تفسير قول الله تعالى : (( أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم )) حفظ
ثم قال الله سبحانه وتعالى {مبتدا الدرس الجديد أظن }: (( أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً ))[فاطر:44] الهمزة هنا للاستفهام والمراد به التوبيخ والتقريع، وهذه الهمزة الاستفهامية هل هي داخلة على الجملة الموجودة المذكورة أو على جملةٍ محذوفة يعيِّنُها السياق؟ في هذا قولان لأهل العلم في النحو: فمِنهم مَن يقول يا مصطفى!: إنَّها داخلة على هذه الجملةِ المذكورة وعلى هذا القول يقولون: إنَّ التقدير: وألَم يسيرُوا فيجعلون الواو مُقَدَّمَة على الهمزة لأنَّه لا يمكن أن تُجْعَل الهمزة مقَدَّمَة على الواو والواو حرف عطف تقتضى معطوفٌ عليه، فيقولون: إنَّ الهمزة متأخرة والواو حرف عطف وهذه الجملة معطُوفة على ما سبق وهذا الوجه لاشَكَّ أنَّه أسهَل وأيسَر إذ لا يتَكَلَّفُ الإنسان فيه العناء في ذلك الشيء المحذُوف المقَدَّر وهو القول الثاني أنَّ الهمزة داخلةٌ على محذوف يعينه السياق ففي مثل هذه الآية نقول: تقديرُ الكلام: أغَفَلُوا ولم يسِيروا في الأرض أو كلمةً نحوها، وهذا التقدير قد يكون سهلًا في بعض المواضع بمعنى أنَّ بعض المواضع يكون المانع فيها ظاهرًا ويمكنُك بكل سهولة أن تُقَدَّر ذلك المحذوف، لكن أحيانًا يَصعُبُ عليك أن تقدِّر ذلك المحذوف، لاحتمال السياق لأوجهٍ متعدِّدَة، في هذا نقول إنَّ القول الثاني أو الثاني ولَّا الأول؟ .. أنَّ القول الثاني أو الآخَر أقرَب وأسهل أن نجعَل الواو حرف عطف، والجملةُ هذه معطوفة على ما سبق والأصل تقدِيم ذلك الحرف العاطف على الجملة، فالتقدير وألَم يسيروا، وقولُه: (( لَم يسيرُوا في الأرض )) السَّيْرُ هنا هل هو سيرُ القُلوب أو سيرُ الأقدام أو كلاهما؟ نقول: الأولى أن نقول أنَّه شامِل فيكون سير القلوب وسير الأقدام، أمَّا سيرُ القلوب فهو بالنظر في تاريخِ الأُمَم السابقة وما جرَى عليهم وما جرَى لأهلِ الخير الآمِرِين بالقِسْط فيسِيرُ الإنسان بقلبِه في أرجَاء العالَم وهو جالِسٌ على كُرْسِيِّه لا يتحَرَّك، وأما السير البَدَنِي أو السير بالأقدام فهو أن يتقَدَّمَ الإنسان إلى هذه المواضع لِيعتَبِر، ومِن ذلك قول الرسول عليه الصلاة والسلام: ( زُورُوا القبور فإنَّها تُذَكِّرُ الآخِرَة ) فإنَّ زيارةَ القبور سيرٌ بالأقدام يذهَبُ الرجل إلى المقبرة ويقِف ويشَاهد هذه القبور ويعتَبِر: هؤلاء القوم الذين كانوا أشَدّ منه قوة وكانوا أكثر منه مالَا ومع ذلك آلُوا إلى ما آلُوا إليه حتى يعرف أنَّه سوف يؤُول إلى ما آلَ إليه هؤلاء طالَتِ المدة أم قصُرَت، إذًا السيرُ في الأرض يكونُ بالقلب ويكون بالقدَم أيُّهما أنفَع للمرء السيرُ بالقلب أو السير بالقدم؟ السير بالقلب أشمَل وأهون، لأنَّه بإمكان الإنسان أن يطُوف الدنيا كلَّها في ساعة واحدة وأسْهَل، السيرُ بالقدم أشدُّ تأثيرًا، لأنه يشاهِد ومَا راءٍ كمَن سَمِع، ولهذا أمَرَ النبيُّ عليه الصلاة والسلام إذا دخَلْنا على ديارِ المعَذَّبِين أمرَنا ألَّا ندخُل إِلَّا ونحن باكُون أن يصِيبَنَا ما أصابَهم حتى نعْتَبِر ونُصَحِّح المسِير، (( أو لم يسيروا في الأرض )) (في) هنا قال العلماء أنَّها بمعنى (على) ولا تصَح أن تكون للظرفية لِمَاذا؟ لأنَّ الظرفية تقتضي أن يكُون السائر في جوْفِ الظَّرْف ومعلومٌ أنَّ السائِر في الأرْض لا يسير في جَوْفِ الأرض هل هو يَفْتَحَ نفَق لِيسِيرَ فيه؟ ولَّا لا؟ يسيرُ على ظهرِها، قالوا: فـ(في) بمعنى (على)، ونظيرُها قولُه تعالى: (( ولأصلِّبَنَّكُم في جذوع النخل )) أي على جذوع النخل: وقوله: (( في الأرض )) يحتَمِل أن يُرَاد بها الجنس ويحتمل أن يراد بها العَهْد (أل) هنا، أن تكون جنسية أو عهدِيَّة، فعلى الأول يكون المرَاد السير في جنس الأرض التي أصِيبَت بغضب والتي لم تُصَب، وعلى الثاني يكون المرادُ بالأرض التي أصِيبت بغضَب فتكون (أل) هنا للعهد الذهني أو الذِّكْري؟ العهد الذِهْني، لأنَّ العهدَ الذِّكْري لابد أن يكون هناك مَذْكُور تعودُ عليه (أل)، أمَّا إذا لم يكن مذكور فهو عهْدٌ ذهني، طيب.
وقولُه: (( فينظُروا كيف كانَ عاقبةُ الذين مِن قبلهم )) (فينظروا) الفاء هنا قيل: أنَّها عاطفة وقيل إنَّها سببية فعلى أنها عاطفة تكون في محَلّ جزْم أي يكون الفعلُ بعدها مجزومًا، وعلى أنَّها سببية يكونُ الفعل بعدها منصوبًا، فعلى كونها سببية يكون التقدير: أو لم يسيروا في الأرض فبِسبَبِ سيرِهم ينظروا، وعلى أنّها عاطفة يكونُ المعنى: أو لم يسيروا في الأرض ولم ينْظُروا كيف كان عاقبة الذين مِن قبلهم، والنَّظَر هنا هل هو نظَرُ القلب أم نظر العين؟ إذا قلنا إنَّ السَّير سير القدم فالنَّظَرُ نظر العين، وإذا قلنا إنَّ السير سيرُ القلب فالنظر نظرُ القلب، إذًا تكُون شاملةً للأمرين حسَب ما نُفَسِّر السير فيما سبق، (( فينظروا كيف كان عاقبة الذين مِن قبلهم )) هذا الاستفهام الجملة الاستفهامية عَلَّقَت (ينظروا) عن العمل يعني: فينظروا كيف كان عاقبتُهم يعني: أيّ عاقبة كانت لهم هل نُعِّمُوا وأُكْرِمُوا أو عُذِّبُوا وأُهْلِكُوا انظُروا فإذا نظر الإنسانُ العاقل فسوف يعتَبِر ويقِيس الحاضر على الغائب، (( كيف كان عاقِبَةُ )) عاقبة الشيء مآلُه (( الذين مِن قبلهم )) ما هي العاقبة للذين مِن قبلهم؟ الهلاك عاقبَتُهم الهلاك ولهذا قال الله تعالى: (( وإنكم لتمرُّون عليهم مصبحين * وبالليل أفلا تعقلون )) فانظروا إلى آثارهم ماذا كانت؟ كانت الدمار، فإذا كانت الدمار وسببُه التكذيب والاستكبار فإنَّ السبب الذي كان فيما سبًق مؤدِّيًا إلى هذا الهلاك فإنه سيكون مؤديًا إليه فيما لَحِق، إذ لا فرْق