فوائد قوله تعالى : (( غافر الذنب وقابل التوب ... )) . حفظ
ومن فوائد الآية الكريمة الآية الثانية أن الله جل وعلا يغفر الذنوب جميعا لقوله: (( غافر الذنب )) والذنب هنا مفرد محلى بأل فيكون عاما، لأن المفرد المحلى بأل يكون عاما مثل: (( إن الإنسان لفي خسر )) أي إن كل إنسان.
ومن فوائد هذه الآية الكريمة الحث على فعل ما تكون به المغفرة، وجه ذلك أن الله لم يخبرنا بأنه غافر الذنب من أجل أن نعلم أنه غافر فقط لكن من أجل أن نتعرض لمغفرته، فما هي الأسباب التي تكون بها المغفرة ؟ الأسباب كثيرة منها الاستغفار اللهم اغفر لي، ومنها أعمال صالحة يكفر الله بها الخطايا، ومنها إحسان إلى الخلق حتى أن الله عز وجل غفر لامرأة بغي بسقيها كلبا عطشان، فأسباب المغفرة كثيرة، وغفر لرجل وجد شجرة في الطريق تؤذي الناس فأزالها فغفر الله له، المهم أن نتعرض لأسباب المغفرة لأن ذلك مقتضى قوله: (( غافر الذنب )).
ومن فوائد الآية الكريمة أنه يقبل التوبة من عباده، ولكن لا يقبل الشيء حتى يكون جاريا على مقتضى الشريعة لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ).
فما هي التوبة الجارية على مقتضى الشريعة ؟ التوبة الجارية على مقتضى الشريعة ما جمعت خمسة أمور وهي ما يعرف بشروط التوبة:
الأول الإخلاص لله عز وجل بأن يكون الحامل للإنسان على التوبة هو إخلاصه لله عز وجل حب التقرب إليه والفرار من عقوبته، فلا يحمله على التوبة مراعاة الخلق ولا حصول الجاه والرئاسة وإنما يحمله الإخلاص لله.
الثاني: الندم على فعل المعصية أن يشعر الإنسان بانفعال ندم وحسرة على ما وقع منه، فلا بد من ندم لأن الندم الذي يتبين به حقيقة رجوع الإنسان إلى الله وأن هذه المعصية أثرت في نفسه، فندم على ما جرى منه، لا يقال أن الندم انفعال والانفعال يأتي بغير الاختيار كالغضب مثلا، والحزن من الواقع، يقال المراد بالندم هنا تحسر القلب فهو انفعال يقع من الإنسان ليس كالانفعال الذي يأتي سببه من الخارج هذا ربما لا يستطيع الإنسان أن يغير ما وقع.
الشرط الثالث: التخلي عن المعصية والانفصال عنها فإن تاب وهو مصر فإن توبته أشبه ما تكون بالاستهزاء، كيف يقول الذي يأكل لحم الخنزير أستغفر الله تعالى وأسأل الله أن يجعل طعامي طيبا، يصلح هذا أو ما يصلح ؟ وهو يأكل هو يمضغ اللحمة جيدا ويقول أستغفر الله من أكل لحم الخنزير وأسأل الله أن يجعل طعامي طيبا، هذا أشبه ما يكون بالمستهزئ، لو أن رجلا نهاك عن شيء ووجدك تعمل هذا الشيء وأنت تقول: أرجوا منك أن تعذرني وما أشبه ذلك وهو يأكل، وقال له: لا تأكل ويأكل، هذا الذي يخاطبه سوف يقول إنك تستهزئ بي وتسخر يي، فلا توبة مع الإصرار، لابد أن يتخلى عن الذنب،
طيب إذا كان الذنب لله فالتخلي عنه سهل، لكن إذا كان الذنب لغير الله يعني أذنب في حق غير الله فكيف يتخلى منه ؟ نقول: إذا كان مالا فالتخلي عنه بإيصاله إلى صاحبه بأي وسيلة كانت، فإن كان قد مات فإلى ورثته، فإن جهلهم فإلى بيت المال، أو إذا كان بيت المال غير منتظم أو يخشى عليه أن يضيع فليتصدق به هو لصاحبه، كم مرحلة الآن ؟ أربع، لصاحبه، لورثته، لبيت المال إن جهلهم، يتصدق به، وأيهما أولى بيت المال أو الصدقة ؟ الغالب أن الصدقة أولى لاسيما في زماننا هذا حيث أن بيت المال قد لا يتصرف فيه ولي الأمر التصرف الذي يرضي،
