تتمة التعليق على تفسير الجلالين : (( اليوم نختم على أفواههم )) أي الكفار لقولهم (( والله ربنا ما كنا مشركين )) [ 23 : 6 ] (( وتكلمنآ أيديهم وتشهد أرجلهم )) وغيرها (( بما كانوا يكسبون )) فكل عضو ينطق بما صدر منه . حفظ
لأننا غير مشركين لعلنا ننجوا كما نجا أهل التوحيد وحينئذ يختم على أفواههم لأن أفواههم صارت تتكلم بماذا ؟ بالكذب فيختم على أفواههم وتنطق الجوارح والجلود ، الجوارح بما عملت والجلود بما مست فإن الجلد يمس المحرمات كمس المرأة بشهوة مثلاً فتشهد عليهم الجوارح ولهذا قال عز وجل : (( وتكلمنا أيديهم )) نفس اليد تقول عملت كذا ، عملت كذا ، عملت كذا (( وتشهد أرجلهم )) نفس الأرجل تشهد تقول : أشهد أنه عمل كذا وكذا وتأمل الفرق بين اليد والرجل فاليد قال : (( تكلمنا أيديهم )) في الأرجل قال :
(( تشهد )) لأن اليد تخبر عما فعلت والرجل تخبر عما فعل غيرها ، قالوا : لأن الأصل في المباشرة ما هي ؟ اليد ولهذا دائماً يعلق الكسب باليد فيقال : (( بما كسبت أيديكم )) أو (( بما كسبت أيدي الناس )) أو
(( بما كسبت أيديهم )) فلهذا كانت الأيدي مباشرة ، والأرجل شاهدة لأن الشاهد هو الذي يخبر عما فعل غيره ، والفاعل هو الذي يخبر عما فعل هو بنفسه هكذا قال بعض أهل العلم وهو فرق لا بأس به مع أن الإنسان قد يشهد على نفسه كقوله تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ ))[النساء:135] فإقرار الإنسان على نفسه شهادة عليها لكن الفرق الذي أشار إليه بعض العلماء ونقلناه لكم فرق لا بأس به
(( وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون )) كذا عندكم طيب (( بما كانوا يكسبون )) قال : (( وتشهد أرجلهم )) " وغيرها " المؤلف قال : وغيرها ، ولا يعني ذلك أنه يستدرك على القرآن لكنه ينبه على موضع آخر من القرآن ففي آية أخرى بين الله تعالى أنه تشهد عليهم الجلود (( وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ ))[فصلت:22] لا قبلها (( حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ))[فصلت:20] السمع والبصر ذكروا هنا وإلا ما ذكر ؟ هنا ما ذكرت ، هنا ذكرت الأيدي والأرجل ، السمع والبصر والجلود ما ذكرت ولهذا قال المؤلف : " وغيرها " إشارة إلى أن هناك أعضاء تشهد غير الأيدي والأرجل (( حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ )) السمع بما سمع يا عادل ، والبصر بما رأى والجلد بما مس ، (( وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا )) [فصلت:21] ولم يقل وقالوا لأبصارهم وسمعهم لم شهدتم لأن عذاب الجلد عام يشمل الجسد كله لكن عذاب السمع والبصر خاص بالسمع والبصر ولهذا (( وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا )) لأن العذاب سيكون على الجلود كما قال تعالى : (( كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ ))[النساء:56] الحاصل هنا أنه يشهد غير الأيدي والأرجل فتكون الشهداء كم ؟ خمسة الأيدي والأرجل والسمع والبصر والجلود
يقول : (( بما كانوا يكسبون )) قوله : (( بما كانوا يكسبون )) تنازعه عاملان : الأول : (( تكلم )) والثاني : (( تشهد )) والتنازع أن يتوارد عاملان على معمول واحد مثل أن تقول : أكرمت ورأيت زيداً فإن أكرمت ورأيت عاملان على معمول واحد وهو زيد ، أما أيهما يعمل هل هو الأول ولا الثاني ؟ فالعلماء اختلفوا في ذلك يقول ابن مالك :
" وَالْثَّانِ أَوْلَى عِنْدَ أَهْلِ الْبَصْرَهْ وَاخْتَار عَكْسَاً غَيْرُهُمْ ذَا أسْرَهْ "
العامل الثاني هو الذي عند البصريين وعند الكوفيين الذي يعمل هو الأول طيب (( تشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون )) ولم يقل بما كانوا يعملون لأن العمل قد لا يكون من كسب الإنسان قد يكون العمل خطأ فلا يؤاخذ به الإنسان فلا يعاقب به الإنسان فلا يكون من كسبه بل الذي يكون من الكسب هو العمل الذي يترتب عليه الثواب إيش ؟ أو والعقاب ولهذا قال الله تعالى في سورة البقرة : (( لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ))[البقرة:286] ولم يقل لها عملت وعليها ما عملت فالكسب أخص من العمل لأنه لا يلزم من كل عمل أن يكون إيش ؟ كسباً قد يكون وقع عن سهو أو عن جهل فلا يؤاخذ به الإنسان وقد يكون عن غير قصد فلا يؤاخذ به الإنسان لكن مع ذلك أحياناً يطلق العمل ويراد به العمل الذي هو الكسب مثل قوله تعالى : (( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ))[فصلت:46] يقول : (( بما كانوا يكسبون )) فكل عضو ينطق بما صدر منه اليد تنطق بما بطشت ، والرجل بما مشت والعين بما رأت والأذن بما سمعت طيب والجلد بما مس ، في سورة النور ذكر الله أن الألسن تشهد نعم (( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ))[النور:24] إذاً نضيف هذا إلى الخمسة تكون ستة اللسان أيضاً يشهد عليهم لأن اللسان هو أعظم الجوارح خطراً لقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ : ( ألا أدلك على ملاك ذلك كله ) قلت : " بلى يا رسول الله فأخذ بلسان نفسه وقال : ( كف عليك هذا ) قلت يا رسول الله : " إنا لمؤاخذون بما نتكلم به " قال : ( ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم ) وكل صباح تكفر الجوارح اللسان يعني أنها تجعل الأمر منوطاً به ولهذا قال في سورة النور : (( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ )) ونص على الألسن في سورة النور لأنه ذكر فيها ما يتعلق بذلك من الأمور العظيمة كالقذف مثلاً وأعظمه قذف عائشة رضي الله عنها ولهذا ذكرت في سورة النور الألسن لأن القذف قول فقال : (( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )) قال الله سبحانه وتعالى : (( بما كانوا يكسبون )) وكل عضو ينطق بما صدر منه
قال : (( وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ )) لأعميناها طمساً (( فَاسْتَبَقُوا )) ابتدروا (( الصِّرَاطَ )) الطريق ذاهبين كعادتهم (( فَأَنَّى يُبْصِرُونَ )) فكيف يبصرون حينئذ أي لا يبصرون ، (( وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ )) قردة وخنازير أو حجارة (( عَلَى مَكَانَتِهِمْ )) وفي قراءة (( مكاناتهم )) جمع مكانة بمعنى مكان أي في منازلهم (( فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ )) أي لم يقدروا على ذهاب ولا مجيء .