تفسير قول الله تعالى : (( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم )) . حفظ
ثم قال الله تعالى : (( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله )) قل يعني أبلغ عبادي بذلك ،أبلغهم بأني أقول يا عبادي، ولا يصح أن نقول : قل أنت يا محمد يا عبادي فتضيف العبادة إلى نفسك لا، المعنى أبلغ عبادي أني أقول: يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم. ولماذا قلنا هذا التفسير ؟
لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لو قال للناس : يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم، فإنه لا يستقيم الكلام، ولكن المعنى قل للناس أي أبلغهم بأني أقول : (( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنَطوا من رحمة الله )) وقراءة أخرى: لا تقنِطوا، وقوله : (( يا عبادي )) يشمل العباد بالمعنى الخاص والعباد بالمعنى العام، يعني حتى الكفار يقال لهم مثل هذا القول.
وقوله : (( الذين أسرفوا على أنفسهم )) أي جاوزوا الحد في رعاية الأنفس، والواجب على الإنسان في رعاية نفسه أن يرعاها حق رعايتها بحيث يقوم بما يصلحها ويتجنب ما يفسدها، فإذا لم يفعل فقد أسرف على نفسه، مثال ذلك : رجل سرق، السرقة هذه إسراف على النفس لأن الواجب حماية النفس من السرقة، رجل شرب الخمر هذا إسراف على النفس، رجل سجد لصنم إسراف على النفس لأنه مجاوزة للحد.
(( لا تقنطوا من رحمة الله )) القنوط واليأس معناهما متقارب، لكنهم فرقوا بينهما بأن القنوط أشد اليأس، وأما اليأس فمعروف أنه عدم الرجاء وعدم الأمل في حصول الشيء (( لا تقنطوا من رحمة الله )) من رحمة الله لكم، فرحمة هنا مضافة إلى فاعل أو إلى المفعول ؟ إلى الفاعل، أي من رحمة الله إياكم، وبماذا تكون الرحمة ؟
تكون الرحمة بأن يهدي الله عز وجل رجل إلى التوبة والاستغفار ويتوب عليه، فأنت لا تقنط من رحمة الله لا بنفسك ولا بغيرك، ولكن افعل السبب، فلو قال قائل مسرف على نفسه: أنا لا أقنط من رحمة الله، ولكنه يفعل المعصية مستمر عليها، نقول : هذا غلط، لأنك إذا استمررت على المعصية فأنت آمن من مكر الله، وكلا الطرفين ذميم، لا القنوط من رحمة الله ولا الأمن من مكر الله، لكن نقول : افعل السبب، افعل السبب ولا تقنط من رحمة الله.
(( إن الله يغفر الذنوب جميعا )) لمن تاب من الشرك (( إنه هو الغفور الرحيم )) إن الله يغفر الذنوب، يغفر أي يسترها ويتجاوز عنها، وذلك لأن المغفرة مشتقة من أيش ؟ من المغفر، المغفر هو الذي يوضع على الرأس في وقت القتال من أجل أن يقيه السهام، ومعلوم أن هذا المغفر فيه ستر وفيه وقاية، وعلى هذا فأنت إذا قلت : رب اغفر لي، لست تسأل الله أن يستر ذنوبك فقط، بل تسأل الله أن يسترها وأن يتجاوز عنها، فقوله : (( إن الله يغفر الذنوب )) أي يسترها ويتجاوز عنها، وقوله الذنوب، هذه صيغة عموم أو خصوص ؟ عموم، الذنوب وأكد هذا العموم بقوله : (( جميعا )).
(( إن الله يغفر الذنوب جميعا )) وهذه المغفرة التي أثبتها الله عز وجل هل هي شاملة لكل ذنب ؟ الجواب: نعم، شاملة لكل ذنب فيمن تاب، فكل من تاب تاب الله عليه، ألا ترى إلى قوله تعالى : (( والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات )) فهؤلاء جمعوا بين الشرك وقتل النفس وهو اعتداء على النفوس والزنا وهو اعتداء على الأعراض والأخلاق ومع ذلك إذا تابوا تاب الله عليهم، وهذه الآية أجمع العلماء على أنها في التائبين، لأن الله قال : (( إن الله يغفر الذنوب جميعا )) ولم يقيد فهي في التائبين، أما غير التائبين فقال الله تعالى فيهم : (( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء )) فغير التائبين نجزم بأن الله لا يغفر الشرك في حقهم، وما دون الشرك تحت المشيئة إن شاء عذب وإن شاء غفر، فللإنسان حالتان:
الحال الأولى التوبة، فما حكم ذنبه حينئذ ؟ الغفران مهما عظم الذنب، الحال الثانية: عدم التوبة .
الطالب : ...
الشيخ : كيف ما فهمنا إلى الآن الجواب غير مرتب، الكبائر ولو دون الشرك نعم تحت المشيئة تمام، يعني بدون التوبة نقول : الشرك لا يغفر قطعا، وما دون الشرك تحت المشيئة، ويستدل بالآية التي ذكرناها استشهادا : (( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء )) يستدل بها المسرفون على أنفسهم بالعاصي، فإذا نهيتهم عن معصية قالوا لك: (( ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء )).
نقول لهم بكل بساطة: وهل تجزم أنت أنك ممن شاء الله أن يغفر له ؟ الجواب: لا، إذا أنت على خطر، وأنت الآن فعلت سبب العقوبة، وكونك يغفر لك هذا أمر راجع إلى مشيئة الله عز وجل.
(( إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم )) أولا في الجملة كلمة (( إنه هو الغفور الرحيم )) لو حذفت هذه الكلمة لاستقام الكلام بدونها، فما هي الكلمة ؟ هو، إنه هو الغفور، كلمة هو يسميها النحويون ضمير فصل، وبعضهم يسميها عمادا، ضمير فصل أو عمادا، لا ما هو ضمير الشأن، فما هو فائدة هذا الضمير ؟
يقولون : إن في هذا الضمير ثلاث فوائد: الفائدة الأولى التوكيد، والفائدة الثانية الحصر، والفائدة الثالثة التمييز بين الخبر والصفة، مثاله : إذا قلت : زيد هو الفاضل، الضمير في هو ضمير فصل، لو قلت : زيد الفاضل وحذفت الضمير استقام الكلام، لكن يحتمل أن يكون الفاضل صفة والخبر منتظر، ويحتمل أن يكون الفاضل هو الخبر، أليس كذلك ؟ فإذا قلت : زيد هو الفاضل، ارتفع الاحتمال الأول وهو أن تكون الفاضل صفة، وتعين الاحتمال الثاني، وهي أن تكون خبرا، واضح يا جماعة ؟
طيب ما الذي استفدنا من هذا التركيب ؟ زيد هو الفاضل، استفدنا أولا توكيد الفضل في زيد، وثانيا : حصر الفضل فيه، زيد هو الفاضل، وثالثا التمييز بين الصفة والخبر، يعني الآن ليس عندنا احتمال أن تكون صفة، هذا من حيث المعنى في ضمير الفصل، من حيث الإعراب هل هو اسم أو حرف ؟ الصحيح أنه حرف لا محل له من الإعراب، حرف جاء بصورة الاسم، وليس له محل من الإعراب، نعم والدليل على أنه لا محل له من الإعراب كثير في القرآن وغير القرآن قال الله تعالى : (( لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبون )) لأنه إذا كان له من الإعراب صار محله الرفع وما بعده خبر، ولكنه ليس له محل من الإعراب، بل هو جاء عمادا أو جاء فصلا، نعم