طيب إذا كان عدوانا على النفس ما هو مال، فالتوبة منه أن يمكن صاحب الحق من الاقتصاص منه، فمثلا إذا كان قد اعتدى على شخص بضرب فليذهب إليه ويقول أنا اعتديت عليك بالضرب اضربني كما ضربتك، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجل الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم حينما رآه متقدما في الصف فقال الرجل: أقدني يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكشف النبي صلى الله عليه وسلم عن بطنه ليقيده، فماذا فعل الرجل ؟ قبله، فهذا النبي صلى الله عليه وسلم وهو أشرف الخلق وأحب الناس إلى أتباعه مكن من الاقتصاص منه، طيب هذا اثنان المال والبدن،
إذا كان في العرض اعتديت على شخص بعرضه، يعني بأن اغتبته أو سببته، والفرق بين الغيبة والسب أن السب مواجهة والغيبة مع الغيبة، فذكرك أخاك بما يكره إن كان غائبا فهي غيبة وإن كان حاضرا فهو سب، التوبة من هذا أن تستحله، فهل لو قلت سبني كما سببتك يصح أو لا يصح ؟ لا يصح، لأن هذا جناية على نفسك، ولكن استحله، هذا إذا كان سبا لأنه قد علم بذلك، إذا كان غيبة فهل تستحله تذهب إليه وتقول إني اغتبتك فاعذرني اسمح لي ؟ الجواب: قال بعض العلماء نعم يجب أن تذهب إليه وتقول أنا اغتبتك فاعذرني حلني، وقال بعض أهل العلم لا يلزم استحلاله بل يكفي أن تستغفر له كما جاء في الحديث وإن كان ضعيفا: ( كفارة من اغتبته أن تستغفر له ) استغفر له وأثني عليه بما هو أهله في الأماكن التي اغتبته فيها، تكون الحسنات يذهبن السيئات، وهذا القول أصح لأن هذا فيه البراءة وعدم التشويش، لأنه ربما لو تذهب إليه تقول اغتبتك فحلني، مهما أتيت به من صيغة الغيبة قد لا يقتنع بها، إذا قلت إني قلت فيك إنك بخيل قد يقول إنك قلت بخيل وجبان، أليس كذلك ربما يقول له الشيطان هكذا ويأبى أن يحللك فإذا كان لم يعلم فاحمد الله على ذلك واستغفر له وأثني عليه بما هو أهله في الأماكن التي كنت اغتبته فيها وبذلك تسلم من الإثم، هذه صفة التخلي من الذنب إذا كان في حق غير الله،
طيب هنا سؤال: بعض الناس يكون عليه حق مالي لشخص إما سرقه أو جحده أو ما أشبه ذلك ثم يتوب هذا الفاعل ويذهب إلى صاحب الحق ويقول: خذ حقك فيأبى صاحب الحق، يأبى أن يأخذه فماذا يصنع ؟ وهذا يرد كثيرا يكون صاحب الحق قد حمل في نفسه على هذا الظالم الذي ظلمه ويأبى أن يقبل، فماذا يصنع هل نقول إنه حينئذ سقط حقه وصحت توبة المعتدي، ويبقى إن طلب حقه مرة أخرى أعطي وإن لم يطلب فإن المعتدي برئ ؟ نقول ننزل هذه الحال على القواعد الشرعية، القواعد الشرعية تقتضي أن هذا الذي عليه الحق قد برأ لأن الله يقول : (( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها )) وهذا ما يسعه قدم الحق لصاحبه وقال خذ قال لا، لا آخذه أنت اعتديت علي بالأول ولا أقبل منك، هذا الذي أبى أن يقبله هو الذي أخطأ وجنا، لأنه ينبغي للإنسان إذا اعتذر إليه أخوه أن يقبل عذره، لكن هذا هو الذي جنا الآن، فهذا الرجل نقول أنت الآن برئت ذمتك خلي الدراهم عندك إن جاء يوما من الدهر أعطها إياه، وإن مات فهل يلزمه أن يعطيه الورثة ؟ الجواب: في هذا نظر وذلك أن الرجل الذي اعتدي عليه لم يقبل هذا المال ولم يدخل في ملكه، فإذا كان لم يقبله ولم يدخل في ملكه فكيف ينتقل إلى الورثة، ومن شرط الإرث انتقال المال عن الموروث وهذا الموروث لم يقبل هذا المال، وقد يقال إن الأصل أنه ملكه فيلزم الرد إلى ورثته، وهذا الأخير أحوط لكن في وجوبه نظر، لأن الذي اعتدى وأراد أن يرد تقول: أنا أعطيت الرجل وأبى أن يتملكه فكيف ينتقل إلى الورثة ؟ ولكن نقول الأحوط والأولى أن يرده إلى الورثة ليسلم منه، لكن لو فرض أنه لا ورثة له أو أن ورثته مجهولون فإن هذا التائب قد أدى ما عليه، هذه ثلاثة شروط.
