فوائد قوله تعالى : (( فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون )) . حفظ
من فوائد هذه الآيات والتي قبلها: وجوب الإخلاص لله تعالى في الدعاء لقوله: (( فادعوا الله مخلصين )) ودعاء غير الله فيما لا يقدر عليه المدعو يعتبر من الشرك، ثم قد يكون شركا أكبر وقد يكون شركا أصغر بحسب الحال، فمن دعا قبرا فهذا شرك أكبر، ومن دعا غيره ليحمل معه متاعه وما أشبه ذلك والغير لا يستطيع أن يحمل فهذا ليس بشرك أكبر، بل هو إما عبث وإما شرك أصغر، ومن دعا غائبا لينقذه من شدة فهذا شرك أكبر، لأن هذا يسمى شرك السر، إذ أن الغائب لا يمكن أن يدعوه الإنسان إلا وهو يعتقد أن له تصرفا في الكون، يتصرف وهو بعيد، بخلاف من دعا قريبا وقال: يا فلان احمل معي كذا أعني على كذا، فهذا يدعوه ليقوم بشيء محسوس.
ومن فوائدها أيضا: وجوب إخلاص العبادة لله لأننا فسرنا الدعاء بدعاء المسألة ودعاء العبادة، وجوب إخلاص العبادة لله، فمن تعبد لغير الله استقلالا فقد صرف شيئا من أنواع العبادة لغير الله فيكون بذلك مشركا شركا أكبر، يعني من صلى لشخص فإنه يكون مشركا شركا أكبر، أو ذبح لشخص تقربا إليه وتعظيما له فإنه يكون مشركا شركا أكبر مخرجا عن الملة، وأما إذا فعل العبادة لله لكن رائى فيها أو سمع فهذا لا يكون مشركا شركا أكبر ولكنه مشرك شركا أصغر، وعبادته مردودة عليه لقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه عن ربه: ( أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه ).
ثم اعلم أن الرياء إذا طرأ على القلب فإن كان قبل الدخول في العبادة أبطلها من أصلها، لأنه دخل فيها على شرك، وإن كان في أثناء العبادة فإن كان آخرها ينبني على أولها بطلت، وإن كان لا ينبني على أولها بحيث يصح أن نميز الأول عن الثاني فإنه لا يصح ما فيه الرياء ويصح ما سبق الرياء، مثال الأول: إذا دخله الرياء في أثناء الصلاة في الركعة الثانية، فإن الصلاة تبطل كلها، لأنه إذا بطلت الركعة الثانية لزم بطلان الركعة الأولى، لأن الصلاة لا تتبعض، ومثال الثاني: رجل أعد مائة صاع للصدقة بها فتصدق بخمسين صاعا صدقة خالصة ثم دخله الرياء في الأصواع الباقية، فهنا تبطل الأصواع الباقية أما الأولى فتصح، وذلك لأن هذه العبادة أعني الصدقة تتبعض ولا ينبني آخرها على أولها، حتى لو فرض أنها مما عينه الشرع كإطعام ستين مسكينا مثلا في الكفارة، فأطعم ثلاثين مسكينا بإخلاص ثم بعد ذلك دخله الرياء فإن ما سبق الثلاثين الأخيرة يكون مجزيا، هذا إذا استرسل مع الرياء وأما إذا طرأ عليه الرياء فدافع وما زال جاهدا في مدافعته فإنه لا يضره شيئا، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم ) وهذا لم يعمل ولم يتكلم، بل ربما أنه لم يحدث نفسه لكن هاجمه الرياء.
فصار الآن من فعل العبادة لغير الله يعني تعبد لغير الله فحكمه شرك أكبر، ومن فعل العبادة لله لكن دخلها الرياء: إن كان آخرها ينبني على أولها بمعنى أنها لا تتبعض ...،
طيب قيدنا هذا التفصيل إذا استرسل مع الرياء واستمر المرائي، طيب فإن دافعه فلا شيء عليه ولا يضره ذلك.
من فوائد هذه الآية الكريمة : مراغمة الكفار في الإخلاص لله وفي العمل لقوله: (( ولو كره الكافرون )) وينبني على ذلك أنه يجب على الإنسان أن يقوم بالواجب ولو كره ذلك غيره، ولا يحابي أحدا في هذا، فمثلا إذا كره أبو الشاب أن يصلي ابنه مع الجماعة ـ كما يوجد الآن ـ فهل يداهن أباه في ذلك ؟ لا، يصلي مع الجماعة ولو رغم أنف أبيه، ولو كره ذلك،
ولو وصل الشاب رحمه كعمه وخاله وما أشبه ذلك، وكان بينه وبين أبيه عداوة شخصية فكان يكره لابنه أن يصل أقاربه الذين يكرههم أبوه، فهل يواصلهم ولو كره أو لا ؟ نعم يواصلهم ولو كره، لكن في هذه الحال يداري أباه، بمعنى أنه يكتم عنه أنه وصلهم لتحصل المصلحة بدون مفسدة، وهناك فرق بين المداراة والمداهنة، المداراة أن يفعل الإنسان ما يلزمه مع التكتم عن الشخص الآخر الذي يكره، ولهذا سميت مداراة من الدرء وهو الدفع، وأما المداهنة فأن يوافقه في ترك ما يجب مداهنة له، مأخوذة من الدهن لأنه يلين، فعلى كل حال نقول يتفرع على هذه الفائدة أن الإنسان يفعل ما يلزمه ولو كره ذلك غيره ولو كان الكاره أقرب أهله إليه.