تفسير قوله تعالى : (( من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب )) . حفظ
ثم قال: (( من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالح من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب )) هذا كالبيان لحال الآخرة وكيف يجازى الناس فيها، فقال: (( من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها )) من: شرطية، وعمل: فعل الشرط، وجملة فلا يجزى إلى مثلها: هذه جواب الشرط، وقوله: (( فلا يجزى إلا مثلها )) مثل مفعول يجزى الثاني، والمفعول الأول هو نائب الفاعل المستتر، يقول: (( من عمل سيئة )) السيئة هي ما يسوء حالا أو مآلا، فما أصاب الإنسان من مرض أو فقر أو عاهة أو ما أشبه ذلك هذا سوء لكنه في الحال، وما أصاب الإنسان من عقوبة على أعماله فهذا سوء ولكنه في المآل، وقد يكون في الحال قد يعاجل الإنسان بالعقوبة، فالسيئة كل ما يسوء حالا أو مآلا، طيب.
(( فلا يجزى إلا مثلها )) السيئة بواحدة مهما كانت حتى وإن كان الإنسان في مكة أو في المدينة أو في المسجد أو في أي مكان، أو في أي زمان أيضا، حتى ولو كان في الأشهر الحرم التي نص الله تعالى عن النهي عن الظلم فيها فقال : (( منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهم أنفسكم )) فإن السيئة لا تزاد، ولكن اعلموا أنها قد تكون أشد من حيث الكيفية لا من حيث الكمية، يعني أننا نرى أن ضربة واحدة قد تكون أشد على الإنسان من عشر ضربات لشدتها وشدة وقعها، ولهذا قال الله تعالى في الحرم المكي: (( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم )).
وبهذا التقرير الذي دل عليه الكتاب والسنة تبين أن ما يذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه خرج من مكة وقال: لا أبقى في بلد سيئاته وحسناته سواء، فإن هذا لا يصح عن ابن عباس رضي الله عنه، وابن عباس أفقه وأعلم من أن يلتبس عليه هذا الأمر، مع أن الله قال في سورة الأنعام وهي مكية: (( مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ )) [الأنعام :160]
قال: (( ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى )) من: هذه شرطية، وصالحا: يجوز أن نعربها صفة لموصوف محذوف، والتقدير: عمل صالح، ويجوز أن نجعلها مفعولا مطلقا، لأن وصف المصدر المحذوف يصح أن يقع الإعراب عليه على أنه مفعول مطلق أو على أنه صفة لموصوف محذوف، والتقدير عملا صالحا.
فما هو العمل الصالح ؟ العمل الصالح ما توافرت فيه شروط القبول، وذلك بأن يكون خالصا لله على شريعة الله، يعني يجمع بين أمرين:
الإخلاص لله والمتابعة لرسله عليهم الصلاة والسلام هذا العمل الصالح، إذا هو ما توافرت فيه شروط القبول وهما الإخلاص لله عز وجل، والثاني المتابعة لرسل الله سواء محمد أو غيره، لكن من المعلوم أنه بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم لا يصلح إتباع غيره طيب.
إذا فقد الإخلاص فليس العمل صالحا بل هو مردود على صاحبه لقوله تبارك وتعالى في الحديث القدسي: ( أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه ).
وإذا فقد في المتابعة لم يكن العمل صالحا وكان مردودا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد )).
وقوله: (( من ذكر أو أنثى )) بيان لـ من، فمن هنا بيانية، كيف نقول بيان لمن ؟ لأن ( من ) اسم موصول، واسم الموصول الأصل فيه الإبهام، فإذا وجد بعده بيان فإنه يكون مبينا لإبهامه.
(( من ذكر أو أنثى وهو مؤمن )) هذا الشرط لابد أن يكون مؤمنا، فإن لم يكن مؤمنا فإن عمله الصالح لا ينفعه، حتى وإن كان العمل مما يتعدى نفعه فإنه لا ينفعه، لقوله تعالى : (( وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله )) فغير المؤمن لا ينفعه عمله، لو أن رجلا كافرا أصلح الطرق، ومد أنابيب الماء يسقي الناس، وبنى المساجد، وطبع الكتب، وكسا العريان، وأطعم الجائع، فهل هذا ينفعه ؟ لا، ولهذا لا ينفع المنافقين عملهم لأنهم ليسوا مؤمنين، وبه نعرف أن الإيمان هو الأصل، آمن ثم اعمل.