تفسير قوله تعالى : (( قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين )) . حفظ
ثم قال الله تعالى: (( قل إنما أنا بشر مثلكم )) يعني فلست غريبًا عليكم لماذا تكفرون بي وأنا بشر مثلكم، لست جنِّيًّا فتنفروا منه ولا ملكًا فتنفروا منه وإنما أنا بشر مثلكم، والبشَر هم بنو آدم وسُمُّوا بشرًا، لظهور بشرتهم حيث بدَتْ أجسامهم عارِيَة غير مكسُوَّة وهذا من نعمة الله عز وجل علينا ومن رحمته جعل الله الإنسان عاريًا إلَّا بكسوة حتى يتذَكَّر أنه عارٍ من الإيمان إلا بكسوة ما هي كسوة الإيمان؟ التقوى، لقول الله تعالى: (( ولباس التقوى ذلك خير )) فالله جعلَنا نفتقِر إلى السَّتْر الحسي حتى نعلَمَ أننا مفتقرون أيض إلى الستر المعنوي، فأنت عارٍ من الإيمان إلا بلِباس التقوى، إذًا البشر من؟ بنو آدم سُمُّوا كذلك لظُهور بَشَرِهم عارِية لا غِطَاءَ عليها بخلاف الحيوان الأخرى فإنه مُغَطَّى إما بالوبر أو بالصوف أو بالشعر أو بالريش أو بغير ذلك، يقول: (( إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي )) (مثلُكم) هذه توكيد لمعنى البشرية وإلَّا لو اقتصر على (إنما أنا بشر) لكان مقتضى ذلك أن يكون مثلنا ولَّا مخالف؟ لكنه أكَّد هذا المعنى بقوله: (مثلكم) لكنَّه يمتاز (( يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد )) إلى آخره هذا هو الميزة والفرق أن محمدًا صلى الله عليه وسلم بشرٌ يوحى إليه، و(يوحى (الموحِي هو الله لقول الله تعالى: (( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا )) [الشورى:7] فالموحِي هو الله وحُذِف للعلم به، وربما يُقال حُذِف للعلم به وللتعميم لأنَّ الله تعالى قد يوحي إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل وقد يُوحي إليه بدون واسطة، والإيحاء هو الإعلام بسرعة وخفاء هذا الإيحاء الإعلام بسرعة وخفاء يسمى إيحاءً ولذلك إذا كان إلى جنبِك واحد وأردت أن تسأله والدرس مُكْتَظٌّ بالطلبة وخِفْت أن يُسمع إليك تقول .. سمع.. ولَّا لا؟ بخُفْية وسرعة لئلا يُتَفَطَّن لك، فكل إعلام بسرعة وخفية يسمى وحيًا وإنما كان كذلك لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يُوحَى إليه وعنده الناس جالسون لا يدرون ماذا قال الرسول، (( يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد )) هذه الجملة في محلِّ رفعٍ نائب فاعل أي: يوحى إلي هذا الخبَر (أنما إلهكم إله واحد ( و(أنما) أداة حصر فعلى هذا تكون الجملة متضمنة لنفيٍ وإثبات لأنَّ الحصر هو إثبات الحكم في المذكور ونفيُه عما سواه، والآن نتعرَّض لطرق الحصر أو لِبعضها: مِن طرق الحصر (إنما) أو (أنما) هي واحدة، والثاني: النفي والإثبات مثل (لا قائم إلا محمد)، والثالث: تقديم ما حقُّه التأخير مثل :(( لله ما في السماوات وما في الأرض ))، والرابع: دخولُ ضمير الفصل مثل أن تقول: زيدٌ هو الفاضِل فإنَّ ضمير الفصل تفيد الحصر هذه أربعة طرق وهي الأكثر دورانًا.
(( فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين )) استقيموا إليه أي اقصدوا ولهذا لم يقل: استقيموا له بل قال إليه فضمَّن (استقيموا) معنى اقصدوا إليه فتكون أبلَغ مِن (استقيموا له)، لأنَّ المستقيم للشيء قد يستقيم له وهو في مكانه دون أن يسعى إليه، أمَّا إذا قيل استقيموا إليه فتفيد السعي إلى الله عز وجل وقصْدَه فلهذا عُدِّيَت بـ(إلي) فهل هنا نابَ حرف عن حرف؟ أو إنَّ الحرف على معناه ولكن ضُمِّن الفعل ما يناسب الحرف؟ فيها قولان: قول أنَّ الاستعارة في الحرف، وقول أنَّ الاستعارة في المتعلَّق، عربي أو أعجمي كلامي الآن؟ عربي (( عينًا يشرب بها عباد الله )) (يشرب بها) هل العين يشرَب بها الإنسان؟ هل يشرب بها يعني هل النهر تأخذه مثلًا بيدك كذا وترفعه إلى فمك كما يكون الإناء؟ نعم تقول: شربت بالإنَاء واضح (عينًا يشرب بها عباد الله) العين تشال باليد ويُشرب بها؟ لا، طيب إذًا ماذا نقول؟ في هذا رأيان للعلماء أحدُهما أن الاستعارة في الحرف يعني أنَّ (الباء) بمعنى (مِن) يشرَب مِنها عبادُ الله والعين يُشرَب منها ولَّا لا؟ يُشرب منها باليد ولَّا بإناء ولَّا بأي وسيلة، القول الثاني: أن الاستعارة في الفعل أي أنَّ (يشرب) ضُمِّنَ فعلًا يناسب الباء فما الذي يناسب الباء هنا؟ يَرْوَى، يروى بها عباد الله يعني أنَّها عين تُروِي فأيُّهما أحسن؟ أيُّهما أحسنما أقول أيهما أسهل
الطالب: الثاني.
الشيخ : عدلت عن رأيك ولّا إلى الآن؟ ما فيها تصويت الآن حصل ما ترى، أمَّا إذا قلنا: إنَّ الباء بمعنى (مِن) فهي سهلة، لأنك تقدر أي حرف مناسب وينتهى الموضوع، لكن إذا قلنا إن الباء على بابها وأن الفعل ضُمِّن معنى يتناسب معها فحينئذ قد يصعب على الإنسان أن يُقدِّر الفعل المناسب لكن نقول: إن تضمِين الفعل معنًى مناسبًت للحرف أولى أُبَيِّن لكم ذلك إذا قلنا: (( يشرب بها عباد الله )) إن الباء بمعنى (مِن) فهل استفدنا فائدة لِاستعارة الباء بدل (مِن) استفدنا ولّا لا؟ ما استفدنا، إذًا إتيانه بهذا الحرف يوجب بعض الإشكال فنكون قد تضرَّرنا فضلًا عن كونِنا لم نستفِد، لأنَّ كونَك تضعُ حرفًا بدل حرف بدون مُوجِب هذا يُوجب التشويش والإيهام، لكن إذا ضمَّنَّا الفعل معنى يتناسب مع الحرف ازددْنا فائدة فإنَّ قولك إنَّ التقدير: يروى بها. يتضمن الشُّرْب الذي ذُكِر ويتضَمن الرِيّ فاستفدنا فائدة، وهذا الرأي -أعني أنَّ الفعل يُضَمَّن معنى يناسب الحرف- هو الذي ذهب إليه البِصْريون وأظنُّه اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لهذه الفائدة التي ذكرْنا، وانتهى الوقت، أنا أرجو دائما من الطلاب أن يفهموا الفروق الدقيقة هذه لأنَّ هذه تشحَذُ الذهن من وجه وتفتَح آفاقًا بعيدة لفهم المعاني وزيادة في الاستفادة انتبهوا لها