مِن الشِّدَّة إلا الله، وكانوا في الدنيا يستغيثون بـ(مَن)؟ بغيرِ الله بأصْنَامِهم وما يعبُدون مِن دون الله، أمَّا الآن فقد عرَفُوا أنَّه لا يُمكِن أن يُنجِيَهم مما هم فيه إلا الله، وقولُهم: (( أخرجنا نعمل )) أتت (نعملْ) بالجزم، لأنَّها جواب للطلب في قولِه: (أخرجنا) وإذا كان جوابًا للطلب كانَ كالشرط المقَدَّر، أخرجْنا إن تخرجْنا نعمَلْ صالحًا غير الذي كنَّا نعمل، هكذا يقولون: (ربَّنا أخرجْنا) يعني مِن النار (نعملْ صالحًا غير الذي كنا نعمل) ولكنَّ هذا القول ليس بصحيح، لأنَّ الله يقول: (( ولو رُدُّوا لعادُوا لما نُهُوا عنه )) وهذا كلامُ الله عز وجلَّ العالِم بما سيكون لو أخرجَهم، فهؤلاءِ يقولُون ذلك مِن باب الاعتذار وإلا فإنَّ قلوبَهم خاربة خرَبَت في الأول وستخرُب في الثاني فإذا نَجَوا مِن النار عادوا لما كانُوا عليه قال الله تعالى عنهم: (( ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل )) الأولى (نعملْ) مجزومة على أنَّها جواب الطلب، والثانية مرفُوعة، لتجردِها من الناصب والجازم (غير الذي كنا نعمَل) ما الذي كانوا يعملون؟ يعملون عملًا سيئًا لأنهم يشرِكُون بالله عز وجل ويستكبِرُون عن عبادتِه ولو رُدُّوا لعادُوا لما كانوا عليه مِن قبل ولهذا قيل لهم: (( أو لم نعمرْكُم ما )) أي وقتًا (( يتذكَّر فيه مَن تَذَكَّرَ وجاءَكم النذير )) الرَّسُول فمَا أجبْتُم " يقال لهم توبيخًا وتنديمًا وإقامَةً للحجة: (( أو لم نعمرْكم )) فمَن القائل؟ إن نظرْنَا إلى ظاهرِ الفعل قلنا: إنَّ القائل هو الله لأنَّ الذي عمَّرَهم هو الله عز وجل، ويحتمِل أن يكون القائلُ الملائكة لكن لَمَّا كانتِ الملائكة تقولُ بأمر الله صارَ كأنَّ القائل هو الله، فالملائكة تقول لأنهم جنود الله: (أو لم نعمرْكم ما يتذكر فيه مَن تذكر) وأيًّا كان فالمقصُود بهذا إقامة الحجة عليهم وتوبيخُهم وتنديمُهم، وقوله: (( أو لم نعمركم )) هذا السياق يُوجَدُ كثيرا في القرآن تأتِي همزةُ الاستفهام وبعدَها حرف العطف، وقد اختلف المعرِبُون في مثل هذا التركيب، فقيل: إنَّ الهمزة داخِلَة على مُقَدَّر يستفادُ مِن الكلام، وهذا المقدَّر عُطِفَت عليه الجملَة التي بعد حرفِ العطف، وقال بعضهم: بل إنَّ الهمزة داخلةٌ على الجملة الموجُودة لا على شيءٍ محذوف لكنَّها قُدِّمَت على حرف العطف، لأنَّ لها الصدارة فيكون التقدير في قوله: (( أو لم نعمركم )) وَأَلَمْ نُعَمِّرْكم، وتكون الواو هنا عاطفة على قولِهم: (( ربنا اخرجْنا نعمَلْ صالحا غير الذي كنا نعمل )) هذا مِن حيث الإعراب، أمَّا مِن حيثُ المعنى فكما أَشرْنا أولًّا إلى أنَّ المرادَ بذلك التوبيخ والتنديم وإقامَة الحجة يعني قد عمرْنَاكم تعميرًا واسعًا ووقتًا طويلًا يتذكرُ فيه مَن تذكر، لأنَّ الرسل جاءَتهم وأمهلتهم ودعتْهم ولكن أبوْا وأصرُّوا على كفرهم، وكان أولَ مَن أُرسِل مِن الرسل نوح عليه الصلاة والسلام فماذا يقول له قومه؟ (( وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ))[نوح:7] يجعلون أصابعَهم في آذانِهم لئلا يسمعُوا، استغشَوْا ثيابهم لئَلَّا يرَوْا، وهذا يدُلُّ على شِدَّةِ كراهَتِهم لِمَا يقول، لا يحبُّون أن يسْمَعُوه ولا أن يروا نوحًا وهو يلقِيه عليهم، ثم أصرُّوا يعني بقُوا على ما هم عليه واستمَرُّوا فيه، واستكبروا استكبارًا يعني استكبارًا عظيمًا عن قبولِ الحق، هذا أول الرسل، آخر الرسل قالوا: إنَّه ساحر وكذاب وقالوا: (( أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ))[ص:5] وآذَوا الرسول عليه الصلاة والسلام بالقول والفعل بل استبَاحُوا أن يُقَاتِلُوه ورَضُوا أن يبذلوا رقابَهم للسيوف مُعَارَضَةً لدعوتِه عليه الصلاة والسلام، فهؤلاء الذين تبلُغ بهم هذه الحال بعد أن عُمِّرُوا ما يتذَكَّرُ فيه من تذَكَّر وجاءَتهم الرسل هل يُرجَى منهم لو خرَجُوا مِن النار أن يعودُوا إلى الحق؟ أبدًا، لأنَّ الأمر واحد الأمر واحد، لكن قد يقول قائل: إنَّه ليس الخبر كالمعاينة فالنَّار التي تُوُعِّدُوا بها أدركُوها عن طريق الخَبَر قبل أن يكونوا فيها، أمَّا لَمَّا كانوا فيها فقد أدركوها عن طريق الحِسّ والمشاهدة، فالجواب أنَّ خبر الرسل المؤيدَة بالآيات الدالة على رسالتهم يفِيدُ العلم اليقينِي لأنَّ الرسل ما جاءَت تدعُوا الناس وتنذرُهم وتبشرهم إلا بآياتٍ يُؤْمِنُ على مثلها البشر، وهؤلاء والعياذ بالله طبيعَتُهم التكذِيب والإنكار فلن يؤمِنُوا ولو خَرَجُوا، قال الله تعالى: (( أو لم نعمرْكم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير )) النذِير يقول المؤلف: " الرسول " والمراد به الجِنس لأن كل رسولٍ قد أنذرَ قومه وحذَّرَهم مِن معصية الله وبشَّرَهم ورغَّبَهم في طاعةِ الله، ولكنَّهم والعياذ بالله أصرُّوا واستكبروا فقد قامَتْ عليهم الحجة (( فذوقوا فما للظالمين مِن نصير )) (ذوقوا) الأمر هنا للإهانة، ومفعول (ذوقوا) محذوف التقدير: ذوقوا عذابَكم أو ذوقوا عاقبة تكذيبِكم، (( فذوقوا فما للظالمين )) الكافرين (( مِن نصير )) يدفعُ العذابَ عنهم " (مَا للظالمين مِن نصير) الجملة مكوَّنة مِن مبتدأ وخبر أين الخبر؟ (للظالمين) والمبتدأ (نصير) ودخلت عليه مِن الزائدة لتوكيدِ النفي، (ما) هنا هل هي عامِلةٌ عملَ (ليس) أو لا؟ لا، لِماذا؟ لتقدمِ الخبر وهي لا تعمل عمل ليس إلا مع الترتيب، فنقول مثلًا: ما زيدٌ قائمًا صح، ولو قلت: ما في الدار زيدٌ فهذا صحيح، لكن ما نجعَل (في الدار) في محلّ نصب لماذا؟ لتقدمِ الخبر، طيب قال: (فما للظالمين مِن نصير) قال: يدفَعُ العذابَ عنهم، والنَّصِير بمعنى الناصِر، والناصِر هو المانِعُ مِن الشرّ المعِين على الخير، فكلُّ مَن مَنَعَ الشَّرَّ فهو ناصرٌ لك، وكلُّ مَن أعانك على الخير فهو ناصِرٌ لك، ويدل لِهذا قول رسولِ صلى الله عليه وسلم: ( انصُرْ أخاك ظالمًا أو مظلومًا، قالوا: يا رسول الله! هذا المظلوم ) كيف ننصر المظلوم؟ تمنَع عنه الشَّرّ، فكيف نصرُ الظالم؟ قال: ( تمنعُه مِن الظلم ) منع ُالظالم مِن الظلم ليس إسداءَ الخير إليه ولكن منعه مِن شر، فالنصر إذًا إمَّا أن يكونَ بجلبِ خيْر وإمَّا يكون بدفعِ شر