فوائد قوله تعالى : (( مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد )) . حفظ
ومن فوائد الآية الكريمة: تحذير اللاحق أن يصيبه ما أصاب السابق، لقوله: (( مثل يوم الأحزاب مثل دأب قوم نوح )) ووجه ذلك أن الله سبحانه وتعالى سنته في خلقه واحدة، هو لا يعذب هؤلاء لأنه يكرههم شخصيا، يعذب هؤلاء لأنه يكره عملهم فإذا وجد عملهم في آخرين فالكراهة حاصلة، واذكر قول الله تعالى: (( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا )) [محمد :10] وحذر شعيب قومه أن يصيبهم ما أصاب من قبله، فالحاصل أن الأمم لا بد أن يتعظ اللاحق بالسابق بناء على أن سنة الله واحدة.
ومن فوائد الآية الكريمة: انتفاء إرادة الله الظلم لعباده (( وما الله يريد ظلما للعباد )) ومعلوم أنها إذا انتفت الإرادة انتفى الفعل، فنفي إرادة الظلم نفي للظلم من باب أولى، كما أنه جاءت آيات صريحة في نفي الظلم عن الله عز وجل .
ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات اتصاف الله سبحانه وتعالى بالنفي، أي: أن الله يتصف بالصفات المنفية التي يعبر عنها بعض العلماء بالصفات السلبية لأن النفي سلب.
ولكن إذا قال قائل: هل في النفي ثناء ومدح ؟ مع أن الله عز وجل يقول: (( ولله المثل الأعلى )) فصفات الله تعالى كلها صفات كمال، والنفي عدم، فهل يكون مدحا وثناء ؟
الجواب نقول: أما بالنسبة لغير الله عز وجل فإنه لا يدل على الكمال ولا على المدح، أما بالنسبة لله فيتعين أن يكون دالا على الكمال لقوله تعالى: (( ولله المثل الأعلى )) فكل نفي نفاه الله عن نفسه فإنه متضمن للكمال، دليلنا هذه الآية: (( ولله المثل الأعلى )).
وإلا فالنفي المجرد لا يدل على الكمال إطلاقا، بل أحيانا يدل على النقص، فقول الشاعر مثلا:
قبيلة لا يغدرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل
وصفهم بأنهم لا يغدرون بالعهد، وأنهم لا يظلمون، وهذا في ظاهره مدح، لكنه في الواقع ذم، يذمهم بأنهم ناس جبناء وضعفاء، لا يغدرون لأنهم لا يستطيعون لجبنهم، ولا يظلمون لا يستطيعون لضعفهم، وكذلك قول الشاعر الآخر:
لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
يعني أنهم ليس لهم شر إطلاقا ولو هان.
يجزون بالظلم أهل الظلم مغفرة ومن إساءة أهل السوء إحسانا
ثم قال:
فليت لي بهم قوما إذا ركبوا شنوا الإغارة فرسانا وركبانا
هنا يذمهم مع أنهم إذا ظلموا غفروا لمن ظلمهم، وإذا أسيء إليهم أحسنوا لمن أساء إليهم، وهذه صفة قد تبدوا مطلوبة محمودة لكن إذا كان السبب في ذلك أنهم ضعفاء صارت مذمومة.
والخلاصة الآن أنه لا يمكن أن يوجد في صفات الله تعالى نفي محض أبدا، الدليل قوله تعالى: (( ولله المثل الأعلى )) والنفي المحض ليس من المثل الأعلى في شيء، ولكن إذا نفى الله شيئا عن نفسه فالمراد إثبات كمال ضده، يعني أنه لثبوت كمال ضده انتفى عنه هذا الشيء.
فضد الظلم العدل، إذن نثبت من نفي الظلم عن الله نثبت إثبات كمال عدله، وأنه جل وعلا لعدله لا يظلم، لا لعجزه، لأنه قادر على أن يظلم، لكنه لا يظلم لكمال عدله، ولهذا جاء في الحديث الصحيح القدسي: ( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفس ) لم يقل: يا عبادي إني لا أستطيع أن أظلم، قال: ( إني حرمت الظلم على نفسي ) وهذا يدل على أنه قادر على أن يظلم لكنه لا يظلم لكمال عدله، ولو كان غير قادر على أن يظلم لم يكن انتفاء الظلم عنه مدحا لأنه عاجز، لكنه قادر ولكنه لا يظلم.
أقول هذا لأن الجهمية وغيرهم قالوا: إن الله لا يستطيع أن يظلم أبدا، وإلى هذا أشار ابن القيم في النونية حين قال: " والظلم عندهم المحال لذاته ".
يعني أنه مستحيل لذاته، لا لكمال الله لكن لذاته، لا يمكن أن يظلم. قال: لأن الظلم أن يتصرف الإنسان في ملك غيره، والله عز وجل يتصرف في ملكه، فإذا ظلم لم يكن ظالما لأن هذا ملكه، فيقال: تبا لعقولكم الفاسدة، إذا وعد المؤمن بشيء على عمل معين، وعمل هذا العمل ولم يعطه إياه ماذا يكون ؟ يكون ظلما ولا شك في هذا، وأنتم تقولون: يجوز أن يثيب العاصي الذي يعصي الله كل عمره، ويعاقب المطيع الذي يعمل بطاعة الله كل عمره، وأن الأمرين على حد سواء، لأنه لا يظلم حيث إنه يتصرف في ملكه، فنقول: هذا لا شك أنه سفه في العقل وضلال في الدين، والله عز وجل وعد العامل عملا صالحا بالثواب، والمخالف بالعقاب، كيف يجوز أن يخلف الله وعده، المهم على كل حال هذا قول باطل ولا شك في بطلانه، ومجرد تصوره يعرف الإنسان أنه باطل.
فقوله تعالى: (( وما الله يريد ظلما للعباد )) نقول نفي إرادة الظلم يستلزم كمال عدله، وهو أيضا يستلزم نفي الظلم لأن من لا يريد الظلم لا يمكن أن يفعل الظلم.