الشرط الرابع: أن يعزم على ألا يعود إلى الذنب أو أن لا يعود إلى الذنب، الأول أو الثاني ؟ الأول أن يعزم على أن لا يعود إلى الذنب أو الشرط أن لا يعود إلى الذنب ؟ الأول، ما الفرق بينهما ؟ الفرق بينهما أننا إذا قلنا الشرط ألا يعود ثم عاد بطلت التوبة الأولى، وإذا قلنا الشرط العزم على ألا يعود وقد عزم ألا يعود ثم عاد فالتوبة الأولى تبقى صحيحة وعليه أن يتوب توبة ثانية للذنب الجديد، وعلى كل حال فالشرط هو العزم ألا يعود في المستقبل فإن عاد فعليه توبة أخرى، فتاب وعاد يتوب، عاد يتوب، فعاد يتوب.
فإن قال قائل: أليس قد ثبت في الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر ( أن رجلا أذنب ذنبا فتاب ثم أذنب فتاب ثم أذنب فتاب ثم قال الله عز وجل علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي فليعمل ما شاء ) فهل هذا يعني أن الإنسان إذا تكرر منه الذنب وهو يستغفر يغفر له ؟ الجواب: نعم مهما أذنب ثم استغفر يغفر له، لكن لو قال قائل إن ظاهر الحديث ( فليعمل ما شاء ) يعني فليعصي الله، قلنا لا يستقيم هذا لأنه يخالف الأدلة الكثيرة الدالة على أنه لابد لكل ذنب من توبة إلا طائفة واحدة من هذه الأمة هم الذين لا يحتاجون إلى توبة من الذنب وهم أهل بدر فإن الله اطلع إليهم وقال : ( اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ).
الشرط الخامس: أن تكون التوبة في الوقت الذي تقبل فيه التوبة، وهو أن تكون التوبة قبل طلوع الشمس من مغربها وقبل حضور الأجل، الأول عام لكل أحد، لا توبة لأحد إذا طلعت الشمس من مغربها لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تخرج الشمس من مغربها ) وهذا يؤيده قوله تعالى: (( أو يأتي بعض آيات ربك يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا )) والمراد ببعض الآيات طلوع الشمس من مغربها.
الثاني: أن تكون قبل حضور الأجل فإذا حضر الأجل لم تنفع التوبة لقول الله تبارك وتعالى: (( وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ )) [النساء :18] هذا ليس لهم توبة، وتطبيق هذا عمليا أن فرعون لما أدركه الغرق قال: (( آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين )) فقيل له: (( ءالئن )) تؤمن (( وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين فاليوم ننجيك ببدنك )) لا رحمة بك ولكن (( لتكون لمن خلفك آية )) وأما روحك فلا نجاة لها، وإنما نجاه الله ببدنه لأنه قد أرعد بني إسرائيل ولا يكادون يصدقون بأنه هلك حتى يشاهدوه فيطمئنوا، فلهذا نجاه الله ببدنه ليشاهدوه.
طيب هل يشترط ألا يكون مصرا على ذنب آخر ؟ يعني لنفرض أنه تاب من شرب الخمر لكنه باق على الزنا والعياذ بالله، فهل تصح توبته من شرب الخمر ؟ في هذا خلاف، فمن العلماء من يقول لا تصح التوبة من ذنب مع الإصرار على ذنب آخر، ومنهم من قال بل تصح لأن كل ذنب له جرمه، ومنهم من قال إذا كان الذنب الذي أصر عليه من جنس الذي تاب منه فإن التوبة لا تصح، كرجل تاب من الزنا لكنه يطلق بصره في النظر المحرم فإن توبته من الزنا لا تصح، أو رجل تاب من النظر المحرم ولكنه لم يتب من المس المحرم هذا أيضا لا تقبل توبته، ومن العلماء من قال تقبل مطلقا إذا تاب من ذنب تاب الله عليه من هذا الذنب لأن الله عز وجل حكم عدل ورحمته سبقت غضبه وهذا الرجل عنده جنايات متعددة تاب من واحدة منها فليكن تائبا، وهذا القول أصح ولكن لا يطلق على هذا التائب وصف التوبة المطلق لأن توبته هذا مقيدة يعني لا يستحق وصف التائبين على الإطلاق، فلا يدخل في قوله تعالى : (( إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين )) لأن هذا الرجل لا يصدق عليه أنه تائب على وجه الإطلاق لكنه تائب من ذنب واقع في ذنب آخر، وهذا القول هو الذي تجتمع فيه الأدلة، فيقال استحقاق الوصف المطلق فيمن تاب من ذنب مع الإصرار على غيره لا يكون، وأما وصفه بتوبة مقيدة فهذا صحيح.